ترجمة حفصة جودة
عام 2014 عندما بدأت القنابل في السقوط على غزة، كانت ملك مطر في الـ13 من عمرها لكنها لم تكن حربها الأولى، بل كانت الثالثة، كانت الطائرات تطن فوق الرؤوس والأرض تهتز وتتصاعد أعمدة الدخان العملاقة إلى السماء لتشكل هدف “إسرائيل” الأخير، كان ما يحدث فوق طاقة تحمل ملك.
تقول ملك – 19 عامًا الآن -: “أردت أن أكون منشغلة عما يحدث، ففي الحرب أنت لا تعلم أبدًا هل ستبقى على قيد الحياة أم ستنتهي حياتك وتنظر لكل من حولك وتعلم أنه في لحظة واحدة قد تنتهي حياتهم، لذا كنت أبحث عما يلهيني”.
كانت ملك بحاجة إلى ملجأ داخلي من تلك الفوضى، فجعمت أوراق وألوان مائية وبدأت في تأسيس عمل فني من شأنه أن يصنع مسارًا لمستقبلها، رسمت ملك فتاة هادئة ومشرقة يرتفع جسدها عن الأرض وتفتح ذراعيها على مشهد للأنقاض الصامتة، بينما تعلو الشمس في الأفق كبيرة ومفعمة بالأمل.
قالت ملك في مقابلة معها في معرضها بواشنطن: “هذه اللوحة تظهر أن هناك شيئًا يحمينا تمثله تلك المرأة وهي فلسطين، تُظهر تلك اللوحة الأمل والإيمان بفلسطين وأنه مهما حدث فسوف تحمينا”.
نشرت ملك اللوحة على الإنترنت وكانت مندهشة من الدعم الذي تلقته، حيث تقول: “كان الناس من جميع أنحاء العالم بعيدًا عن فلسطين مهتمين باللوحة وبما يحدث في غزة، عندما وجدت هذا الاهتمام باللوحة وأن الرسالة التي وددت إيصالها للناس أصبحت مفهومة أدركت أهمية موهبتي وأن هذا ما أود أن أعمل عليه”.
اللوحة التي رسمتها ملك في أثناء القصف الإسرائيلي على غزة عام 2014
أصبحت ملك مهووسة بفنها عندما أدركت أن موهبتها قد تحكي قصة غزة، في البداية كانت تستخدم المواد التي توفرها مدرسة اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، لكنها بدأت منذ فترة في بيع عملها على الإنترنت وشراء اللوحات القماشية والألوان من متجر الفن الوحيد الذي تعرفه في غزة، وبعد عام عندما بلغت 14 عامًا افتتحت أول معرض لها في قطاع غزة.
تقول ملك: “كانت تجربة جيدة وسيئة، ما فعلته كان جديدًا على المشهد الفني في غزة، فقد كانت الألوان مشرقة ولم أتبع القواعد التي تعلمها الفنانون الآخرون في مدرسة الفنون في غزة، أخبروني ألا أقوم بهذا المزيج من الألوان وأن لا أتبع تلك التقنية وأنني بحاجة إلى الذهاب لمدرسة الفنون لأتعلم، لكن عملي الفني كان حرًا تمامًا، كانت الألوان والأشكال التي أستخدمها تعبر عني وتنبع من داخلي، وأعتقد أن تفردها هو ما جعل عملي مميزًا”.
نضجت أعمال ملك سريعًا وقبل أن تدرك ذلك كانت قد بدأت في شحن أعمالها لتُعرض في المعارض بجميع أنحاء العالم، لكن حياتها في قطاع غزة المحاصر خلقت أمامها عقبات فريدة من نوعها، فمواد الفن في غزة كانت غالية والأشياء التي تدخل القطاع محدودة للغاية.
تقول ملك: “في مرحلة ما، وضع الاحتلال الإسرائيلي قيودًا على اللوحات القماشية ومنع دخولها إلى غزة، ولمدة 3 أشهر لم يكن مسموحًا بدخولها، هذا جزء مما يفعله الاحتلال، فهو يحاول أن يخفي أو يضع قيودًا على من يستخدم فنه ليتحدث عن الحياة والمعاناة في غزة”.
رغم أنها 19 عامًا فقط، فإنها تظهر حقًا كفنانة محنكة، وعملها قوي ومدهش للغاية ويثير إعجاب الناس من جميع أنحاء العالم وليس الفلسطينيون فقط
عام 2017 تخرجت ملك من المدرسة الثانوية بدرجات مرتفعة وحصلت على منحة دراسية جزئية في إحدى جامعات إسطنبول.
معجزة فنية
خلال الخمس سنوات الماضية تطور عمل ملك وأصبح لها أسلوبها الخاص، وعرضت أعمالها في أكثر من 40 معرضًا فرديًا وجماعيًا في القدس وفرنسا وإسبانيا وكوستاريكا والهند وإنجلترا و11 ولاية أمريكية بالإضافة إلى معرض “الفن تحت الحصار” الذي أقيم في مجلس النواب الأمريكي عام 2017.
كما قام المتحف الفلسطيني في ولاية كونيتيكت الأمريكية برعاية معرض ملك في الولايات المتحدة الذي سيُفتتح هذا الصيف ووفر لها مساحة في المعرض وجلب نسخًا مصغرة من أعمالها إلى معرض القدس في واشنطن.
يقول فيصل صالح مدير المتحف: “إنها معجزة فنية، والناس معجبون بشدة بعملها الفني واتزانها، فرغم أنها 19 عامًا فقط، تظهر حقًا كفنانة محنكة، إن عملها قوي ومدهش للغاية ويثير إعجاب الناس من جميع أنحاء العالم وليس الفلسطينيون فقط”.
في يوم الثلاثاء الماضي وصلت ملك إلى واشنطن لعرض أعمالها والحديث مع رعاة فنها والفنانين الآخرين، توضح صورها الحياة في غزة، لكنها تبعث لنا شعورًا بالأمل يغلفه مسحة من الحزن.
بعض أعمال ملك المعروضة مؤقتًا في معرض القدس بواشنطن
منذ أن غادرت غزة قبل عامين لم تتوقف ملك عن صنع الصور التي تتحدث عن فلسطين وقالت إنها لن تتوقف عن ذلك أبدًا، تقول ملك: “لقد نشأت في جو وطني حقيقي، نحن نحب فلسطين وكل يوم نتحدث عنها ونغني لها وفي كل مرة نفعل ذلك يصبح ارتباطنا بها أكثر عمقًا، لذا رغم أنني غادرت فلسطين قبل عامين، فإنها لم تغادرني، إنها تعيش بداخلي وسيكون عملي عنها دائمًا”.
تصور معظم أعمال ملك النساء، حيث تقول وهي تضحك: “في كل مرة أحاول فيها رسم رجل فإنه يتحول إلى امرأة، جزء من سبب ذلك – بالنسبة لي – أن عيون المرأة تخبرك الكثير”، وتضيف: “كل ما تشعر به أمي يمكنك رؤيته في عينها، أما أبي فحتى لو كان يشعر بمليون شيء فإنه يستطيع إخفاءه، يمكن أن تشعر بالعاطفة في عيون النساء وبالنسبة لي فالعيون نافذة أي لوحة”، هذه المشاعر تظهر بقوة في أعمال ملك، فمعظم النساء اللاتي ترسمهن لهن عيون كبيرة على شكل لوزة وتحدق في المشاهدين وتمتلئ بالتعبيرات.
ورغم أن أعمالها تهتم بالحرب والاحتلال فإن لوحات ملك لم تصور أبدًا الموت والدم، إنها تفضل الأمل والسلام الذي تشير إليه الحمامة البيضاء التي تظهر في أعمالها، تقول ملك: “لا يمكنك أن تخبر أحدهم كيف يشعر، يجب أن يشعر به وحده من خلال ما تفعله، هذا هو هدفي ومهمتي، أن أجعل الناس يشعرون بما يشعر به الناس في غزة ويعيشونه وأن يشعروا بالأمل وسط ذلك”.
المصدر: ميدل إيست آي