توالت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان منذ بداية أغسطس حول نية تركيا في بدء تدخل عسكري جديد في الأراضي السورية من خلال عملية أطلق عليها اسم “عملية شرق الفرات”، لتكون العملية الثالثة في الأراضي السورية منذ بدء التدخل التركي عام 2016. وتأتي هذه التدخلات ضمن محاولات تركيا حفظ مصالحها في سوريا، وأهمها “سحق التنظيمات الإرهابية التي تسعى لمحاصرة تركيا” حسب ما أتى الرئيس على ذكره مؤخرًا.
وتسيطر القوات التركية حاليًا على عدة أماكن مثل مدينة الباب ومدينة عفرين ومدينة جرابلس، وهي نفس المناطق التي قامت فيها عملية درع الفرات، وعملية غصن الزيتون في مدينة حلب والتي تنتشر فيها حاليًا المدارس والخدمات والأمن التركي. بالإضافة إلى وجود تهديدات من عدة جهات موجودة بالقرب من هذه المدن مثل منظمة “بي كا كا” و”ب ي د” و”ي ب ك” و”داعش” و”غولن”.
في الوقت الذي تظهر فيه ملامح تغييرات سلمية قد تطرأ على الملف الكردي بالنسبة لتركيا
بنفس الطريقة، تستعد تركيا لإنشاء منطقة آمنة جديدة في سوريا، سواء مع أو بدون الدعم الأمريكي لها، بهدف تأمين مناطق جديدة تسهل عودة السوريين إلى بلادهم وهو ما يتسق مع خطة تركيا في ملف اللاجئين، إضافة للتخلص أو التخفيف من التهديد الذي تشكله القوات الكردية هناك على الأمن القومي التركي. يأتي ذلك في الوقت الذي تظهر فيه ملامح تغييرات سلمية قد تطرأ على الملف الكردي بالنسبة لتركيا، خاصة مع الرسالة التي نقلها زعيم حزب “بي كا كا” المصنف إرهابيًا في تركيا، عبد الله اوجلان، أمس، مع محاميه.
جاء في الرسالة تأكيد أوجلان استعداده لحل الأزمة الكردية، شريطة أن تقوم الدولة التركية بما يجب عليها القيام به، مؤكداً أن “الإصرار على سياسيات الحرب، والتوتر الحاصل، سيؤديان إلى عواقب أشدّ خطورة”، موضحًا أن “الأكراد ليسوا بحاجة لدولةٍ أخرى، وإنما هم بحاجة لتأمين حقوقهم”. فكيف تبدو احتمالات وظروف الخطة التركية بخصوص المنطقة الآمنة في ظل المشهد المركب في سوريا؟
العلاقات الكردية التركية في الأراضي السورية
تمكّن الأكراد خلال سنوات النزاع في سوريا من بناء إدارتهم الخاصة والتمركز في عدة مدن تمتد من شمال إلى شمال شرق البلاد، لكن سيطرتهم أصبحت معرّضة للخطر حين قرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب في ديسمبر 2018 سحب القوات المدعومة من أمريكا وأوّلهم المقاتلين الأكراد، إذ شكلت هذه الخطوة تهديدًا على وجودهم بعد ما نجحوا بإخراج “تنظيم الدولة” من مدينتيّ الرقة ودير الزور بعد معارك عنيفة. إلا أن قرار ترمب وضعهم رهن التفاهمات بين روسيا.
وفي حال حصول الكرد على حكم ذاتي في سوريا من الممكن أن يكون إلهامًا لأكراد تركيا للمطالبة بالمثل وهو ما سعى إليه الحزب في بدايات 2019
أما من ناحية علاقتها مع تركيا فما زالت المناوشات بين الطرفين مستمرة حتى أنها ازدادت في عام 2019 إذ باتت الحكومة التركية تصنفهم كجماعات مسلحة تشكّل تهديدًا على حدودها إذ يوجد ما يقارب 450 كم من حدودها تحت سيطرة وحدات حماية الشعب التي تربطها علاقة وطيدة مع حزب العمال الكردستاني. و بالتحديد في منطقة شرق نهر الفرات التي تعتبرها تركيا خطًا أحمرًا لا يمكن تجاوزه وهو ما تسعى في عمليتها الجديدة للعمل عليه.
بالإضافة إلى أنه في حال حصول الكرد على حكم ذاتي في سوريا من الممكن أن يكون إلهامًا لأكراد تركيا للمطالبة بالمثل وهو ما سعى إليه الحزب الكردستاني في بدايات 2019 حين أقدم على إجراء مفاوضات رسمية مع دمشق من أجل سيطرة “لا مركزية” لم تسفر بنتائج حتى الآن ولم يوافق عليها النظام بشكل قاطع. لذلك تعتبر أنقرة وجود الحزب الكردي، حزب العمل الكردستاني أو الوجود الكردي بأكمله خطرًا سيفتح عليها أبواب يصعب إغلاقها.
حصة إيران المهددة بالزوال
يعتبر النفوذ (العسكري) الإيراني حاليًا هو الوجود الأكثر عرضًة للزوال نتيجًة لغياب أيّ قوات عسكرية لها في سوريا بالأخص في منطقة شرق نهر الفرات التي كانت تعتبر فرصته الوحيدة للسيطرة على جزء ما. إلا أنها من الممكن أن تعمل للتأثير على بعض من القيادات الكردية المقربة منها لصالح تقريب العلاقات بينهم وبين النظام السوري مما يصنع لها فرصًة للتواجد ضمن مخطط التحاصص المتفق عليه بشكل “غير مباشر” بين بلدان المنطقة. كما أنها ليست المرة الأولى التي تقوم بها إيران بالتوسط بين جهتين فقد فعلتها من قبل بين النظام السوري والأكراد بعد طرد عبد الله أوجلان من سوريا عام 1998.
كما قُدرت أرباح الشركة خلال 2008 بمليارين ومليوني ليرة سورية أيّ قرابة 40 مليون دولار
ولكن ما نراه في الجانب الآخر من محاولات إيران غير العسكرية هو تزايد وجودها الاقتصادي في سوريا من خلال تشغيل الأموال وتأسيس المشاريع وافتتاح مصانع الكهرباء والطاقة والمدارس الإيرانية وتوقيع عقود رسمية مع وزارات مختلفة تحت مسمى إعادة الإعمار والبناء الذي تتنافس هي وروسيا على مشاريعه. وقد وقعت طهران بالفعل خمس مذكرات تفاهم مع دمشق وطهران في ديسمبر 2017 يتضمن العديد من الاستثمارات السيادية على الطاقة والاتصالات والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية.
كما تم الاتفاق على تعاون في استثمار مشاريع للكهرباء بإنشاء محطات توليد ومناجم للفوسفات بخنيفيس في ريف حمص التي تُعتبر من أكبر حقول الفوسفات في العالم، إذ بلغ احتياطي سوريا من هذا المورد الهام وفق أرقام الشركة العامة للفوسفات والمناجم 1.8 مليار طن خام في 2009، كما قُدرت أرباح الشركة خلال 2008 بمليارين ومليوني ليرة سورية (قرابة 40 مليون دولار على سعر 50 ليرة للدولار). كما يشمل العقد الموقع اتفاقًا يسمح لإيران بالتنقيب عن الفوسفات واستخراجه واستثماره لمدة 50 عامًا؛ كما منحت دمشق إيران أيضاً حق الاستثمار في حقل زاهد لتربية الماشية وخمسة آلاف هكتار من الأراضي الزراعية.
إلا أنه ما زال أمامها الكثير من العقبات التي من الممكن أن تقف في طريقها نحو التقدم العسكري في سوريا بسبب رفض الولايات المتحدة الأمريكية لتوسعها في سوريا وهو بالطبع لصالح تركيا في نفس الوقت والذي يمكن لأمريكا تحقيقه من خلال صنع اتفاق مع روسيا ينتهي بإبعاد إيران عن الميدان السوري بشكل كامل.
السيناريوهات الأخيرة للمنطقة الآمنة
أفصح الرئيس التركي وعدد من السياسيين الأتراك خلال الأسابيع الماضية عن عملية عسكرية جديدة في منطقة شرق الفرات تعمل تركيا على التجهيز لها. بالإضافة إلى عقد الاتفاقات مع أمريكا بشأن إنشاء المنطقة الآمنة. وقد ظهرت ملامح المشاورات مؤخرًا في “اتفاق يقضي بإنشاء مركز عمليات مشتركة في تركيا خلال أقرب وقت، لتنسيق وإدارة إنشاء المنطقة الآمنة شمالي سوريا” حسب بيان أصدرته وزارة الدفاع التركية.
في الجانب الآخر فسيكون الطرف الكردي هو أكثر الجهات المعرضة لخطر الزوال من خلال تخلّي أمريكا والنظام السوري عنه
ولكن، يدفعنا هذا التصعيد للتساؤل حول الطريقة التي ستتعامل بها تركيا مع باقي دول المنطقة التي تتشابك مصالحها معهم في سوريا. إذ لا بدّ لتركيا من التنسيق مع الطرف الروسي لكي تضمن تفاهم موسكو بشأن إدلب ولا سيما بعد سيطرة هيئة الشام على معظم محافظة إدلب وريف حماة. والذي يمكن لروسيا أن تقابله بمحاولات فرض النظام داخل مشروع المنطقة الآمنة لتجعله جزءًا منها وهو ما يمكن للطرف الأمريكي أن يرفضه نظرًا للشكل الحالي للنظام السوري إلا في حال قيام النظام بتلميع صورته لما يحفظ ماء وجهه أمام المجتمع الدولي.
أما في الجانب الآخر فسيكون الطرف الكردي هو أكثر الجهات المعرضة لخطر الزوال من خلال تخلّي أمريكا والنظام السوري عنه وإعادة دمجه داخل صفوف الجيش السوري وهو ما سيضعفه مع مرور الوقت ويضمن للنظام قوة عسكرية جديدة تحت حماية روسيا وإشراف أمريكا.
ويمكن الاستدلال على هذا من بدء النظام السوري وحزب الاتحاد الديمقراطي مفاوضات برعاية روسية حول مصير المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد، التي تشكل وحدات حماية الأكراد مكونها الرئيسي. تسعى المفاوضات لحفاظ النظام على سيادته على الأراضي وعدم وجود أيّ احتمال لحصول الأكراد على أيّ شكل من أشكال الإدارة الذاتية. وهو ما سيصب في صالح تركيا بطبيعة الحال بالإضافة إلى أنه سيجعلها الطرف الأكثر تأثيرًا في مشروع المنطقة الآمنة والذي يمكن أن يكلفها الكثير من الجهد والمال في سبيل حماية أمنها القومي.