تشكّل قضية استعادة الأموال المنهوبة والممتلكات غير الشرعية من عائلة الأسد المخلوع ورجال نظامه أولويةً قصوى بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، لما يمكن أن تشكّله من عماد اقتصادي لعملية إعادة إعمار سوريا وبنائها من جديد، في ظل الاقتصاد المنهار والأزمة المالية الضخمة التي تعصف بالبلاد.
تعتبر عمليات النهب التي انتهجها الأسد والمرتبطون به واحدة من أكبر عمليات السلب الممنهج والسرقة المنظمة التي شهدتها المنطقة في العصر الحديث، ففي تصريح لرئيس حكومة الإدارة الجديدة محمد البشير فإن حكومته لا تملك أي عملة أجنبية، وأن ما تبقى في الخزينة هو “الليرة السورية التي لا تساوي شيئاً”، وهو ما يطرح تساؤلات عن كيفية الاستنزاف المنظّم لكامل احتياطات الدولة من النقد الأجنبي والذهب من قبل النظام البائد.
حجم ثروة النظام البائد
على مدى نصف قرن ومنذ عهد الأسد الأب راكمت عائلة الأسد والمقربين منها ثروات مالية وعقارية ضخمة سُلبت من جيوب السوريين وثروات البلاد في جميع القطاعات الاقتصادية، ولاسيما قطاع النفط الذي كانت إدارة عمليات بيعه محاطة بسرية تامة وتتمّ عبر مكتب “تسويق النفط” المرتبط مباشرة بالقصر الجمهوري.
بعد اندلاع الثورة وخسارة قطاع النفط لصالح ميليشيا “قسد”، حوّل النظام برموزه نشاط عمله نحو تجارة المخدرات وتهريب الكبتاغون محققًا ثروات وأرباحًا طائلة قدّرت ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار، مكّنتهم من زيادة ثرواتهم التي يصعب معرفة حجمها الحقيقي، ليتم تهريبها لبنوك خارجية وتحويلها لأصول داخل دول حليفة لهم على رأسها إيران وروسيا والإمارات.
يقول توبي كادمان، المحامي الحقوقي المقيم في لندن مع “غورنيكا 37 إنترناشونال جاستيس تشامبرز”، والذي حقّق في أصول الأسد ضمن تحقيق نشرته صحيفة وول ستريت جورنال: “كانت العائلة الحاكمة خبيرة في العنف الإجرامي بنفس قدر خبرتها في الجرائم المالية”.
مؤخراً وتحديدًا في كانون الأول/ ديسمبر الفائت، قالت صحيفة “آي بايبر” البريطانية، إن الأسد وأقاربه يملكون 55 مليون جنيه إسترليني (66 مليون يورو) في حساب ببنك “إتش إس بي سي” في لندن، مضيفًا أن سياسيين بريطانيين من بينهم النائب المحافظ “لاين دونكان” طلبوا من الحكومة التحرك حتى يتم استخدام هذه الأموال التي جمعتها عائلة الأسد بطريقة غير مشروعة لإعادة إعمار سوريا.
فيما يشير تقرير حديث لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، أن نظام الأسد نقل 250 مليون دولار على متن طائرات إلى روسيا خلال عامي 2018 و2019.
في عام 2018 نقل أوراقًا مالية تزن حوالي طنين من فئتي 100 دولار و500 يورو، عبر مطار فنوكوفو في العاصمة موسكو، لإيداعها في بنوك روسية خاضعة للعقوبات، وفي أيار/مايو من العام 2019 نقل 10 ملايين دولار من فئة 100 دولار، عبر طائرة في موسكو مرسلة باسم البنك المركزي السوري، وفي فبراير من العام نفسه، وصلت طائرة تحمل 20 مليون من فئة 500 يورو.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أميركيين سابقين ومحامين ومنظمات بحثية حققت في ثروات الأسرة الحاكمة السابقة، قولهم: إن عائلة الأسد أسست شبكة واسعة من الاستثمارات الخارجية والمصالح التجارية، التي تضمنت عقارات فاخرة في روسيا، وفنادق راقية في فيينا، وطائرة خاصة في دبي.
حسب تقرير The Week، فإن عائلة الأسد مارست أنشطة إجرامية تشمل التهريب وتجارة الأسلحة والمخدرات وعمليات الابتزاز والحماية، وكان يتم غسل المبالغ الضخمة من الأموال المكتسبة من خلال هذه الأعمال غير المشروعة، عبر شركات شرعية وكيانات غير ربحية تديرها في البلاد.
فيما قدّرن وزارة الخارجية الأميركية في 2022، أن صافي ثروة عائلة الأسد يتراوح بين مليار إلى ملياري دولار تم الحصول عليها غالبًا من خلال احتكارات الدولة والاتجار بالمخدرات، خاصة الأمفيتامين والكبتاغون، وإعادة استثمارها جزئيًا في ولايات قضائية خارج نطاق القانون الدولي، مضيفة أن هذه الثروة موجودة ضمن أصول مخفية في حسابات ومحافظ عقارية وشركات خارجية.
من جهتها قدّرت الاستخبارات البريطانية MI6 أن ثروة الأسد تصل إلى 200 طن من الذهب، و16 مليار دولار، و5 مليارات يورو، أي ما يساوي ميزانية سوريا لسبع سنوات، وفق بيانات عام 2023.
عقارات في روسيا والإمارات
بعيد هروب الأسد من سوريا إلى موسكو، قالت صحيفة” التايمز “البريطانية، إنه من المرجح أن يقيم الأسد في منطقة موسكو سيتي، وهي منطقة أعمال فاخرة تقع غرب العاصمة الروسية، حيث تمتلك عائلته حوالي 20 شقة.
تقرير الصحيفة لم يكن مستغرباً، بل كان متوقعاً بحكم الإمداد العسكري الروسي اللامحدود لنظام الأسد خلال سنوات الحرب السورية، فيما كانت صحيفة “فاينانشال تايمز” قد نشرت تقريرًا قبل خمس سنوات عن عقارات اشتراها النظام البائد، قبل وقت قصير من دخول روسيا الحرب إلى جانب الأسد في سبتمبر/أيلول 2015، ما يعني أن العائلة نجحت في تأمين ممتلكاتها في موسكو بينما كانت سوريا تغرق في الفساد والفقر.
بالمقابل كشف موقع منظمة global witness عن شراء عائلة مخلوف ابن خال بشار الأسد عقارات في روسيا تقدر قيمتها بـ 40 مليون دولار أميركي على الأقل في مجمع “مدينة العواصم”، وهو ناطحة سحاب ذات برجين في موسكو، وتمّ شراء العقارات على مراحل مختلفة بين ديسمبر/كانون الأول 2013 ويونيو/حزيران 2019، أي في ذروة انهيار الاقتصاد السوري.
ولم تكن موسكو هي وجهة النظام البائد وحاشيته، بل تعتبر دولة الإمارات وجهتهم أيضًا، مستغلين القانون الإماراتي الذي يسمح بالاستثمار الأجنبي فيها دون البحث عن أصول الأموال التي تم إدخالها إلى مصارفها.
يشير تحقيق استقصائي إلى أن عائلة الأسد ورجال نظامه بمن فيهم: ابنا خاله رامي وإيهاب مخلوف، ورجلا الأعمال الأخوان سامر وعامر فوز، ورانيا الدباس زوجة رجل الأعمال السوري محمد حمشو، المقرب من ماهر الأسد وآخرون، عملوا على تبييض أموالهم من خلال استثمارات في قطاع العقارات والبناء تجنبًا للعقوبات الأميركية والأوروبية، ولاعتبار أن التملك في العقار يبقى مضمونًا ومحافظًا على سعره، وغير مربوط بالعقوبات كما حال وضع الأموال في البنوك، وهذا التوجه ساعدهم لكي يتملكوا عقارات في أبو ظبي، وتوظيف أموالهم المنقولة من سوريا بهذه التجارة المربحة وغير الخطرة.
يملك رامي مخلوف ثلاثة عقارات في مشروع نخلة جميرا، من بينها فيلا فاخرة بقيمة تقديرية نحو 8 ملايين دولار أميركي، كما يملك في منطقة جزيرة النخلة شقة سكنية ضمن بناء “AL DABAS” بقيمة تقديرية تبلغ 1.5 مليون دولار أميركي وشقة أخرى ضمن بناء “ABU KEIBAL” في جزيرة النخلة، وتقدر قيمتها بنحو مليون دولار أميركي، أما شقيقه إيهاب تملّك فيلا فاخرة في مشروع جزيرة النخلة بقيمة تقديرية تبلغ 8 ملايين دولار أميركي.
فيما كان سامر فوز، وهو رجل أعمال سوري نشط خلال الحرب السورية، وورد اسمه على لوائح العقوبات الأميركية والأوروبية، متحكماً ومسيطراً على ثلاثة أصول عقارية في دبي، من ضمنها وحدتان في برج بلاتينيوم في منطقة الثنية الخامسة.
معارك قانونية وسياسية
المتفق عليه أن العمل يجب أن يصبّ نحو الضغط لإصدار أوامر دولية بتجميد الأصول ثم فرض استردادها، وهذه العملية تعتمد على قوانين الدول التي توجد فيها هذه الأصول، سواء كانت أموالاً منقولة أو غير منقولة، أما عملية استرداد الأموال المنهوبة، فتعتمد على وجود التنسيق والتفاهم بين الدولة التي حجزت الأموال وسوريا المعنية باستعادة تلك الأصول المجمّدة.
ويمكن اللجوء لرفع الدعاوى أمام المحاكم الوطنية في الدول التي تستضيف هذه الأموال المهربة، أو اللجوء إلى المحاكم الدولية، لا سيما إذا ارتبطت هذه الجرائم بانتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم حرب.
كما يمكن اللجوء لإجراءات قانونية دولية ومحلية، مثل تقديم طلبات المساعدة القانونية المتبادلة (MLATs) إلى الدول التي تحتفظ بهذه الأموال، وهو إجراء فعّال لاسترداد الأصول المهربة، واستخدام قوانين محلية مثل قوانين حجز ومصادرة الأصول في الدول المستقبلة للأموال، كذلك يمكن العمل مع البنوك والمؤسسات المالية لتجميد الأصول المهربة والتحقيق في حركة الأموال عبر الحدود”.
لكن يبدو أن حصر الأموال والعقارات المنهوبة من آل الأسد وأزلامه المرتبطين به معقد للغاية، في ظل تعقيد الشبكات المالية من الشركات الوهمية والصناديق الائتمانية والحسابات السرية في ملاذات ضريبية كدبي وسويسرا، والتي تستخدم لإخفاء الثروات، ويحتاج هذا الحصر لوقت طويل ليس في صالح السوريين، إلا أنه ليس مستحيلاً.
حسب ويليام بوردون، المحامي المتخصص في حقوق الإنسان والذي نجح في تجميد أصول تعود للعائلة في فرنسا بقيمة 90 مليون يورو، فإن “الأموال في ملاذات ضريبية مثل دبي وروسيا ستكون أصعب بكثير لاستعادتها. إن تعقب الأصول يتطلب قرارات محاكم دولية وتعاونًا قانونيًا قد يستغرق سنوات”.
ويؤكد قول المحامي تقريرٌ لموقع Finance Monthly، أشار إلى أن عائلة الأسد نهبت ما بين 60 و122 مليار دولار وهي حصيلة شبكة فساد معقدة تشمل شركات وهمية وصناديق ائتمانية، وحسابات مصرفية مخفية في الشرق الأوسط وأوروبا صُمّمت بذكاء لإخفاء الأصول الحقيقة والثروات المرتبطة بالعائلة.
بالمقابل فقد صادرت السلطات الإسبانية والفرنسية 740 مليون دولار، أمّا سويسرا فقد جمّدت 50 مليون فرنك سويسري، قبل أن تتبعها بريطانيا التي جمّدت 163 مليون جنيه إسترليني في حساب الأسد، دون أن تعاد كل تلك الأموال المُصادَرة والمجمدة إلى خزانة الدولة السورية.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير المستشار الاقتصادي أسامة القاضي، إلى أن عمليات استرداد الأموال المنهوبة من الدول معقدة وغير مبشّرة، إذ تشير الأبحاث إلى أن 5 إلى 10 في المئة فقط من الأصول المنهوبة عادة ما يعود إلى الدولة التي نُهبت منها، فيما تستغرق العملية من 15 إلى 25 عامًا في حال سلوك المسالك القانونية.
وينوّه القاضي إلى أن العملية لو تمّت عبر طرق سياسية ودبلوماسية فذلك أنجع وأقصر مدة من القانون الدولي ذي التكلفة الكبيرة والإنتاجية الضعيفة رغم أهميته، لكن الطرق السياسية مرتبطة بوجود دولة لها وزن وتتعامل معها الدول بشكل جيد وتستطيع بذلك تسلّمَ الأصول الثابتة والأرقام والمبالغ منها بدقة.
ويبدو أن ثقل الأموال المنهوبة موجود بموسكو -حسب القاضي- أنه لا مانع من إجراء صفقة سياسية معها لاستعادة هذه الأموال الضخمة بشكل عاجل والتي يمكن أن يُستفاد منها في عمليات الإعمار ومشاريع التنمية وتحسين البنية التحتية وغيرها من المشاريع التي يحتاجها السوريون الآن.
ومؤخرًا كان خبراء في بريطانيا دعوا إلى تسليم الأصول المجمدة والممتلكات الخاصة بالرئيس المخلوع بشار الأسد في أحد بنوك لندن إلى الحكومة المعترف بها في سوريا، مشددين على ضرورة استخدامها لإعادة بناء سوريا ومصلحة الشعب السوري.
مطاردة صعبة
تمثل قضية استرجاع الأموال المسروقة من “رفعت الأسد” عم الرئيس المخلوع مثالاً حيّاً وحافزًا لإمكانية المضي في عملية المطالبة باستعادة الأموال المنهوبة من الأسرة الحاكمة والمرتبطين بها رغم طول مدتها وعدم تحصيل كل الأموال المنهوبة، إذ قامت جمعية “شيربا” الفرنسية، المتخصصة بمحاربة الفساد في عام 2013 بتقديم شكوى جنائية أمام القضاء الفرنسي، تتّهمه فيها بنهب المال السوري العام، وتبييض الأموال المنهوبة في إطار عصابة للجريمة المُنظّمة.
وعلى إثر تحقيقات امتدت لسنوات، أصدر القضاء الفرنسي في عام 2022 حكماً بالسجن أربع سنوات على رفعت الأسد، إلى جانب مصادرة أصول عقارية تُقدر قيمتها بـ90 مليون يورو، حصل عليها بطرق غير مشروعة.
تقدّر قيمة ممتلكاته العقارية في فرنسا بنحو 100 مليون يورو، أمّا في إسبانيا فمن المرجح أنها تجاوزت 800 مليون يورو مع الارتفاع المستمر في قيمة العقارات الفاخرة في كلا البلدين، فيما قُدّرَت قيمة بيت لندن قبل خمس سنوات بنحو 28 مليون يورو.
يشير تحقيق مطول لموقع “الجمهورية نت”، نقلاً عن المحامية “شانيز مونسو” من جمعية شيربا، إلى أن من استراتيجيات استعادة الأموال المحجوزة هي إنشاء جمعية تُعنى بإعادة بناء البنى التحتية في سوريا مثلاً عبر الوكالة الفرنسية للتنمية.
كما أن هناك أيضاً إمكانية إيداع الأموال في صندوق دعم تابع لمنظمة بوتا (Bota Foundation) التي تعنى بالأموال المنهوبة من الدول، ومن ثم تقديمها عبر مشاريع تُقيمها المنظمة في سوريا عبر مهماتها على الأرض، وخاصة فيما يتعلق بالطفولة.
إضافة إلى خيار ثالث وهو تقديم الأموال إلى صندوق النقد الدولي، الذي يمكنه تقسيم أموال رفعت إلى عدد من القروض الصغيرة التي تُقدَّم إلى سوريا لدعم بنيتها التحتية وتحسين أنشطتها الاقتصادية.
النتائج المحدودة وطويلة الأمد في استعادة مسروقات رفعت الأسد شابهها حادثة تعقب المليارات المخبأة من قبل معمر القذافي والتي تعرضت لتحديات كبيرة أيضاً، فمن أصل أصول تقدر بـ 54 مليار دولار جمعتها الحكومة الليبية السابقة، لم يتم استرداد سوى عدد قليل منها، بما في ذلك عقار في لندن قيمته 12 مليون دولار ومبلغ 100 مليون دولار نقداً في مالطا.
وفق المستشار القاضي، فإن هناك دولًا استطاعت تحصيل 40 في المئة من أموالها المنهوبة لكن بعد 30 عامًا كنيجيريا بعد تجميد أصول رئيسها السابق ساني أباتشا، أما مصر فاستطاعت استعادة مليار ونصف فقط من أصل 70 مليار بعد عشر سنوات.ختامًا.. يبدو أن سوريا أمام معركة طويلة الأمد لاسترجاع الثروات الضخمة المنهوبة من عائلة الأسد المخلوع ورجاله بعد أن حولوا موارد البلاد لمرتع لهم وتركوها أمام مستقبل بائس، ومتاهة قوانين الدول واشتراطاتها السياسية، والتي لا بدّ أنها ستحمل مساومات فيما لو قررت الإفراج عن أموال السوريين المنهوبة مستقبلاً.