في خطوة جديدة أثارت جدلًا واسعًا بين الفلسطينيين، ومن المتوقع أن تمتد تداعياتها إلى أنحاء الشرق الأوسط، طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رؤيته للتعامل مع الأزمة في قطاع غزة، داعيًا مصر والأردن إلى استضافة الفلسطينيين، مشيرًا إلى إمكانية “إخلاء” القطاع بالكامل وإعادة البناء بشكل لا يلتزم بحدوده الجغرافية الحالية، ما يعكس توجهات قديمة متجددة تتعلق بسياسات التهجير القسري أو المموَّه تحت غطاء “الحلول الإنسانية”.
تأتي تصريحات ترامب في سياقِ سجلٍ حافلٍ بمواقفه المنحازة إلى الاحتلال، والتي تجاوزت حقوق الشعب الفلسطيني تجاوزًا صارخًا، متبنيةً أطروحات اليمين الصهيوني المتطرف، التي تعكس مساعي تكريس الاستيطان وحسم الصراع مع الفلسطينيين على حساب تطلعاتهم الوطنية، ما يعزِّز مخاوف إعادة إحياء مشاريع التهجير والتوطين التي أسقطها صمود الفلسطينيين عبر العقود.
إعادة إنتاج التهجير بحجة الحلول الإنسانية وبالونات الاختبار
قال ترامب، في حديثه مع الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية “إير فورس وان”، إن قطاع غزة يواجه وضعًا كارثيًّا يتطلب تدخلًا جذريًّا، ووصفه بـ”موقع للدمار”، وأن الحل الأمثل قد يكون إخلاءه بالكامل، وإمكانية بناء مساكن جديدة للاجئين الفلسطينيين، وأن تستقبلهم دول عربية مجاورة كالأردن ومصر. ولفت إلى أن الوضع قد يكون مؤقتًا أو طويل الأمد، وفق صحيفتَي “نيويورك تايمز” و”الجارديان”.
وفي إطار تأكيد جدية استراتيجيته، أعلن ترامب إجراءه مكالمة هاتفية مع ملك الأردن عبد الله الثاني، وأنه أشاد بدور المملكة في استضافة اللاجئين الفلسطينيين ودمجهم في المجتمع الأردني، آملًا أن تستقبل المزيد، مشيرًا إلى أن غزة تعيش “فوضى حقيقية” تتطلب تدخلًا عربيًّا ودوليًّا عاجلًا.
يبدو أن الأردن، الذي يستضيف بالفعل أكثر من 2.39 مليون لاجئ فلسطيني مسجل وفقًا للأمم المتحدة، محورٌ رئيسيٌّ في رؤية ترامب لإعادة ترتيب المنطقة وإنهاء ملف غزة. إلا أن تصريحاته لم تقتصر على الأردن فحسب، بل أوضح أنه يخطط للتواصل مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لمناقشة إمكانية استضافة مصر مزيدًا من الفلسطينيين، وأن التعاون مع الدول العربية قد يكون المفتاح لتوفير مساكن آمنة تتيح لهم العيش بكرامة وسلام، وفق تعبيره.
ليست هذه التصريحات الأولى من نوعها، إذ سبقتها تقارير إعلامية كشفت مقترحات مشابهة. قبيل تنصيبه رئيسًا، حيث أفادت “إن بي سي” الأمريكية بأن إدارة ترامب تدرس نقل سكان غزة إلى خارج القطاع ضمن إطار إعادة الإعمار، واقتراح إندونيسيا واحدةً من الدول التي قد تستضيفهم مؤقتًا.
وفي حملته الانتخابية، أشار إلى أنه يمكن أن تصبح غزة “أفضل من موناكو” إذا “بُنِيَت بالطريقة الصحيحة”. اتسقت تصريحاته مع اقتراح صهره ومستشاره السابق جاريد كوشنر في فبراير/شباط الماضي بإخلاء المدنيين من غزة لفسح المجال أمام مشاريع استثمارية عقارية على شواطئها، ما يعكس انحيازًا واضحًا إلى رؤية استثمارية بحتة لا تتجاهل الحقوق الفلسطينية الأساسية فحسب، بل قائمة على فكرة البناء على أنقاضه.
تضع هذه التصريحات غزةَ مجدَّدًا في قلب رؤية ترامب المثيرة للجدل حول القضية الفلسطينية. إلا أن هذا الطرح يتجاوز الحدود الإنسانية ليصل إلى إعادة إنتاج مموَّهة لمشاريع تهجير الفلسطينيين، خصوصًا مع طرح فكرة “تطهير” القطاع من سكانه بما يتماشى مع محاولات إسرائيلية سابقة لإفراغ المناطق الفلسطينية من سكانها الأصليين تحت ذرائع أمنية أو اقتصادية، كانت ذروتها عبر حرب الإبادة.
على مدار شهور الحرب، اصطدمت هذه المحاولات دائمًا بصمود أهالي القطاع، وخصوصًا في شماليِّه، فأفشل السكان مخططات الاحتلال السابقة لتهجيرهم بالقوة، وضربوا مثالًا في التمسك بأرضهم وحقوقهم رغم التحديات.
من المهم الإشارة إلى أن تجربة ترامب السابقة في إدارة الملفات الدولية، وخاصة القضية الفلسطينية، تُظهر اعتمادًا على استراتيجية إطلاق “بالونات اختبار” عبر تصريحات متفرقة وأفكار أولية لقياس ردود الأفعال المحلية والدولية، ثم تُدمج الأفكار ضمن رؤية شاملة، كما حدث في “صفقة القرن“.
تبدو التصريحات الحالية جزءًا من نهج مشابه، إذ يُمهِّد ترامب الأرضية لما يمكن تعريفه بـ”صفقة القرن 2″، التي يُحتمل أن تكون أكثر تطرفًا وإضرارًا بالحقوق الفلسطينية مقارنةً بالأولى.
الهجرة الطوعية: مشروع الصهيونية الدينية بين التاريخ والراهن
تُعيد تصريحات ترامب إلى الواجهة مشروعَ “الترانسفير” الصهيوني. وتاريخيًّا، لم تكن الفكرة وليدة اللحظة، بل تمتد إلى بدايات الحركة الصهيونية. فقد طرح تيودور هرتسل فكرة تبادل السكان بين العرب واليهود داخل الإمبراطورية العثمانية كجزء من رؤيته لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
ومع توسع المشروع الصهيوني، تطورت فكرة الترانسفير لتأخذ أبعادًا أكثر وضوحًا. بعد احتلال 1967، ظهرت أحزاب وحركات سياسية إسرائيلية تتبنى النهج علنًا. منها حزب “موليدت”، الذي أسسه رحبعام زئيفي في الثمانينيات واختار الحرف العبري “ط” رمزًا لحزبه إشارةً إلى الحرف الأول من كلمة “ترانسفير” العبرية، ودعا إلى ترحيل العرب من “أرض إسرائيل”.
ولعبت حركة “كاخ” -أسسها الحاخام مئير كهانا- دورًا محوريًّا في الدعوة إلى تهجير العرب قسريًّا. وعلى الرغم من حظر الحركة لاحقًا، ظلت أفكارها حجر الأساس لأيديولوجيا أحزاب الصهيونية الدينية المعاصرة.
في السياق تأتي خطة وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش لـ”حسم الصراع“، إذ يقترح تقديم حوافز مادية وتحفيزات دولية لتشجيع الفلسطينيين على مغادرة الأراضي المحتلة، وخلق آليات للهجرة “الطوعية”، تشمل اتفاقيات مع دول عربية وأخرى في أوروبا وأمريكا اللاتينية لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين.
وحسب رؤيته، يجب أن تكون الهجرة منظمة ومؤطرة باتفاقيات دولية تتيح للفلسطينيين الانتقال بسهولة وبكرامة، مع استعداد “إسرائيل” لدعم هذا المشروع ماليًّا ودبلوماسيًّا.
في خلال حرب الإبادة في ديسمبر/كانون الأول 2023، صرح سموتريتش بضرورة تشجيع الهجرة الطوعية لسكان قطاع غزة. في مقابلة مع القناة 12 الإسرائيلية، أكد ضرورة إيجاد دول مستعدة لاستقبال سكانه.
وفي فعالية لمجلس “يشع” الاستيطاني في نوفمبر/كانون الثاني 2024، قال إن “احتلال القطاع وتشجيع الهجرة الطوعية” فرصة تاريخية لتحقيق الاستقرار لـ”إسرائيل”. ومنذ وصول الإدارة الجديدة إلى البيت الأبيض، أوضح أنها فرصة “فريدة” لتحقيق هذا الهدف، وأن التعاون معها يمكن أن يساهم في تقليص عدد سكان غزة إلى النصف في عامين.
ودعا وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير في فبراير/شباط 2024 إلى تشجيع الهجرة الطوعية عبر حوافز مالية لسكان غزة، عادًّا الخطوة “مهمة أخلاقية”، وأن القطاع أصبح “معقلًا للإرهاب”، داعيًا إلى إعادة احتلاله. وفي تصريح، قال إن بقاء الفلسطينيين في غزة سيؤدي إلى استمرار حالة الفوضى، وأن رحيلهم خطوة حتمية لتأمين “إسرائيل” ومنع الكوارث المستقبلية مثل هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تتقاطع رؤى ترامب وسموتريتش وبن غفير، وقد رحب الأخير بخطة ترامب لإخلاء غزة، وقال إنه “عندما يطرح رئيس أكبر قوة في العالم الهجرة الطوعية للفلسطينيين، فمن الحكمة أن تدعمها إسرائيل وتنفذها”، ووصف سموتريتش الفكرة بـ”العظيمة”، مؤكدًا عزمه العمل مع نتنياهو لضمان تنفيذها.
رفض فلسطيني فصائليًّا وشعبيًّا
أكدت الفصائل الفلسطينية رفضها القاطع لتصريحات ترامب المتعلقة بتهجير سكان غزة، ووصفتها بأنها امتداد لمشاريع الترانسفير الصهيونية التي فشل الاحتلال في تحقيقها بالقوة العسكرية والقصف الممنهج، فالشعب الفلسطيني، الذي أسقط محاولات التهجير القسري في الماضي، لن يخضع لأية محاولات تهجير جديدة مهما كانت الظروف.
أكد الناطق باسم حركة حماس، حازم قاسم، أن تصريحات ترامب “تتوافق مع مخططات اليمين الصهيوني المتطرف”، وأنها “لن تمر ولن يقبل بها أي فلسطيني”. وقال القيادي في الحركة، سامي أبو زهري: “الشعب الفلسطيني واجه الموت ليبقى في وطنه، ولا داعي لإهدار الوقت في مشاريع التهجير الفاشلة”.
وعدَّت حركة الجهاد الإسلامي التصريحات دعمًا لاستمرار جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، وامتدادًا لسياسة إنكار حقوق الفلسطينيين ووجودهم. داعيةً الدول العربية، وخاصةً مصر والأردن، إلى رفض هذه المخططات ومساندة الشعب الفلسطيني في إفشالها.
وأكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن التصريحات تكشف الوجه الحقيقي للإدارة الأمريكية، التي كانت دائمًا شريكًا في الجرائم الإسرائيلية، وأن الشعب الفلسطيني أسقط عبر تاريخه محاولات الاقتلاع والتهجير، ولن يسمح بتمرير أي مشروع يستهدف وجوده، وأن سكان غزة، الذين أعادوا بناء حياتهم فوق أنقاض بيوتهم، قادرون على التصدي لهذه المؤامرات.
وقال الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثي، “ما فشل الاحتلال في تحقيقه بالقصف والتطهير العرقي لن ينجح عبر الوسائل السياسية، وإن الفلسطينيين تعلموا من نكبة 1948 أن الصمود على الأرض شرط أساسي لبقائهم، وأن مشاريع التهجير لن تمر”.
وشددت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية في غزة على أن التصريحات تستدعي وحدة فلسطينية شاملة وسرعة العمل على بناء استراتيجية وطنية لمواجهة هذا المخطط الخطير، وضرورة التواصل مع الدول العربية والإسلامية لوضع خطة دعم سياسي ومادي لإفشاله، وخصوصًا لمشاريع إعمار غزة كخطوة رئيسية لتعزيز صمود سكانها.
على الأرض كانت الإرادة الشعبية الفلسطينية الحاضر الأبرز في مواجهة هذه المخططات، حيث أظهر سكان غزة صمودًا أسطوريًّا في وجه القصف والدمار رافضين التهجير القسري تحت النيران طوال شهور الإبادة. وكان مشهد تدفق عشرات آلاف النازحين من جنوبيِّ القطاع إلى شماليِّه للعودة إلى منازلهم المدمرة الرسالةَ الأوضحَ بأن الفلسطينيين لن يتخلوا عن أرضهم حتى لو بقيت أنقاضًا، ما يعكس حجم الإجماع الفلسطيني الرافض لمحاولات الاقتلاع والتهجير.
حسابات مصر والأردن: بين رفض التهجير وحماية الأمن القومي
في أعقاب تصريحات ترامب حول تهجير الفلسطينيين من القطاع، أصدر الأردن ومصر مواقف رسمية واضحة أكدت الرفض القاطع لأية حلول تتضمن تهجير الشعب الفلسطيني.
وصرّح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بأن “رفض تهجير الفلسطينيين هو موقف ثابت لا يتغير”، وأن أولوية الأردن “تثبيت الفلسطينيين على أرضهم”. وأكدت الخارجية المصرية أن حقوق الشعب الفلسطيني “غير قابلة للتصرف”، ورفضت المساس بها عبر الاستيطان أو الضم أو التهجير القسري، سواء كان مؤقتًا أو طويل الأجل، رفضًا قاطعًا.
يلعب الموقف الإقليمي، وخاصةً العربي، دورًا حاسمًا في دعم الموقف الفلسطيني الرافض لمخططات التهجير، فالدول العربية الأكثر تضررًا من أية موجات تهجير جديدة. وما تزال أزمة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الشتات قائمة بوصفها أحد أبرز التداعيات الكارثية لنكبة 1948. فيما يظل الرفض الفلسطيني لمحاولات التوطين الحاجزَ الأولَ أمام تمرير هذه المخططات.
بالنسبة للأردن ولمصر، تتجاوز القضية الانحيازَ للموقف الفلسطيني أو رفض تكرار مأساة النكبة، إلى مخاوف عميقة تتعلق بأمنهما القومي واستقرارهما الداخلي. في الأردن، تشكل أية موجة لجوء جديدة تهديدًا مباشرًا لتركيبته الديمغرافية الحساسة، ما قد يربك التوازنات الداخلية. وتدرك مصر أن موجات كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين ستضع ضغوطًا هائلة على بنيتها التحتية وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. وتخشى الدولتان أن تصبح الخطوة سابقة خطيرة تفتح الباب أمام تهجير الفلسطينيين من الضفة مستقبلًا، ما يعني تصفية كاملة للقضية الفلسطينية.
وفي المحصلة، يقف الشعب الفلسطيني، الذي سبق وأفشل محاولات التهجير والاقتلاع، خصوصًا في غزة، متحدًا اليوم في وجه المخططات التي تسعى، عبر أدوات سياسية واقتصادية مغلفة بذرائع إنسانية، إلى تحصيل ما عجزت عنه آلة الحرب الإسرائيلية.