أثارت مناشدات حسان العباسي، شقيق الطبيبة المغيّبة رانيا العباسي، قضية إنسانية هامة تتعلق بمصير الأطفال السوريين الذين غيّبهم النظام السوري، بعد اختطافهم من ذويهم المعتقلين أو المطلوبين للأفرع الأمنية، فقد ظل مصير هؤلاء الأطفال مجهولًا، ولم تُعرف أماكن تواجدهم حتى بعد سقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
وبينما كان العباسي يسعى للبحث عن أبناء شقيقته الستة الذين تم اعتقالهم قسرًا عام 2013، طالب السلطة السورية الجديدة باتخاذ إجراءات فورية لفتح تحقيقات في دور رعاية الأطفال، خاصة منظمة “SOS” الدولية وهيئة “لحن الحياة”، اللتين ارتبطتا ارتباطًا وثيقًا بالنظام السابق.
تزامنًا مع ذلك، كشفت صحيفة “زمان الوصل” عن وثائق تدين منظمة “SOS” بالتنسيق مع الأفرع الأمنية، حيث تم تحويل 31 طفلًا من أبناء المعتقلين في المخابرات الجوية بدمشق إلى مراكز الرعاية بعد اعتقال أو تصفية ذويهم، كما رصدت الصحيفة حالات تم فيها تغيير أسماء الأطفال رسميًا في سجلات “قيد النفوس” بعد وصولهم إلى مركز “لحن الحياة”.
في ذات السياق، طالبت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” بفتح تحقيق عاجل وشامل مع الجمعيات التي أحالت الأجهزة الأمنية إليها عشرات الأطفال المختفين، وأضافت في بيان لها أنها تلقت أنباء منذ سنوات حول تحويل الأطفال المولودين في مراكز الاحتجاز إلى دور الأيتام أو مراكز رعاية، إلا أنها لم تتمكن من التحقق من هذه المعلومات بسبب التحديات الاستثنائية التي واجهتها، ومن أبرز هذه المؤسسات مراكز منظمة “SOS”.
نظام الرعاية والطغيان السياسي: “قرى الأطفال SOS” و “هيئة لحن الحياة”
تتجه الأنظار في قضية تغيير أنساب وإلحاق آلاف الأطفال السوريين إلى جهتين رئيسيتين، تتجلى فيهما الروابط مع نظام الأسد السابق بوضوح أكبر وتأثير أشد. الأولى هي منظمة “قرى الأطفال SOS”، وهي منظمة دولية غير حكومية تأسست في النمسا ولها فروع في 134 دولة حول العالم.
ورغم هذه الصفة الدولية، تخضع المنظمة في كل بلد تعمل فيه للأنظمة المحلية، وقد حصلت على ترخيص للعمل في سوريا عام 1975، في عهد حافظ الأسد. ومنذ ذلك الحين، فرض النظام شروطًا على المنظمة، تمثلت في حقه في الإشراف على اختيار أعضاء مجلس إدارتها.
في عام 1981، افتتحت المنظمة أول “قرية للأطفال” في منطقة قدسيا بدمشق، تبعتها افتتاحات أخرى مثل مركز “خان العسل” في حلب، الذي استمر عمله حتى عام 2012 قبل نقله إلى دمشق.
ومع تصاعد الصراع في عام 2011، توسعت أنشطة المنظمة بشكل ملحوظ، حيث تم افتتاح بيوت جديدة في مناطق عدة مثل صحنايا، الدويلعة في ضواحي دمشق، بالإضافة إلى منطقة حصين البحر في طرطوس. وترأست الجمعية سمر دعبول، ابنة محمد ديب دعبول، الذي كان يشغل منصب مدير مكتب حافظ وبشار الأسد على التوالي، ما منحها نفوذًا وصلاحيات كبيرة.
الجهة الثانية التي تبرز في هذه القضية هي مجموعة من دور رعاية الأطفال مجهولي النسب، والتي حظيت بدعم مباشر من أسماء الأسد، حيث كانت تقوم بزيارات متكررة لها في المناسبات الوطنية، وقد تم جمع هذه الدور تحت مسمى “هيئة لحن الحياة” بموجب مرسوم صادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في 31 يناير/ كانون الثاني 2023.
يخول هذا المرسوم الهيئة التفويض القانوني الكامل في جميع ما يتعلق بالأطفال مجهولي النسب، بما في ذلك تحديد هويتهم وديانتهم، وتسجيلهم في قانون الأحوال المدنية، كما يسمح للهيئة بتحويل الأطفال إلى “أسرة بديلة” ضمن ما يسمى بـ “الإلحاق”.
تعنيف وتلاعب بالهوية
وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” منذ بداية الثورة وحتى يونيو/ حزيران 2024 اختفاء نحو 3,700 طفل سوري، تم اعتقالهم من قبل الأفرع الأمنية، ولا تزال عائلاتهم تجهل مصيرهم رغم فتح السجون بعد سقوط النظام.
وفي الآونة الأخيرة، ومع تأكيد الأنباء حول تغيير أسماء وهويات العديد من الأطفال الذين تم إيداعهم في دور الرعاية، تمكّن بعض الفتيان الذين نشأوا في هذه الدور من التواصل مع عائلاتهم الأصلية.
من بينهم الشاب علاء رجوب، الذي اعتُقل في السابعة من عمره من منزل عائلته، برفقة أحد أفراد أسرته، وبعد اعتقاله، قامت الجهة الأمنية المسؤولة بتسليمه إلى إدارة “دار زيد بن حارثة” في دمشق، التي كانت واحدة من دور الرعاية التي تعنى بالأطفال مجهولي النسب.
ورغم أن علاء كان على دراية بأسماء وهوية عائلته، إلا أنه تم تغيير قيده إلى “طفل مجهول النسب” في السجلات الرسمية للدار، ما يؤكد وجود آلية منظمة لارتكاب هذه الممارسات بين مؤسسات رعاية الأطفال والأفرع الأمنية الأسدية.
مع العلم أن “دار زيد بن حارثة” تأسست في السبعينات، قبل أن يتم تغيير اسمها إلى “مجمع لحن الحياة” في عام 2014. وقد عُرفت الدار بظروفها القاسية، وانتشار الفساد بين القائمين عليها، كما تفشّت في السنوات الأخيرة ظاهرة الرشوة، حيث يُشترط دفع مبالغ مالية مقابل الحصول على طفل تحت ما يُسمى “الإلحاق”، ما جعل الأطفال في الدار سلعة تُباع لمن يدفع أكثر.
في السياق ذاته، حاور “نون بوست” والدة الطفلة هبة، إحدى الأطفال الذين أقاموا في “قرى الأطفال SOS” ما بين عامي 2018 و2019، بعد اعتقالها مع والدتها سُكينة من منزلهم في مدينة درعا لأسباب واهية، مع العشرات من سكان الحي.
تروي سُكينة، التي كانت حاملًا لحظة اعتقالها، أنه تم اقتيادها مع ابنتها هبة إلى فرع الجوية في مزة بدمشق، حيث مكثوا معًا لمدة 20 يومًا، قبل أن يتم أخذ هبة مع بقية الأطفال الموجودين في الزنزانة بالقوة، وتحويلهم إلى “قرى الأطفال SOS” لضمان سلامتهم، على حد تعبير السجان.
وتشير سُكينة إلى أن أعداد الأطفال كانت تفوق بكثير عدد النساء في العديد من المهاجع، ولاحقًا يصبح مصيرهم مجهولًا، وتقول: “حتى لم أفكر في احتمال رؤية ابنتي مرة أخرى. عندما أخذوا الأطفال، قاومت العديد من الأمهات، لكن عناصر الأمن ضربوهن حتى سكتن. وفي وقت لاحق، أخبرتنا معتقلات قضين فترات طويلة أنهن لا يعرفن أي شيء عن أطفالهن منذ سنوات”.
تمكنت سُكينة من استرجاع ابنتها هبة من “قرى الأطفال SOS” بعد عام من خروجها من المعتقل، أي في أواخر عام 2019، فبعد أسابيع طويلة من البحث والسؤال في دور الرعاية والجمعيات في دمشق، وعندما بدأت تشعر باليأس من العثور عليها، قررت أن تسأل عنها في فرع الجوية حيث تم اعتقالها مع ابنتها، ولكنهم طلبوا منها إحضار ورقة براءة من محكمة الإرهاب مقابل تسليمها ابنتها. وبالفعل، تسلمت سُكينة ابنتها هبة بعد أيام، من قبل عناصر أمنية بالقرب من فرع الجوية في دمشق.
سرعان ما أدركت سُكينة أن طفلتها هبة تعرضت لأذى نفسي وجسدي شديدين، إذ أمضت أكثر من عامين في عزلة تامة، رافضةً الحديث أو التواصل حتى مع والدتها، كما كانت تعاني هبة من نوبات فزع مصحوبة بالبكاء والكوابيس الليلية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك حروق متعددة في مناطق متفرقة من جسدها، مثل الشفتين، وخلف الركبتين، والفخذين، وأسفل الظهر، كما ظهرت عليها علامات سوء المعاملة، أبرزها الاختباء في زوايا المنزل عند اتساخ ملابسها.
التشريعات السورية قيد التحليل
أقرت منظمة “قرى الأطفال SOS” في بيان لها بتعاونها مع النظام السوري السابق في إيواء 40 طفلًا من أبناء المعتقلين، وأشارت المنظمة إلى أن الأفرع الأمنية استرجعت جميع هؤلاء الأطفال، في تناقض مع الوثائق الرسمية للنظام.
وأضافت المنظمة أن هذا الوضع “فُرض على قرى الأطفال SOS حتى عام 2019″، قبل أن تُطالب السلطات بالتوقف عن إرسال ما يُعرف بـ “الحالات الأمنية”. في المقابل، نفت إدارة “هيئة لحن الحياة” في بيان مصوّر استلامها أي أطفال من أبناء المعتقلين، الذين وصفوهم بـ”المخطوفين”، وألقت بالمسؤولية بالكامل على وزارة الشؤون الاجتماعية بشأن هوية الأطفال المحالين إلى الدار.
بعد استشارة مجموعة من الحقوقيين السوريين، تبين أن القضية لا تزال في مرحلة البحث القانوني المعمق، مع التأكيد على أنه لا يوجد أي مبرر قانوني، لا في الدستور السوري ولا في اتفاقيات حقوق الطفل، يتيح تغيير أنساب الأطفال، سواء من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية السورية أو دور الأيتام ومراكز رعاية الأطفال.
وصف الحقوقي فضل عبد الغني، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، هذا الفعل بأنه “استعباد أو استرقاق” بكل ما تحمله الكلمة من دلالات، وأضاف:
“ما تعرض له الأطفال يُعد جريمة مدبرة بعناية، ذات طابع منهجي، تتجسد في عملية بيع وشراء أطفال، تم تنفيذها بتنسيق تام مع الأفرع الأمنية، مما يضفي عليها طابع الجريمة المنظمة. ورغم التركيز الإعلامي الحالي على “قرى الأطفال SOS” باعتبارها منظمة دولية، فإن المعطيات المتوفرة تشير إلى أن العديد من مراكز الرعاية السورية قد ارتكبت نفس الانتهاكات، ما يفتح المجال لمحاكمة هذه المؤسسات عبر القضاء الوطني”.
تمثل هذه القضية جريمة ترتقي إلى مستوى المحنة الوطنية، يبدأ حلها بمحاسبة المسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل خلال حقبة نظام الأسد، إلى جانب إداريي دور الرعاية الذين يتحملون مسؤولية التكتم على هذه الانتهاكات.
وينبغي أن تتضمن الحلول مراجعة شاملة لسجلات الأطفال الذين تم إلحاقهم بأسر بديلة خلال العقد الماضي، عبر أرشيف الوزارة، بما يضمن كشف مصير الأطفال الذين ما زالوا على قيد الحياة، إذ تتجاوز هذه القضية بعدها الإنساني لتصبح اختبارًا جوهريًا لقدرة الدولة على مواجهة إرث الظلم، بما يعيد الثقة في القيم الوطنية التي تضمن كرامة الإنسان.