بعد 77 عامًا من النكبة الأولى، حين أجبرت عصابات الصهاينة عشرات الآلاف من الفلسطينيين على ترك بيوتهم في عكا وحيفا والخليل والرملة وغزة والقدس وجنين وطبريا وطولكرم وبيسان وصفد، تحت وطأة السلاح والتعذيب والسرقة، لإقامة دولة الاحتلال العنصرية فوق التراب الفلسطيني، ها هم الغزيون يبعثون الأمل من جديد في حلم العودة للمهجرين وأبنائهم وأحفادهم.
مشهدٌ تاريخي، تقف أمامه مفردات العزة والإباء مطأطئة الرأس إجلالًا وتقديرًا واحترامًا، حين بدأ آلاف النازحين الفلسطينيين، صباح الاثنين 27 كانون الثاني/يناير 2025، بالعودة إلى منطقة شمال غزة (محافظتا غزة والشمال) بعد أن هُجّروا منها قسرًا نتيجة الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي تواصلت أكثر من 15 شهرًا وخلفت نحو 158 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.
صباح غزة pic.twitter.com/qKczzsJBC1
— Tamer Almisshal | تامر المسحال (@TamerMisshal) January 27, 2025
وبدأ الزحف المقدس عبر شارع الرشيد، للعائدين سيرًا على الأقدام، عند تمام الساعة السابعة صباحًا بتوقيت غزة (التاسعة بتوقيت غرينتش)، فيما سلك العائدون عبر المركبات والسيارات شارع صلاح الدين عند تمام الساعة التاسعة (الحادية عشرة بتوقيت غرينتش)، بعدما انسحبت قوات الجيش الإسرائيلي من محور نتساريم، الفاصل بين جنوب قطاع غزة وشماله، والذي دشنه المحتل مع بدء عمليته البرية يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
أكثر من 6 كيلومترات قطعها النازحون سيرًا على الأقدام، بين ثنايا الدمار والخراب الذي حلَّ بمعظم القطاع، حاملين فوق رؤوسهم ما تبقى من أغراضهم الرمزية، إلى مصير مجهول، وسط أجواء احتفالية لا تتناسب مطلقًا مع حجم المعاناة التي عانوها على مدار 480 يومًا من حرب الإبادة الوحشية التي شنها الاحتلال دون هوادة، في مشهدية تحمل العشرات من الرسائل والدلالات والرمزيات التي تنسف مزاعم الاحتلال الواهية وتطيح بأوهام حلفائه البالية.
يوم تاريخي
يسطر الغزيون بتلك اللوحة الفنية الجميلة صفحة جديدة في تاريخ فلسطين العريق، فهو يوم من أيام الله، يُكتب بماء من ذهب في سجلات الكرامة والعزة، إذ قدموا نموذجًا فريدًا في الصمود والتحدي في مواجهة محتل غاشم، لم يتوانَ في اقتلاع الحجر والبشر، وتدمير كل مقومات الحياة، لتركيع شعب لا يُركع وإذلال أمة لا تُذل.
من جانبها، وصفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عودة النازحين لبيوتهم وأراضيهم بأنه “انتصار لشعبنا” وإعلان لفشل وهزيمة الاحتلال الإسرائيلي ومخططات التهجير، مضيفة في بيان لها أن عودة النازحين تثبت مجددًا “فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه العدوانية في تهجير شعبنا وكسر إرادة صموده”، وهي رسالة واضحة للمراهنين على كسر إرادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه. فيما وصف القيادي في الحركة عزت الرشق هذا اليوم بـ”العظيم”، مضيفًا أن مشهد عودة النازحين إلى الشمال تتحطم أمامه كل أحلام وأوهام الاحتلال في تهجير شعبنا الفلسطيني.
بدورها، قالت حركة الجهاد الإسلامي: “في مشهد أسطوري يعود مئات آلاف النازحين إلى شمال غزة الذي حوله الإجرام الصهيوني إلى ركام”، مضيفة في بيان لها أن عودة النازحين تأتي ردًا على كل الحالمين بتهجير شعبنا بعد تجاوز مشكلة الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود، مشيدة بصمود وتحدي الغزيين على مدار أيام الحرب الممتدة لأكثر من 16 شهرًا.
صدمة إسرائيلية
وعلى الجانب الآخر، تُنصب في الداخل الإسرائيلي سرادقات العزاء، غضبًا وحنقًا على يوم الزحف المقدس لأصحاب الأرض إلى بيوتهم شمال القطاع، بعدما توهم المحتل أنه بآلته الوحشية وعنصريته الإجرامية وصواريخه وزناناته وقذائفه، نجح في تفكيك تلك اللحمة المغلظة بين الفلسطينيين ووطنهم، مؤملًا نفسه بتكرار سيناريو 1948.
وتصدر مشهد المنتحبين وزير الأمن القومي الإسرائيلي المستقيل إيتمار بن غفير، الذي يقول إن عودة السكان إلى شمال قطاع غزة صورة لانتصار حماس وجزء مهين آخر من الصفقة غير الشرعية، على حد تعبيره، مضيفًا في تصريحات نقلتها عنه القناة السابعة الإسرائيلية: “ليس هذا ما يبدو عليه النصر المطلق، بل هو الاستسلام التام. جنودنا لم يقاتلوا ولم يضحوا بحياتهم في غزة للسماح بهذه الصور، ويجب أن نعود للحرب”.
أما إذاعة الجيش الإسرائيلي فعلقت على المشهد بقولها إن حماس حصلت على ما أرادت هذا الصباح بعد عودة السكان لشمال القطاع، مضيفة أنه من الصعب جدًا على إسرائيل العودة إلى القتال في شمال القطاع بعد المرحلة الأولى من الاتفاق، حيث ستكون العودة إلى القتال داخل منطقة مكتظة بالسكان مهمة شبه مستحيلة في غضون أسابيع قليلة.
وفي ذات السياق، نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية عن مصادر عسكرية إسرائيلية قولها إنه كان يجب الحفاظ على محور نتساريم كورقة تفاوض، حيث إن أهميته بالنسبة لحماس واضحة، مضيفة أن إسرائيل دفعت ثمن صفقة كاملة بفتحها هذا المحور اللوجستي دون أن تحصل على المقابل كله.
وقد شكلت مشاهد العودة صدمة مدوية للنخبة الإسرائيلية، سياسية وإعلامية وعقدية، إذ لم يدر بخلدها أنه بعد 480 يومًا من القتال الشرس وحرب الإبادة التي لم يعرف التاريخ الحديث مثلها وحشية، وهذا الحجم غير المسبوق من القتل والتدمير والخراب ووأد كافة مقومات الحياة، أن يعود الغزيون إلى بيوتهم في الشمال مرة أخرى بهذه الروح المعنوية العالية وأجواء الانتصار التي تخيم على المشهد.
نسف مقاربة الاحتلال الأمنية
ارتكن نتنياهو وجنرالاته، مدفوعًا بضغوط اليمين المتطرف، إلى المقاربة الأمنية، كونها الاستراتيجية الوحيدة القادرة على تحقيق الحرب أهدافها الثلاثة المعلنة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل القطاع تهديدًا للداخل الإسرائيلي)، هذا بخلاف الأهداف المتفرعة الأخرى التي حاول بها المحتل ترسيخ معادلة جديدة داخل قطاع غزة.
وكان من أبرز أضلاع تلك المعادلة ما عُرف بـ”خطة الجنرالات” التي وضعها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد غيورا آيلاند، والقائمة على تهجير سكان شمال القطاع وتحويله إلى منطقة أمنية عازلة، هذا بخلاف السيطرة على محوري نتساريم وفيلادلفيا لخنق القطاع من الجنوب، وفرض كماشة عليه من حدوده الأربعة.
بكل عزيمة وإصرار مسن فلسطيني يعود مشياً على الأقدام عائداً لمنزله في شمال #غزة#غزة_تنتصر pic.twitter.com/1ErPMZ83Jj
— نون بوست (@NoonPost) January 27, 2025
لكن جاءت مشاهد العودة بتلك الصورة المهولة لتنسف تلك المقاربة من جذورها، بعيدًا عن حجم الخسائر والدمار، والذي لا يقدم صورة موضوعية في مشهد التقييم إزاء مثل هذه النوعية من المعارك التحررية، بين المقاومين والمحتل، طويلة الأمد، وهو ما جاء على لسان صاحب “خطة الجنرالات” نفسه حين وصف ما جرى في غزة بأنه فشل مدوٍ للاحتلال، وانتصار لحركة حماس، مضيفًا خلال لقاء تلفزيوني له: “كان هذا فشلًا.. هذه الحرب فاشلة، والسبب بسيط جدًا: حماس من جانبها ليس فقط استطاعت منع إسرائيل من تحقيق أهدافها، بل أيضًا حققت أهدافها، وهدفها هو البقاء في الحكم”.
وأثبت الغزيون، مقاومة وشعبًا، بصمودهم وتحديهم وبسالتهم على مدار أيام حرب هي الأطول منذ بداية الصراع، أنهم أمة غير قابلة للتركيع مهما كان حجم الدمار، وآبية على الاستسلام أيًا كان الثمن المدفوع، ومستمرة في درب النضال والزود عن الأرض والعرض، دون أي اعتبار لحجم التضحيات المقدمة.
إحياء حق العودة بعد سُبات عميق
منذ النكبة الأولى عام 1948، يواصل الاحتلال سياسته المعهودة في ترحيل وتهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، التي حولها -تحت فوهة سلاحه ومدرعاته- إلى مستوطنات إسرائيلية، مُرغمًا أصحابها على تركها عنوة، دون أي أمل في العودة لا من قريب ولا من بعيد. ومع مرور الوقت، تجاوز عدد من أجبروا على التهجير مئات الآلاف، إن لم يكونوا بالملايين.
عامًا تلو الآخر، ومع توسع المحتل جغرافيًا ورأسيًا، مدعومًا بحليفه الأمريكي الذي لم يدخر جهدًا لتنفيذ أجندته الاستيطانية التوسعية، وفي مقابل حالة الانهزامية والانقسام التي عليها المشهد الفلسطيني، والخذلان العروبي الإقليمي، بدأ الأمل في العودة يتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى بات هذا الحق (حق العودة) شعارًا فضفاضًا لا تأثير ولا وجود له على أرض الواقع.
اليوم، يتغير المشهد. فلأول مرة، يعود الفلسطينيون إلى بيوتهم بعد تهجيرهم منها. لأول مرة منذ بداية الصراع، ينجح الفلسطينيون في كسر عقدة اللاعودة. لأول مرة، يصمد الشعب الفلسطيني أمام آلة التدمير والقتل كل هذه الفترة دون أن يستسلم أو يرضخ أو يركع، مستفيدًا بطبيعة الحال من دروس النكبة الأولى، متشبثًا بأرضه حتى الرمق الأخير من حياته، رافضًا كافة الإغراءات الممنوحة له مقابل ترحيله، ولو بصورة مؤقتة.
رد عملي على مقترح ترامب
أن يقطع الغزيون بهذا السيل البشري المتدفق تلك المسافات الطويلة سيرًا على الأقدام، حاملين أرواحهم فوق أكفهم، ليُنهوا تغريبتهم التي استمرت 16 شهرًا من الدمار والقتل والتنكيل والحصار، فقدوا خلالها الآباء والأمهات والأبناء، الأطفال والشيوخ والنساء، متجهين إلى بيوتهم التي صارت ركامًا، مجردة تمامًا من كل مسببات الحياة، مصممين على البقاء ولو على الأطلال، محملين بالأمل في إعادة البناء ولو بعد حين، مجردين من أي خطط للعيش في تلك البقعة بعدما حولتها آلة التدمير الإسرائيلية إلى أرض محروقة، كانت تلك هي الرسالة الأكثر وضوحًا التي بعث بها أهل غزة الأبية إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ردًا على مقترح التهجير الذي قدمه قبل ساعات.
سيدة فلسطينية ترسل رسالة إلى ترامب: "بلغوا العالم كله، إحنا مستعدين نموت بأرضنا، هي الدليل قدام عين ترامب". pic.twitter.com/ghc82jkTBy
— نحو الحرية (@hureyaksa) January 27, 2025
وكان ترامب قد طالب عبر تصريحات أدلى بها خلال لقاء له مع الصحفيين على متن طائرة الرئاسة الأمريكية “إير فورس وان”، الأحد 26 كانون الثاني/يناير 2025، من مصر والأردن استقبال المزيد من فلسطيني غزة، بزعم أن ما سببته الحرب على مدار أكثر من 15 شهرًا من تدمير للقطاع يستوجب إخلاءه لإعادة الإعمار، لافتًا إلى أنه تحدث السبت 25 من الشهر الجاري إلى العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني “وطلب منه استقبال المزيد من سكان غزة”، وأنه سيتحدث كذلك إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ويطلب منه الأمر نفسه.
مصريًا، جاء الرد على لسان وزارة الخارجية، التي أكدت في بيان لها تمسك القاهرة بثوابت ومحددات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ورفضها المساس بحقوق الشعب الفلسطيني، التي وصفتها بأنها غير قابلة للتصرف “سواءً من خلال الاستيطان أو ضم الأرض، أو عن طريق إخلاء تلك الأرض من أصحابها من خلال التهجير أو تشجيع نقل أو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، سواءً كان بشكل مؤقت أو طويل الأجل، وبما يهدد الاستقرار وينذر بمزيد من امتداد الصراع إلى المنطقة”.
أردنيًا، شددت المملكة عبر وزير خارجيتها أيمن الصفدي رفضها لمقترح ترامب، مؤكدة تمسكها بحل الدولتين كسبيل وحيد لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة. فيما قال الوزير خلال مؤتمر صحافي مشترك مع سيغريد كاغ، كبيرة منسقي الشؤون الإنسانية وشؤون إعادة الإعمار في غزة: “حل القضية الفلسطينية هو في فلسطين، وأن الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين (…) ثوابتنا في المملكة واضحة ولن تتغير، وهو تثبيت الفلسطينيين على أرضهم ورفض التهجير”.
ثم جاء الرد الفلسطيني عمليًا، على أرض الواقع، بعيدًا عن البيانات والشعارات الدبلوماسية: أنه لا نكبة جديدة، ولا تهجير متوقع. الرسالة كانت واضحة، ليس لترامب فقط، بل للكيان الإسرائيلي الذي كان يؤمل نفسه بتحقيق حلم جديد يعيد به عهد العصابات القديمة. كذلك، قطع أشاوس غزة الطريق على أي صفقات قد تداعب البعض من تحت الطاولة بشأن المساعدة في ترحيل الغزيين تحت أي مسمى وبزعم أي ذريعة، ليبرهنوا ميدانيًا أنهم أصحاب الأرض وأصحاب الكلمة وأصحاب القرار، وأن من غير المسموح لأي أحد، أيًا كانت هويته، أن يفرض عليهم الوصاية.
وفي الأخير، تبقى مشهدية العودة أيقونة بكل المقاييس: تكبيرات النصر التي تزلزل الأرض من تحت الأقدام، وأهازيج العزة التي تُعزف على أوتار الكبرياء والشموخ، ودموع الفرحة الممزوجة بعبرات الفقد والحنين التي تبلل الصمت قبل الكلمات، واللُحمة التي تُدفئ برد الأجواء، ورائحة تراب غزة التي تشفي العليل وتداوي المُصاب. لوحة فنية مُحال أن يرسمها مهزوم، وقصيدة أسطورية لا يمكن لمنكسر أن ينظم أبياتها. ليُدشن الغزيون معادلة جديدة، ستكون مرحلة فارقة في تاريخ القضية، ومحطة هامة في درب التحرر والاستقلال.