عقب الكساد الكبير أو الانهيار الكبير (الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عام 1929 مرورًا بعقد الثلاثينيات وبداية عقد الأربعينيات) والحروب التجارية، وأطول فترة من الركود في الأجور منذ الحروب النابليونية التي وقعت في أوروبا، يتساءل الناس – ليس لأول مرة – إذا ما كان للرأسمالية مستقبل، وهل ينهار النظام تحت تناقضاته؟ وهل تظل دول مثل بريطانيا عالقة في انخفاض النمو أو دوامة انخفاض الإنتاجية؟
ومع الذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي (الأتمتة)، هل يمكن أن نكون على شفا عصر جديد من الوَفرة، حيث يصبح العمل غير ضروري لأن تكلفة المعيشة تميل إلى الصفر، والانتقال إلى ما يسميه بعض المتفائلين، مثل آرون باستاني، “الشيوعية الفاخرة المؤتمَتة بالكامل”؟
كما هو الحال دائمًا مع الرأسمالية التي قُرأت طقوسها الأخيرة مرارًا وتكرارًا على مدار القرن الماضي، لا أحد يعرف حقًا، لكن دونالد ساسون، أستاذ التاريخ الأوروبي في جامعة لندن، وأحد المؤرخين الأكثر جاذبية في بريطانيا، يعطي وجهة نظر جديدة لجميع هذه الأسئلة وفي عصرها، وهو متأكد من أن الرأسمالية موجودة لتبقى، على الرغم من أنه ليس مدافعًا عنها.
عصر الرأسمالية الأول
يتحدث ساسون إلى الحاضر من خلال استحضار الفترة ما بين خمسينيات القرن الـ16 والعام 1914، أي تاريخ الحرب العالمية الأولى، والتي برزت فيها التوترات بين الرأسمالية العالمية والسياسة الحديثة بوضوح. كان هذا هو العصر الأول للسياسة الحديثة، إن لم يكن للديمقراطية – عصر وزير المالية البريطاني وليام جلادستون ورئيس مجلس العموم بينجامين دزرائيلي والرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن ورئيس وزراء مملكة بروسيا فون بسمارك.
ينجرف التسلسل الزمني في بعض الأحيان إلى الوقت الحاضر قبل أن يتراجع ليس فقط إلى القرن الـ19، ولكن في عمق القرن الـ18، حيث عصر الإمبريالية والتجارب المبكرة في التأمين الاجتماعي، كما كان عصر السكك الحديدية والبواخر والازدهار والكساد في صناعة القطن العالمية.
من خلال زيادة الإنتاجية بلا هوادة، تحتاج المؤسسات الرأسمالية إلى عدد أقل من العمال لصنع هذه السلع، وهذا يؤدي إلى فترات الركود الدورية الناجمة عما كان يطلق عليه “نقص الاستهلاك” من قبل الاقتصاديين الاشتراكيين
يقدم لنا ساسون خريطة مترامية الأطراف، مرصعة بتفاصيل رائعة، فإذا كنت مهتم بالفقراء الحضريين في نابولي في القرن الـ19، أو تريد أن تعرف سبب تقزم الليبرالية في رومانيا في أواخر القرن الـ19، أو لم تسمع عن مدينة القادر بمقاطعة كلايتون آيوا بالولايات المتحدة الأمريكية التي تأسست عام 1846، والتي تم تسميتها تكريمًا للأمير عبد القادر، زعيم المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر، فإن كتاب ساسون هو دليلك.
قد يكون من الأفضل لهذه الرغبة الشديدة الاقتراب من كتاب ساسون، حيث المقدمة التي يرفض فيها تعريف الرأسمالية والفصول الأولى التي يعرج فيها خلال تاريخ تشكيل الدولة في القرن الـ19. بدلاً من ذلك، يناقش في الداخل بالتفصيل دور النخبة اليابانية في التصنيع، وفشل البرجوازية الإيطالية، والأفضل من ذلك هو مناقشة ساسون للانتشار العالمي للممارسة السياسية الديمقراطية قبل عام 1914، ثم يصف أحد أفضل فصول ساسون كيف أثار الركود الكبير في عام 1873 وعيًا بالعولمة، وأثار موجة من الحمائية، كما يستعرض النقاش الفرنسي ببراعة حقيقية لكنه يرفض النزعة الحمائية في بريطانيا.
ومن خلال دراسة واسعة النطاق، يصف دونالد ساسون تأثير الرأسمالية على المجتمعات الصناعية الناشئة، وكيف أوجد الابتكار المستمر مزيد من الرابحين والخاسرين، وتوضح دراسته الشاملة لأصول الرأسمالية الحديثة التكلفة البشرية لنظام الجشع المؤسسي: الاستعمار والاستعمار الجديد واستعباد الأجور وعدم المساواة وانعدام الأمن.
غلاف كتاب دونالد ساسون “النصر القلِق”
يُسمَّى الكتاب الصادر مؤخرًا “النصر القلق: تاريخ عالمي للرأسمالية”، لأن ساسون يعتقد أن انعدام الأمن مكتوب في أصول الرأسمالية، وهو نظام قائم على ما أسماه جوزيف شومبيتر “التدمير الخلَّاق”، وهو عرضة لتدمير الرأسمالي أو الممارس لحق الملكية من خلال المنافسة، مثل العامل.
الرأسمالية مليئة بهذه التناقضات أو المفارقات، كما لاحظ كارل ماركس، إذ تحتاج المؤسسات الصناعية لعمال يُدفع لهم بسخاء لشراء منتجاتها، ولكن من خلال زيادة الإنتاجية بلا هوادة، تحتاج المؤسسات الرأسمالية إلى عدد أقل من العمال لصنع هذه السلع، وهذا يؤدي إلى فترات الركود الدورية الناجمة عما كان يطلق عليه “نقص الاستهلاك” من قبل الاقتصاديين الاشتراكيين.
مزيد من عدم المساواة
وحدها الرأسمالية لم تكن قد أوجدت المجتمع الاستهلاكي في النصف الأخير من القرن العشرين، ومن خلال انتخاب الحكومات الديمقراطية الاجتماعية، التي أعادت توزيع بعض الثروة، فإن الطبقة العاملة المنظمة، التي اعتقد كارل ماركس أنها ستكون عامل في الدمار الرأسمالي، أنقذت بالفعل الرأسمالية من نفسها. يقول ساسون: “أراد الاشتراكيون إلغاء الرأسمالية، لكن الإصلاحات التي دعوا إليها كانت تميل إلى تعزيزها”.
هذه القدرة على إعادة اختراع نفسها، بشكل عام من خلال الأزمات وإعادة الهيكلة، هي السبب في أن الرأسمالية، في رأي ساسون على الأقل، أصبحت الآن غير قابلة للتحدي، خاصة بعد أن فُقدت مصداقية الشيوعية بسبب تجاوزات الاتحاد السوفيتي البيروقراطي والاستبدادي، ولا يرى ساسون إشارة تُذكر على أن أي اشتراكية جديدة يمكنها أن تحصل على الاهتمام، الرأسمالية موجودة لتبقى.
أصبحت اقتصادات جميع الدول رأسمالية تقريبًا، حيث يهيمن هذا النظام على العالم، ولكنها لم تكن كذلك دائمًا
على العكس من ذلك، يقول آرون بستاني، وهو مؤيد مخلص لرئيس حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين، إن تناقضات الرأسمالية وصلت أخيرًا إلى النقطة التي حطمت فيها قوى الإنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية، تمامًا كما تنبأ كارل ماركس، وهو يعتقد أن الرأسمالية تسير على الطريق الصحيح نحو خلق اقتصاد تجعل فيه “الأتمتة” العمال فيه غير ضروريين، وبالتالي تجعل الرأسمالية مستحيلة.
ويضيف أن “التقدم التكنولوجي” سيقلل من قيمة السلع – الغذاء والرعاية الصحية والطاقة والإسكان – إلى الصفر “. كما يقول: “نحن في خضم “الاضطراب الثالث” (الأول كان الثورة الزراعية والثاني الثورة الصناعية). هذه هي نهاية “عصر الضرورة”. في المستقبل، لا يمكن التمييز بين العمل والترفيه، ولن يكون أحد عبدًا للأجور”.
قد يغري هذا القول الكثيرين فيتساءلون عن مئات الملايين من الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر أو ربع الأطفال الأسكتلنديين الذين يعيشون في فقر أو كبار السن الذين يبيعون منازلهم لدفع تكاليف رعايتهم. إذا أصبح كل شيء حرًا، فلماذا نحتاج إلى بنوك طعام؟ على أي كوكب يعيش بستاني حيث مكان لا يحتاج أحد إلى العمل فيه من أجل لقمة العيش؟
بستاني يسخر من خلال حديثه عن التعدين الفضائي أو التنقيب في الكويكبات، لكنه يثير نقطة مهمة، وهي أن “الأتمتة” والذكاء الاصطناعي تجعل الوظائف زائدة عن الحاجة بمعدل متزايد، لكن السيارات والشاحنات ذاتية القيادة وحدها ستقتل الآلاف من الوظائف، وتدمر العديد من وظائف “ذوي الياقات البيضاء” الروتينية في القانون ووكالات العقارات والمحاسبة والإدارة.
ناطحة سحاب في نيويورك في عام 1910
قد يكون بستاني محق في قول ذلك، إذ يجب أن تنتشر فوائد “الأتمتة” على نطاق أوسع، ويجب أن نعمل أقل، وأن نعيش حياة خضراء ولطيفة خالية من الكد الشاق، ويجب أن يكون موت العمل هو ميلاد الإبداع، لكن ليس واضحًا من كتاب بستاني كيف ستحدث هذه “الشيوعية المترفة”. لا يدعو حزب العمال لجيريمي كوربين إلى تأميم وسائل الإنتاج. كما يقولا ل ساسون، “لم تكن هناك أبدا ثورة مسلحة في دولة رأسمالية متقدمة”، حيث لا يدعو حزب العمال جيريمي كوربين إلى تأميم وسائل الإنتاج. كما يقول ساسون “لم تكن هناك أبدًا ثورة مسلحة في دولة رأسمالية متقدمة”.
ما قاله بستاني يعني أن اليسار على وشك أن ينقذ الرأسمالية من نفسه، فمن خلال التقليل الجذري لأسبوع العمل، وتقديم ما يسميه “الخدمات الأساسية الشاملة” – بما في ذلك النقل والإسكان والطاقة – سوف تجد الحكومات الاشتراكية طرقًا لإعادة تدوير أرباح الرأسمالية الرقمية الجديدة والسماح للناس بالعيش بشكل جيد بمقابل أقل، ما يعني أنه ستكون هناك رأسمالية، لكن ليس كما نعرفها.
الرأسمالية تحت وطأة تناقضاتها
لأول مرة في تاريخ البشرية، كان هناك نظام اجتماعي قادر على توفير مستوى عالٍ من الاستهلاك لغالبية الذين يعيشون ضمن حدوده. اليوم، أصبحت اقتصادات جميع الدول رأسمالية تقريبًا، حيث يهيمن هذا النظام على العالم، ولكنها لم تكن كذلك دائمًا.
كانت المؤسسة الرأسمالية موجودة بشكل ما منذ العصور القديمة، لكن عولمة وهيمنة الرأسمالية كنظام بدأ في الستينيات من القرن الـ19 عندما طورت الدول في جميع أنحاء العالم أطرها السياسية الحديثة، بأشكال مختلفة وبدعم من قوى سياسية مختلفة مثل توحيد إيطاليا وألمانيا، والقضاء على العبودية في الجنوب الأمريكي، وتحرير الأقنان في روسيا القيصرية.
كما يجادل دونالد ساسون في “النصر القَلِق”، فإن فكرة أن الدولة والاقتصاد الرأسمالي يمكن أن يزدهرا هي فكرة غير منطقية
منذ ذلك الحين، تعايشت الرأسمالية مع العديد من أنواع الدول المختلفة، من بريطانيا الفيكتورية إلى الجمهورية الفرنسية والكونفدرالية السويسرية، ومن الأنظمة الفاشية إلى الديمقراطيات الأوروبية بعد الحرب، ومن اليابان خلال فترة الإمبراطور مييجي تينو إلى الديكتاتوريات الأمريكية اللاتينية، وحتى روسيا والصين الشيوعية.
كيف تفاعلت الرأسمالية مع التصنيع والقومية والاستعمار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؟ وما الشكل الذي اتخذته العولمة في عصر ظهورها الأول؟ يستكشف هذا الكتاب بشكل رائع كيف، بعد أن اجتاحت الصناعة معظم دول العالم في أوائل القرن التاسع عشر، تبعتها رأسمالية عالمية حقيقية، ومعها تحديث المجتمع.
في 20 يناير/كانون الثاني عام 1981، وفي خطاب تنصيبه الرئيس الأربعين للولايات المتحدة، أعلن رونالد ريجان أن “الحكومة ليست هي الحل لمشكلتنا، بل الحكومة هي المشكلة ذاتها”. لقد حددت هذه الكلمات نهاية القرن العشرين، حيث أصبحت سياسة “التراجع عن الدولة” – المطبقة على الإنفاق العام بعد عام 1979 – مهمة “ثورة السوق” التي قادها ريجان ومارجريت تاتشر، وهي نموذج تاريخي يجادل بأنه كان هناك تغيير جذري للاقتصاد أدى إلى إرباك وتنسيق جميع جوانب اقتصاد السوق بما يتماشى مع كل من الأمم والعالم.
في الواقع، كما يجادل دونالد ساسون في “النصر الَقِلق”، فإن فكرة أن الدولة والاقتصاد الرأسمالي يمكن أن يزدهرا هي فكرة غير منطقية، فالدولة الحديثة والاقتصاد توأمان وُلدوا معًا في القرن الـ17، وخلال عصر الاستبداد وثورات القرن الـ18 عشر نضجت علاقاتهما إلى علاقة الاعتماد المتبادل. كان هذا أكثر وضوحًا في الدول الجديدة في القرن الـ19، مثل فترة مييجي في اليابان أو بسمارك في ألمانيا، لكن هذا كان صحيحًا تمامًا بالنسبة للقوة “الليبرالية” مثل فيكتوريا ملكة المملكة المتحدة.
يختلف مدى التعبير عن المصالح الاقتصادية والسياسية بدقة في جميع أنحاء العالم، ويعتمد كثيرًا على مكانة الدولة في النظام الدولي، فبعد بناء مزيج قوي من دولة مالية مركزية وإمبراطورية عالمية، لم تقم المملكة المتحدة بتجسيد أجهزتها الوطنية أو صياغة رؤية قوية للاقتصاد الوطني حتى القرن العشرين، ولكن بعد ذلك، فعلت ذلك بانتقام، كما أظهر المؤرخ ديفيد إدجيرتون مؤخرًا.
بيل غيتس بين حقول أفريقيا يوزع لقاحات شلل الأطفال
إذا تم طرح مشكلة العلاقة بين الحكومة والاقتصاد مرارًا وتكرارًا، فذلك لأنها في كلا الجانبين محفوفة بالتوتر. من أجل العمل، كما يؤكد ساسون، تحتاج الدول إلى السياسة، وهذا يشمل النخب المتصارعة وجماهير أكثر أو أقل حشدًا، فالسياسة الجماهيرية والأيديولوجيات الحديثة، وقبل كل شيء القومية، لها إمكانات متفجرة. في الواقع، إذا أخذنا على محمل الجد، فإن فكرة السياسة ذاتها كعملية اختيار جماعي وتمكين ذاتي هي أمر يتناقض مع النظام الاقتصادي القائم على عقود ملزمة بين المصالح الخاصة الراسخة التي لا تراعي الجماعية السياسية.
سلسلة طويلة من الليبراليين وصولاً إلى الليبراليين الجدد “النيوليبراليين” في عصرنا، تستنتج أن الحل هو ترويض السياسة من خلال القانون والمعاهدات الدولية والبنوك المركزية المستقلة وما إلى ذلك، وليس من المستغرب أن يستمد ذلك معارضة سياسية من مختلف الأطراف، حتى باتت الرأسمالية اليوم تحت النار من كل زاوية، ليس فقط من اليسار، من بيرني ساندرز أو إليزابيث وارين أو جيريمي كوربين، ولكن أيضًا من اليمين، حيث يسأل مذيع قناة “فوكس نيوز”، تاكر كارلسون: “هل ما زال هناك مَنْ يعتقد أن أجهزة “أيفون” أو المزيد من أرخص شحنات الأمازون التي تحوي المنتجات البلاستيكية من الصين ستجعلنا سعداء؟
يتبع رؤساء الشركات اليوم روح العصر، ويبدأون تصريحاتهم بالاعتراف بالخطيئة التي أصبحت إلزامية تقريبًا، في حين يُجبر قادة الأعمال بشكل قسري على البحث الضروري عن “سردية جديدة”، وهم في ذلك إنهم يشبهون هؤلاء النبلاء الفرنسيين الذين جلسوا في ثمانينيات القرن الـ19 إلى جانب المسرح في عروض مسرحية معادية للارستقراطية كتبها بيير بومارشيه بعنوان “زواج فيجارو”، فكانوا يصفعون أنفسهم على الوجه لثرائهم.
فمن هو الرأسمالي اليوم؟ هل هو جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورغان تشيس” أم الملياردير المحسن بيل غيتس الذي يتحرك من قرى آسيا البائسة حتى حقول أفريقيا ليوزع لقاحات شلل الأطفال، أم المطور العقاري الذي وصل إلى البيت الأبيض دونالد ترامب؟ هل يمثل الرأسماليون 1% أم أننا جميعًا (تقريبًا) كذلك لأن لدينا خطط للتقاعد التي تجعلنا من أصحاب الأصول الرأسمالية؟ قد يكون العديد من أصحاب أصحاب رؤوس الأموال المتنوعة هم “الطفيليات الحقيقية” الذين لا يكدحون، فهل نحن جميعًا مذنبون في الرأسمالية ومستفيدون من ثمارها ومتواطئون في صنع عيوبها؟