بعد 21 شهرًا من القتال الدامي، طرأت تغيرات كبيرة على خارطة السيطرة العسكرية الميدانية بالسودان، وتحولت موازين القوى بشكل مذهل لصالح الجيش الذي كان يعاني قبيل 6 أشهر فقط من فقدان 80% من أراضي البلاد لصالح مليشيا الدعم السريع، بما في ذلك معظم أجزاء من العاصمة الخرطوم، وغالبية المساحات في ولايات سنار، والجزيرة، وإقليم دارفور الذي تعادل مساحته فرنسا.
فيما بدا أنه انتصار عسكري كبير وحاسم، أعلن الجيش السوداني، الجمعة، فك الحصار المفروض على مقر قيادته الرئيسة في الخرطوم، وعلى سلاح الإشارة (أحد أهم الفرق العسكرية)، بعد ما يقارب العامين على اندلاع الصراع المسلح في 15 أبريل/ نيسان 2023.
واقترب الجيش من بسط سيطرته على العاصمة السودانية المكونة من ثلاثة مدن رئيسة يفصلها نهر النيل (الخرطوم، بحري، أم درمان)، وكانت ميدانًا للصراع العسكري منذ الوهلة الأولى، ما تسبب في تشريد معظم السكان (حوالي ربع سكان البلاد البالغ 45 مليون نسمة).
وشهد العاصمة شأنها شأن بقية مناطق الصراع، تسجيل حالات انتهاكات مروعة من قبل المليشيا والمتحالفين معها، تمتد من القتل والاغتصاب والاعتقال، مرورًا بتدمير مشروعات البنى التحتية، وعمليات السلب والنهب التي طالت معظم الوزارات والبنوك والأسواق والمحال التجارية وصولًا إلى نهب وسرقة منازل الأهالي.
وفيما تخضع معظم أم درمان (غربيّ العاصمة) لسيطرة الجيش بقيادة فرق (الكلية الحربية، وسلاحيِّ المهندسين والسلاح الطبي)، فإن وجود الجيش حتى وقتٍ قريب كان يقتصر على جيوب عسكرية معزولة ومحاصرة في الخرطوم (جنوب) بما في ذلك قيادته الرئيسة وسلاح المدرعات، بينما اقتصر وجود الجيش في بحري على (سلاح الإشارة، ومعسكر الكدرو).
وللمرة الأولى منذ اندلاع الصراع، استطاعت فرق الجيش السوداني، القادمة من شمال بحري وأم درمان، الالتحام مع عناصرها في سلاح الإشارة والقيادة العامة، وإجبار عناصر الدعم السريع على التراجع إلى منطقة شرق النيل (شرقي العاصمة) التي تعد مركز الثقل الرئيس للمليشيا بالخرطوم مع وجود لا يستهان به -كذلك- في مناطق جنوبيّ الخرطوم.
ومنذ فترة طويلة، تبدو الحياة شبه اعتيادية في أم درمان، رغمًا عن انفتاح المدينة على إقليم دارفور الذي يعد مستودعًا لجلب المقاتلين والمرتزقة من دول الجوار لصالح المليشيا، أضف إلى ذلك عمليات القصف الممنهجة التي تشنها الدعم السريع باستمرار على تجمعات الأهالي ومشروعات الطاقة والمياه.
في المقابل، بدأت الحياة تدب من جديد في مدينة بحري بعودة كثير من السكان إلى منازلهم المنهوبة والمخربة على حدٍ سواء، سيما في المناطق الشمالية، إثرْ الانتصارات العسكرية للجيش، يشمل ذلك إنهاء وجود الدعم السريع في مصفاة الجيلي للبترول شماليِّ المدينة، بينما ستكون مناطق جنوب الخرطوم وشرق النيل بؤر مقاومة شرسة من قبل المليشيا الساعية لاستعادة فردوس السيطرة المفقود.
الوضع في الولايات
أعلنت القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح المتحالفة مع الجيش، صد الهجوم رقم 171 على مدينة الفاشر، حاضرة إقليم دارفور.
وبعد تحذير بثته المليشيا لسكان المدينة بمغادرتها خلال 48 ساعة، شنَّ عناصرها هجومًا واسع النطاق على المدينة، صباح الجمعة، انتهى كحال 170 هجوم مماثل، مع قتل ما يزيد عن 400 عنصرًا وتدمير 30 آليةً والاستيلاء على 25 آلية بكامل عتادها الحربي.
وبعدما استعاد الجيش ولاية سنار (جنوب شرق) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، تتقدم جحافله بقوة في ولاية الجزيرة التي سقطت في يد المليشيا بشكل دراماتيكي، ودون مواجهات عسكرية في ديسمبر/ كانون الأول 2023.
وأعلن الجيش استعادة حاضرة الولاية (ود مدني)، جنوبيِّ العاصمة، ومعظم مدن جنوبيِّ شرق الولاية، وسط تقدم يشوبه البطء تجاه المناطق الشمالية التي انسحبت إليها قوات المليشيا الساعية لتعويض خساراتها بشن هجمات متكررة ضد الأهالي، تضمنت تهجير ما يزيد عن سكان 40 قرية، وقتل ما لا يقل عن 200 مواطنًا، مع حرمان بعض سكان المدن والقرى من المغادرة لاستخدامهم كدروع بشرية، طبقًا لمرصد إفادات نداء الوسط.
تحركات مدروسة
يعتقد المحلل العسكري، والضابط السابق في صفوف الجيش السوداني، مصعب فقير، إن انتصارات الجيش الحالية، نتاج تخطيط وعمل مدروس ومحكم.
وقال في حديث مع “نون بوست” إن “انتصارات الجيش بدأت بإفشال محاولة الانقلاب على السلطة ومحاولة اغتيال قائد القوات المسلحة، عبد الفتاح البرهان، يوم 15 أبريل/ نيسان، ومن ثم انتقلت للمحافظة على مقرات الجيش الرئيسة في العاصمة والحيلولة دون سقوطها، مرورًا بمرحلة استنزاف المليشيا وكسر قوتها الصلبة على أسوار هذه المقار، وصولًا إلى مرحلة الانفتاح والهجوم الذي نشاهده اليوم”.
وعن الوجود الكبير للمليشيا في منطقة شرق النيل، وجنوبيِّ الخرطوم، ووجود ربط وإمداد بين هذه القوى، ونظيرتها في ولاية الجزيرة، يرى “فقير” أنَّ الجيش يمارس عملية خنق لهذه القوات، وتقليص مساحة تحركها يوميًا عبر عدة متحركات وأرتال عسكرية، تعمل بتنسيق تام لاستعادة السيطرة الميدانية على ما تبقى من الخرطوم والجزيرة، وإكمال السيطرة على وسط البلاد.
وبشأن الفاشر، أشاد الضابط السابق في صفوف الجيش السوداني، بصمود المدينة ضد الهجمات المتكررة، وإفشال مخطط إقامة سلطة موازية للحكومة الشرعية القائمة في بورتسودان على غرار النموذج الليبي، على حد وصفه.
ويأمل فقير في نجاح جهود الكونجرس في فرض قيود على تصدير الأسلحة الأمريكية إلى الإمارات، “التي تعد الممول الرئيس للحرب في السودان”، وقال: “إجبار أبوظبي على التخلي عن حليفها في السودان، وامتناعها عن تجنيد المرتزقة لصالح المليشيا، يعني نهاية التمرد بشكل قاطع ونهائي”.
العودة للتفاوض
يعتقد أحمد الريح، القيادي بتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، وهو أكبر كيان سياسي مدني رافض للحرب، أنَّ انقلاب موازين السيطرة لصالح الجيش بعد فترة من التقهقر، يقدم دليلًا جديدًا على أن الصراع المحتدم لا يمكن حسمه بالوسائل العسكرية، والخاسر الأكبر منه هو المواطن البسيط.
ورفعت التنسيقية شعار الحياد ورفض الحرب منذ إطلاق الرصاصة الأولى، ولكن معسكر الجيش وعدد لا يستهان به من السودانيين يتهمون الحلف صراحةً بموالاة الدعم السريع، وهو الأمر الذي تحول إلى مشروع قانوني وسياسي، بوضع قادة التنسيقية ضمن قوائم المطلوبين للعدالة بتهم تتعلق بالخيانة، وقد تصل عقوبتها للإعدام، مع رفض أي دعوة لعقد لقاء بين القوى المدنية وقادة الجيش.
وقال الريح لـ”نون بوست”: في وقتٍ يمضي الجيش في بسط نفوذه على وسط البلاد، تتنامى الخشية من تحول السودان إلى منطقة للصراع الدولي وحروب الوكالة، دون إغفال للتوسع الكبير للدعم السريع في شن الهجمات على المدنيين وتدمير مشروعات الطاقة بالطيران المسير، بالتزامن مع استمرار محاولات إسقاط الفاشر، الأمر الذي يهدد -في ظل الاستقطاب الإثني والعرقي- بانفصال الإقليم الغربي، أسوة بما جرى في جنوب السودان، يونيو/ حزيران 2011.
وأهاب القيادي بالتنسيقية في نهاية حديثه، بطرفيِّ الصراع، بتغليب صوت العقل، والعودة إلى طاولة التفاوض، وإعادة السلطة للمدنيين، لبدء محاكمة مجرمي الحرب، وقيادة مرحلة البناء والإعمار، وتجنيب البلاد أهوال الحرب والعقوبات الدولية.
وعمومًا، يواصل الجيش السوداني تقدمه في محاولة لاستعادة زمام المبادرة العسكرية في وسط البلاد، والتوجه بعدها غربًا لأقاليم كردفان ودارفور لتحرير كامل البلاد من قبضة الدعم السريع، لكن ذلك يحدث في ظل مخاوف عديدة من أن يقود ذلك إلى إهمال محور الفاشر، حيث تسعى المليشيا إلى إعلان حكومة موازية، وربما لاحقًا دولة، تتحول إلى سيف في خاصرة البلاد.