اكتسبت الخصخصة سمعة سيئة في سوريا بسبب سوء تطبيقها أثناء حكم الأسد البائد ما أدى إلى تراكم الفساد وتهالك مؤسسات القطاع العام؛ لكنها اليوم تُطرح على طاولة حكومة تصريف الأعمال مجددًا كخطة تهدف إلى تحسين الاقتصاد السوري، عبر خصخصة مؤسسات وشركات حكومية تواجه ضعف أداء وتدني جودة خدمات.
تحول النظام السابق إلى الخصخصة تدريجيًا بعد عجزه عن دعم الخسارات المتتالية في القطاعات العامة، عبر الدمج بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو بيع أصولها كاملةَ للقطاع الخاص وصلت إلى قطاعات مهمة لكنها فشلت بسبب سياسات سوء التطبيق التي كانت لصالح المستثمرين على حساب الدولة.
ويدخل القطاع العام في سوريا ضمن مؤسسات وشركات عامة تابعة للوزارات تدار عبر نظام البيروقراطية، وتغطي قطاعات حيوية، ففي قطاع الصناعة، المؤسسة العامة للصناعات الهندسية، المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية، المؤسسة العامة للصناعات الغذائية، المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء، المؤسسة العامة للسكر، المؤسسة العامة للتبغ، الشركة العامة للصناعات التقنية.
وفي قطاع التجارة، المؤسسة السورية للتجارة الداخلية وحماية المستهلك، المؤسسة العامة للتجارة الخارجية، المؤسسة العامة للمعادن ومواد البناء، المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب، المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان. أما في قطاع النقل، المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السورية، مؤسسة النقل البحري، شركة النقل الداخلي، الشركة السورية للنقل والسياحة، المؤسسة العامة للطيران المدني، المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية.
بينما في قطاع الخدمات الشركة السورية للاتصالات، المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي، المؤسسة العامة للبريد، الشركة العامة للمشاريع المائية، المؤسسة العامة للمعارض ولأسواق الدولية، المؤسسة العامة للمخابز.
وفي قطاع الطاقة والكهرباء، المؤسسة العامة لتوليد ونقل الكهرباء، الشركة السورية للغاز، الشركة السورية النفطية، الشركة السورية لمصفاة حمص وبانياس، أما قطاع المصارف، المصرف التجاري السوري، المصرف الصناعي، المصرف الزراعي التعاوني، مصرف التسليف الشعبي، المؤسسة العامة السورية للتأمين، المصرف العقاري، مصرف التوفير.
كما أنها لا تقتصر على الشركات والمؤسسات وإنما تتعدى إلى الهيئات التي تدير الموانئ والمرافئ والقطاعات الحيوية التي تعود ملكيتها للدولة، وجميعها تشكل واحدة من أبرز مصادر الاقتصاد في سوريا كونها تعود بأرباح عالية لصالح الدولة، لكن في السنوات الأخيرة تحولت إلى مؤسسات تحتاج إلى الدعم الحكومي لتغطية الفساد والعجز.
تضع خطة الخصخصة حكومة تصريف الأعمال أمام تحديات وسلبيات كبيرة قد يكلف تجاوزها سنوات طوال، فعلى الرغم من سقوط النظام البائد إلا أنه خلف إرثًا اقتصاديًا متهالكًا في مختلف القطاعات التي ينخرها الفساد وتعاني من الترهل على كافة المستويات، فكيف يمكن أن تسهم الخصخصة في تحسين الاقتصاد السوري؟
الخصخصة رؤية حكومية
كرر مسؤولون في حكومة تصريف الأعمال السورية بعد سقوط النظام نيتهم في إتاحة بعض القطاعات العامة المملوكة للدولة للاستثمار من قبل القطاع الخاص بهدف معالجة حالة الترهل في المؤسسات العامة في إطار تجاوز العقبات الاقتصادية التي تعيشها سوريا.
وتحدث وزير الخارجية، أسعد الشيباني، عن تخطيط الحكومة إلى خصخصة الموانئ والمصانع المملوكة للدولة، بهدف تعزيز الكفاءة الاقتصادية وجذب الاستثمارات الأجنبية والتجارة الدولية في إطار الإصلاح الاقتصادي، خلال لقاء مع صحيفة “فايننشال تايمز” على هامش ملتقى “ذا فوس” في سويسرا.
وأوضح الشيباني أن رؤية الحكومة “تهدف إلى التنمية الاقتصادية، ولذلك لابد من وجود قانون ورسائل واضحة لفتح الطريق أمام المستثمرين الأجانب، وتشجيع المستثمرين السوريين على العودة إلى سوريا”.
وتعني الخصخصة عملية تحويل ملكية أو إدارة الأصول والخدمات التي تمتلكها الدولة إلى القطاع الخاص، وتقوم على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتهدف إلى تحسين الكفاءة وجذب الاستثمارات مما يساهم في تقليل العبء المالي عن الدولة، ويعزز المنافسة أمام القطاع الخاص ما يؤدي إلى تحسين جودة الخدمات المقدمة.
وتعاني 70% من شركات ومؤسسات القطاع العام السورية من الخسارة بسبب انتشار الفساد، حسب تصريحات وزير المالية، محمد أبازيد، لـ “الجزيرة نت”، مشيرًا إلى أنها تحتاج إلى إعادة نظر ودراسة، حيث يمكن إغلاق التي لا تملك جدوى اقتصادية أو خصخصتها.
وخلف الأسد البائد تركة من الديون تقدر 30 مليار دولارًا أمريكيًا من الديون الخارجية لكل من إيران وروسيا، وديونًا داخلية، واحتياطات غير موجودة في البنك المركزي، وتضخم رواتب القطاع العام، وانحدار إنتاج قطاعي الزراعة والصناعة، مما يجعل القطاع الاقتصادي من أبرز التحديات التي تواجه حكومة تصريف الأعمال في الوقت الراهن، وقد تستمر إلى سنوات لمعالجته.
الباحث الاقتصادي مخلص الناظر، أوضح في تغريدة نشرها على منصة “إكس”، أن الخصخصة تقوم على مراحل تحليل الأصول، إعداد السياسات والتشريعات، التقييم المالي، اختيار الأسلوب (بيع مباشر للأصول، شراكة بين القطاعين العام والخاص، طرح أسهم في البورصة)، تنفيذ العملية، المتابعة والمراقبة.
وأضاف، أن الخصخصة في الحالة السورية تحتاج إلى دراسة دقيقة، من حيث تقييم الإيجابيات المأمولة، والسلبيات والتحديات الطارئة، فالإيجابيات تتضمن جذب الاستثمار الأجنبي، تحسين الكفاءة، تقليل الأعباء المالية، بينما التحديات، تكمن في البيئة السياسية، الفساد وعدم الشفافية، التأثير على العمالة، وتركز الملكية لجهات محلية أو دولية.
تعكس تصريحات المسؤولين عن توجهات حكومية تصب في معالجة العجز الاقتصادي في سوريا، ومنح امتيازات لخصخصة القطاعات العامة، بما يتيح إعادة هيكلة المؤسسات وإدارة استثماراتها بشكل رابح يمكن أن يعود على الدولة بالنفع، لكن ذلك يحتاج إلى دراسة دقيقة لتجاوز العقبات وضمان حق الدولة والخدمة للمواطنين.
الخصخصة في حكم الأسد
اتجه النظام السابق إلى خصخصة القطاعات العامة بشكل تدريجي بدأها عبر رفع الدعم عن القطاعات الخدمية، وصولاً إلى الاعتماد على الخصخصة عبر الدمج بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، كانت من خلال منح شخصيات من دائرة المنظومة الاقتصادية المقربة امتيازات تمكنهم من إدارة المؤسسات.
لكن خطط الخصخصة لم تنجح، حيث أدت تلك السياسات إلى مضاعفة العجز الاقتصادي وقيادة المؤسسات والشركات والهيئات التي من المفترض أن تعود بالربح للدولة إلى الهاوية، دون تحقيق الإنتاجية المرجوة مما انعكس على سوء الخدمات قطاعات النقل، والطاقة، والصناعة والتجارة، وتحولها إلى عبء مرهق.
وفي عهده أبرمت الشركة السورية للطيران عقد استثمار وإدارة مع شركة إيلوما للاستثمار المساهمة المغفلة، مقابل أن تقوم الشركة بإدارة السورية للطيران وإعادة تأهيل المطارات وشراء طائرات لرفد أسطول الطيران المدني، كما أبرم عقودًا مع شركات أجنبية في قطاعات مختلفة، مثل مرفأ طرطوس مع شركة روسية، إلا أن معظمها فشلت بسبب اعتماد الشراكات على شخصيات مقربة من النظام حيث تبرم العقود مع شركات أجنبية نيابةً عن الدولة.
يرى الباحث في مركز عمران للدراسات، مناف قومان، أن القطاع العام في سوريا عانى الكثير من المشكلات أثناء سيطرة النظام البائد مما تسبب في عدم تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الموجهة نحو تحسين الواقع الاقتصادي في البلاد.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن الفساد كان يسيطر على شركات القطاع العام بسبب تحويلها إلى خدمة مصالح النخب المرتبطة بالنظام ودوائره الاقتصادية ما أدى إلى تقويض الإنتاجية ونهب الموارد، كما أن الخصخصة لدى النظام اعتمدت على منح امتيازات لشركات خاصة تكون مملوكة لشخصيات مقربة منه، حيث تتولى إدارة مهام قطاعات حيوية كالكهرباء والنقل”.
وأضاف: “أن الشركات العامة عانت من بنية تحتية وتقنية متهالكة بسبب الاستثمار السيئ للموارد بحيث عدم تطويرها وتحسين انتاجيتها، إضافةً إلى القصور الإداري والحوكمة الضعيفة، نتيجة غياب الكفاءات المؤهلة وسوء التخطيط الاستراتيجي ما أدى إلى مفاقمة الهدر المالي وتزايد الفساد الإداري”.
وتابع، أن تدني الأجور خلال السنوات الماضية في القطاعات العامة تسبب في تسرب الموظفين والاستقالات إضافةً إلى الهجرة، مما أدى إلى الاعتماد على موظفين غير مؤهلين ولا يستطيعون أن يقدموا خدمات، وبالتالي تدهور الأداء الوظيفي وانخفاض مستوى الانتاجية.
لم يكتفِ توجه النظام البائد إلى خصخصة الشركات، بل كان يسعى إلى خصخصة القطاعات الحيوية كالتعليم، والصحة، والكهرباء، والماء، مع استمرار العجز الحكومي عن تأدية الدعم اللازم في ظل الانهيار الاقتصادي وتهالك المؤسسات الخدمي
التطبيق يرسم نجاح الخصخصة
رغم ما تواجهه الخصخصة من تحديات في سوريا، إلا أن باحثين اقتصاديين يؤكدون أنها الحل الوحيد في سوريا لمواجهة العجز الاقتصادي الذي تعيشه البلاد إبان حكم نظام الأسد البائد. لكنهم، في الوقت ذاته، يشيرون إلى خطوات تطبيقية ترسم ملامح نجاح خطة الخصخصة للقطاع العام، بحيث تنعكس على تأهيل المؤسسات ومعالجة الترهل، ووضع شروطٍ ناظمة تحفظ حقوق الدولة والمستثمرين معًا.
واعتبر الباحث في الاقتصاد السياسي، يحيى السيد عمر، أن أسلوب الخصخصة جيد لإدارة المؤسسات، لكنه ليس حلًا سحريًا للاقتصاد السوري، لأن العبرة ليست في الأداة، وإنما في التنفيذ. فهناك تجارب ناجحة وأخرى فاشلة، وتزيد نسبة الفشل في الدول النامية بسبب الفساد الإداري الحكومي وخصخصة المؤسسات العامة بما يحقق مصالح المستثمرين والمسؤولين الفاسدين على حساب الدولة.
وقال خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن الخصخصة اكتسبت سمعة سيئة بسبب الفساد، لكن تطبيقها وفق أسس صحيحة تحقق مصالح الدولة والمستثمرين معًا، تكون النتيجة إيجابية تتيح الاستفادة من مرونة القطاع الخاص المالية والإدارية”.
وأضاف أن اتجاه حكومة تصريف الأعمال نحو الخصخصة خطوة جيدة، كون غالبية المؤسسات خاسرة أو رابحة في الحدود الدنيا، لذلك فإن استثمارها من قبل القطاع الخاص يطور أدائها ويحقق منفعة للدولة ويجلب استثمارات أجنبية، فضلًا عن دورها في تحسين جودة الخدمات.
وتابع أنه يمكن خصخصة غالبية القطاعات الخدمية وقطاع النقل والسياحة وبعض القطاعات الصناعية، لكن لا بد أن تحتفظ الحكومة بالملكية التامة لبعض القطاعات الحيوية في الصناعات الرئيسة وشركات الإنشاءات، مؤكدًا ضرورة إبقاء قطاعات المياه والكهرباء والصحة والتعليم لضمان وصولها العادل إلى جميع المواطنين.
وأوضح أن تطبيق الخصخصة بشكل شفاف ومدروس يساهم في تعزيز الاقتصاد، مما يؤدي إلى تحسين الخدمات وزيادة العوائد، لكن سوء التطبيق ينهك الدولة بدلًا من أن يدعمها، مما يتسبب في استيلاء فئة محددة على أصول الدولة ويترك الاقتصاد في حالة من الفوضى، وبالتالي يستفيد المستثمرون المقربون من السلطة على حساب عامة الشعب.
وخلصت ورقة بحثية نشرها مركز عمران للدراسات الاستراتيجية إلى أن تحقيق الأثر المرجو من الخصخصة يجب أن يستند إلى دراسة متأنية من قبل لجان اقتصادية مختصة في مرحلة الحكومة الانتقالية المقبلة، بشكل يضمن تقييمًا شاملًا للأصول وخططًا استراتيجية تراعي الأولويات الوطنية واحتياجات التنمية، مع ضمان تحقيق الكفاءة الاقتصادية وحماية الخدمات الأساسية للمجتمع.
في الختام، تبدو خصخصة القطاعات العامة من الأدوات المهمة في مواجهة العجز الاقتصادي في البلدان التي تعاني من الترهل المؤسساتي العام، كما الحال في سوريا، لكن من الضروري أن تخضع لدراسة اقتصادية متأنية ترسم الملامح الإيجابية وتذلل السلبيات والتحديات، إضافةً إلى ضمان حقوق الدولة والمواطنين معًا، وإلا فإنها ستتحول إلى أداة تنهك الاقتصاد السوري والسوريين.