يبحث الضباط المنشقون عن موطىء قدم لهم في جيش سوريا الجديد، عقب حلّ الإدارة الجديدة أجهزة ومؤسسات النظام البائد المرتبطة بالأمن والشرطة والجيش، وتسريح كافة الضباط والعناصر التي كانت تخدم في الأفرع الأمنية والثكنات العسكرية.
وأمام تلك التطورات كثر الحديث عن نية قيادة دمشق تشكيل جيش من اتحاد الفصائل والتشكيلات الثورية العاملة في سوريا، عماده هيئة تحرير الشام التي شكلت رأس حربة في إسقاط النظام والوصول إلى دمشق، دون التطرق لدعوة الضباط المنشقين بشكل حثيث وجدي.
نواة الجيش الحر
يُعدّ الضباط المنشقون عن قوات النظام المخلوع منذ بداية اندلاع الاحتجاجات في العام 2011 النواة الأولى للجيش السوري الحر الذي خاض معارك ضد جيش النظام واستطاع التوسع في مناطق كبيرة على الجغرافية السورية.
وكانت أول حالة انشقاق في 7 حزيران/ يونيو 2011 لضابط في الجيش السوري برتبة ملازم أول هو عبد الرزاق طلاس حيث أعلن عن انشقاقه بسبب ما سماها “الممارسات غير الإنسانية والأخلاقية”، ودعا في تسجيل مصور زملاءه الضباط والعسكريين إلى الانحياز لمطالب المواطنين، ثم تلاه في 9 حزيران/ يونيو 2011 المقدّم حسين هرموش بعد حملة عسكرية على مدينة جسر الشغور بريف إدلب.
وقال في تسجيل مصور، إنه انشق بسبب قتل أجهزة النظام المدنيين العزل، وبدأ بتنظيم المنشقين عن الجيش السوري، ليعلن بعد ذلك تأسيس حركة لواء الضباط الأحرار، داعيًا ضباط الجيش والجنود للانشقاق والالتحاق بحركته.
ومع تزايد العنف والقتل ضد السوريين لم يعد بالمستطاع حصر أعداد المنشقين التي تجاوزت آلافًا بينهم حوالي 6000 ضابط من مختلف الرتب وعشرات الآلاف من صف الضباط والمجندين، منهم من انضم للفصائل العاملة في سوريا، ومنهم من تفرّق بين تركيا والأردن، وقلة قليلة توجّهت نحو أوروبا أو الدول العربية.
الضباط.. دور غائب
يرى الضباط المنشقون أنهم أمام دور غائب في جيش سوريا الجديد الذي يحتاج لوجودهم بحكم مهاراتهم وخبراتهم، وأن حالهم لم يختلف عمّا كان قبل إسقاط النظام، من حيث تعمد الإقصاء والتهميش ضمن الفصائل المقاتلة رغم مشاركة كثير منهم خلال سنوات الثورة السورية في معارك حاسمة.
ومع إعلان الإدارة الجديدة قائمة ترفيعات لقادة فصائل والأنباء عن منح رتب عليا لأجانب، ازداد استياء الضباط المنشقين في الوقت الذي تتعمد فيه الإدارة الجديدة إهمالهم رغم إصدارهم بعد أيام قليلة من سقوط نظام بشار الأسد بيانًا أعلنوا فيه عن استعدادهم لوضع أنفسهم وخبراتهم العسكرية لإعادة تشكيل جيش سورية الحرة على أسس وطنية موحدة يعبر عن تطلعات السوريين نحو الحرية والعدالة.
ولم يخرج عن الإدارة الجديدة إلا إعلان يتيم ومقتضب عن بدء إعادة العناصر المنشقين عن النظام السابق إلى أماكن عملهم وفرزهم بحسب اختصاصاتهم، حيث قال وزير الداخلية السوري، محمد عبد الرحمن، في تصريح له “بدأنا بإعادة العناصر المنشقين عن النظام المجرم الذين تركوا عملهم وانحازوا لركب الثورة السورية في جميع المحافظات، وفرزهم بحسب الاختصاصات التي كانوا يعملون بها سابقًا”.
منتصف شهر كانون الثاني/ يناير الجاري، التقى وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة مع أحد مؤسسي الجيش الحر العقيد رياض الأسعد، وحسب حديث الأسعد فإن السلطة الجديدة تعمدت إهماله، ولم تردّ على طلبه لقاء الشرع، مما دفع أبو قصرة إلى استقباله.
ويعد العقيد رياض الأسعد، المنشق في تموز/ يوليو 2011 عن جيش النظام مع َ مجموعة من المنشقين (ضباط وصف ضباط وأفراد) أحد مؤسسي الجيش السوري الحر، في 29 تموز/ يوليو 2011، وله دور واسع في تشجيع الانشقاقات عن جيش النظام، في ظاهرة غير مسبوقة في جيوش العالم. انشقاقاتٌ لضباط وصف ضباط وعناصر رفضوا مشاركة النظام بقتل المحتجين السلميين، واختاروا الوقوف بصف شعبهم، وهو الموقف الذي وضعهم مباشرة أمام مخاطر قد تصل حد الموت.
في حديثه لـ”نون بوست” أشار العقيد الأسعد إلى أن الحكومة الجديدة تصرّ على التعذر بوجود أولويات بالنسبة لها، تتمثل في توحيد الفصائل وضمّها ضمن جيش سوريا الجديد، ومن ثم يمكن وضع خطة تنظيمية لعمل الضباط المنشقين ولكن كمستشارين توكل لهم مهام استشارية.
مستدركًا حديثه بالقول: لكنها أحاديث غير مطمئنة، لأنها خالية من خارطة طريق واضحة وجدول زمني لعودة هؤلاء الضباط، والأهم هو غياب معطيات حقيقية على الأرض تتناول ضمّ تلك الفصائل تحت جناح جيش سوريا الجديد فكل ما يجري حتى الآن مجرد اجتماعات ولم نرَ أي تحركات حقيقية على أرض الواقع.
ولفت الأسعد إلى أن هناك الكثير من الضباط المنشقين الذين عادوا من تركيا والأردن باتجاه بيوتهم المدمرة في سوريا، وهم اليوم بأمسّ الحاجة لمعونات مالية، مطالبًا بمعاملتهم معاملة ضباط النظام المتقاعدين الذين ساندوه في حربه على السوريين.
ويبدو أن هناك الكثير من علامات الاستفهام في إجراءات وقرارات الحكومة الجديدة، حسب العقيد الأسعد، كالحديث عن إمكانية الاستعانة بضباط من المنظومة الأسدية بحجة الاستفادة من خبراتها، متسائلًا كيف يمكن بناء ثقة مع عملاء للنظام وموالون له من باب “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، في حين ما يزال التوجس من الضابط المنشق الذي ضحى وخسر الكثير خلال سنوات الحرب؟
وتابع الأسعد بأن الضباط المنشقين اليوم بحاجة إلى إنصاف حتى يعودوا لمكانهم الطبيعي ضمن ملاك المؤسسة العسكرية وهذا حقهم الطبيعي وهم قادرون على تغطية كل المحافظات لأن الانشقاق كان من كل المحافظات ولديهم الاختصاص والتدريب والجهوزية التامة للانخراط المباشر في العمل.
“لكن كل شيء يجري ضدهم، فمؤخرًا فُتح باب الانتساب للمدربين العسكريين ولكن بأحد الشروط الغريبة وهو ألا يتجاوز عمر المدرب 45 عامًا، ما يعني إغلاق الباب تمامًا أمام أغلب الضباط المنشقين بحكم أعمارهم في حال رغبوا بالتقدم للمسابقة”، يختم الأسعد.
تشير دراسة نشرها مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إلى أن هناك أسبابًا شوهت صورة الضابط، منها تأثير ثقافة المؤسسة العسكرية التي تراكمت في عقلية الضابط المنشق في علاقته مع الفصائل والتشكيلات في أثناء التخطيط للعمليات وتنفيذها في مواجهة الآلة العسكرية لجيش النظام، ما جعل التواصل غير سليم، فالضباط يؤمنون بالتراتبية والانضباط والتخطيط والتكتيك بينما لم تكن هذه العقلية مفهومة وسائدة لدى معظم العاملين في أرض الميدان، وانعكس ذلك على الدور المأمول من وجود الضباط في العمل الميداني.
كما أن بعض التنظيمات الراديكالية والمتشددة استغلت تلك الزاوية وعملت على تعميقها، ما أدى إلى استبعاد كثير من الضباط وتهميشهم وتقييد دورهم، وانعكس ذلك بشكل مباشر على فاعليتهم ودورهم، بل تصفية واغتيال عدد من الضباط المنشقين على يد تلك التنظيمات المتطرفة.
فيما لعب التنافس الدولي والإقليمي دورًا في تهميش دور الضباط المنشقين، إضافة إلى غياب العدالة في الدعم المالي واللوجستي من الدول الداعمة، فالدعم الكبير كان للتنظيمات التي تحمل أيديولوجيا، والقليل كان لفصائل الجيش الحر التي يقودها ضباط منشقون.
“الضباط” عماد الجيش الجديد
تضم “القوات المسلحة” الهيئة العامة للأركان والقوات الجوية والبرية والبحرية، وكلها تتبع لوزارة الدفاع، الوزارة الممارسة للسلطة الإدارية والعملياتية لتلك القوات.
ويتبع للقوات البرية فيالق وفرق مدرعة ومشاة ومدفعية ومضادات دروع وصواريخ وحرس حدود وإشارة، فيما تضم القوى البحرية غواصات وفرقاطات ومراكب مضادة للغواصات وبرمائيات وسفن بحرية.
أما القوى الجوية، فتضم مقاتلات وطائرات تدريب ونقل ومروحيات، وهذه القوى بمختلف اختصاصاتها تحتاج لكوادر مدربة وخبيرة.
ولا يمكن إنكار الحاجة الماسة لبناء مؤسسات وزارتي الداخلية والدفاع بناءً حقيقيًا على أساسٍ حرفي عماده الضباط المنشقون وصف الضباط الذين يشكلون الخلية الأولى لقيادة مقاتلي الفصائل العسكرية، فعملية القيادة والتراتبية (الإدارات، الأركان، والقوى البحرية والبرية والجوية) تحتاج لضباط وعقل عسكري وطريقة عسكرية في القيادة.
حسب الخبير العسكري والاستراتيجي العميد المنشق أحمد الرحال، فإنه يجب الاستفادة من الضباط المنشقين ليدربوا في الأكاديميات والمدارس العسكرية، فبناء الجيش السوري الجديد لا بدّ أن يبدأ مع هؤلاء، “لكنهم شريحة مبعدة ومهمشة رغم امتلاكهم الخبرة العسكرية والمعرفة والأحقية والشرعية”.
مشيرًا في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أنه على مدى عمر الثورة السورية كانت كل الجهات السياسية والعسكرية المعارضة تقريبًا تستبعد أغلب الضباط المنشقين وتعتمد على بعضهم المؤدلج والمتماهي مع مصالح تلك الجهات.
ويرى العميد الرحال أن الضباط المنشقين اليوم في حالة غضب شديد، بسبب إهمالهم وعدم التواصل معهم، فهناك من 6 إلى 8 آلاف ضابط من خريجي الأكاديميات العسكرية والكليات والمدارس الحربية، ولديهم خبرات من 30 حتى 40 عامًا ولا سيما من رتبة عميد ولواء.
مضيفًا أنه كان يجب استدعاء الضباط المنشقين العمود الفقري لوزارتي الدفاع والداخلية، لعدة أسباب: أولًا لما يملكه المنشقون من خبرات وقدرات تنظيمية ومهارات، وثانيًا لأن الجيش السابق ووحدات الشرطة التي كان على عهد الأسد البائد ليست كلها مستبعدة من الجيش الجديد وخاصة بعد إجراء التسويات، كما أن الفصائل العسكرية القادمة ليست كلها مقبولة.
أما ثالثًا، فالمنشقون قادرون على بناء الجيش السوري الجديد وإعادة الهيكلة وعملية التوافق مع الفصائل العسكرية، وعملية تجميع وضبط السلاح الثقيل الذي يحتاج لاختصاصيين تفتقر الفصائل العسكرية لمثلهم، عدا عن قلة الضباط القادرين على تغطية احتياجات الجيش السوري الجديد وضبط الجغرافية السورية وملء الثكنات والقطع العسكرية.
رتب عسكرية بالمجان
غابت أسماء الضباط المنشقين عن لوائح ترقية عشرات الضباط التي أعلنت عنها “القيادة العامة” أواخر كانون الأول/ديسمبر الفائت، علمًا أن اللوائح تضمنت بعض الأسماء الأجنبية.
وتمت ترقية نحو 50 ضابطًا، من بينهم وزير الدفاع مرهف أبو قصرة إلى رتبة لواء، إضافة لترفيع ضابطين إلى رتبة لواء، و5 إلى رتبة عميد، والبقية إلى رتبة عقيد.
وطرحت قضية الترقية تساؤلات عن الضباط المنشقين فيما إن كانت الترقية مقدمة للاستغناء عنهم، أو زيادة عزلتهم وإقصائهم مستقبلًا، خاصة أنهم الأحقّ بالترقيات من أولئك المدنيين وصغار الضباط الذين منحوا رتبًا عسكرية عليا، أو الأجانب التي تتطلب ترقيتهم الحصول على الجنسية السورية.
حسب العقيد الأسعد، فإنه ليس من صلاحيات الإدارة المؤقتة إصدار أوامر سيادية غير صادرة وفق مبادئ دستورية تتعلق بمنح رتب عليا عسكرية لمدنيين ليسوا ضباطًا بالأصل أو أجانب، في حين أن هناك رتبًا عليا لضباط منشقين لم تكلف الإدارة المؤقتة نفسها حتى لاستدعائهم.
من جهته، يشير العميد الرحال إلى أنه لا يمكن أن نسمي إجراءات الإدارة الجديدة بالترقيات، فالترقية تكون لضباط من رتبة لأعلى، لكن عندما تكون لمدنيين فذلك يسمى منح رتب عسكرية.
“ومن جهة أخرى ما هي الصفة التي يحملها أحمد الشرع حتى يمنح تلك الرتب، ثم السؤال الأهم كيف تشمل الرتب أجانب وهم غير مجنسين، وما هو اختصاص هؤلاء الضباط، فكل ذلك يتعارض مع ما قاله الشرع من أنه لا يمكن قيادة الدولة بعقلية الفصائل وعقلية الثورة، فهل هذا القرار يدار بعقلية الدولة؟”، يتساءل الرحال.
ختامًا.. فإنّه من المؤكد أن الوقت لم يفت على إعادة المنشقين إلى مواقعهم وثكناتهم، وربما لدى الإدارة بالفعل خطة لإعادهم بعد أن تنتهي من ترتيبات دمج الفصائل في المؤسسة العسكرية، ولا شكّ أن مهام الإدارة الجديدة أكثر من أن تنهيها بفترة شهر ونصف، لكن غياب التفاصيل وتأخير إعلان خططها يثير الكثير من الزوبعة والشائعات بل والريبة من أنّ هناك توجس من المشنقين مقابل أمن جانب ضباط وجنود جيش النظام، وهو ما يخلق حالة هلع ليس لدى المنشقين فحسب، بل لدى السوريين برمتهم.