98 مترشحا للانتخابات الرئاسية التونسية المبكرة التي من المقرر إجراؤها منتصف شهر سبتمبر المقبل، هذا ما أعلنته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم أمس الجمعة، مغلقة بذلك باب الترشحات نهائيا، بعد أن كانت قد فتحته من 2 حتى 9 أغسطس 2019.
الانتخابات الرئاسية المبكرة التي ستنظمها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ليست مجرّد انتخابات عادية سيصعد بواسطتها رئيس جديد للسلطة، بقدر ما ستكون تاريخية بامتياز كما وكيفا، خاصة بعد أن اختارت حركة النهضة التونسية ذات المرجعية الإسلامية، تقديم مرشّح خاص بها، لخوض غمار سباق الوصول إلى قصر قرطاج.
ترشيح حركة النهضة لعبد الفتاح مورو أحد قيادييها التاريخيين، المحسوبين على الجناح “الليبرالي” داخلها، لم يكن مجرّد مناورة قامت بها الحركة لإثبات مشاركتها في تشكيل المشهد السياسي المقبل، بل كانت “قنبلة نووية” فجرّتها “الحمامة الزرقاء” لتصيب المترشّحين المتبقّين بصدمة لم يستوعبوها بعد وفق الأصداء الواصلة من هنا وهناك.
اجتماعات ماراثونية، وتصاعد في حدة الخلافات الداخلية، وانسحابات متتالية من اجتماعات المكتب التنفيذي ومجلس الشورى المتواصلة، وصل صداها إلى وسائل الإعلام المحلية، التي لم تبخل كعادتها في محاولة تهويل ما يحدث خلف أبواب مجالس النهضة، في محاولة منها للضغط على الحركة لدعم أحد المترشّحين المحتملين لخوض هذه الانتخابات، كل هذا وأكثر، كان كفيلا بأن تخرج النهضة في ساعة متأخرة من مساء يوم الثلاثاء 6 أغسطس 2016، مفاجئة الرأي العام المحلي والعالمي، بترشيح عبد الفتاح مورو لخوض الانتخابات المقبلة.
لم يكن اختيار حركة النهضة لمرشح خاص بها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة خيارا سهلا، ولو كان الأمر كذلك، لحسم هذا الأمر من أول اجتماع للمكتب التنفيذي نهاية الأسبوع الماضي
دقائق قليلة من نشر الصفحة الرسمية للحركة لهذا الخبر، كانت كافية لكي يحتل “الترند” على شبكات التواصل الاجتماعي في تونس، محدثا بذلك زلزالا سياسيا قضّ مضاجع عدد كبير من السياسيين، ومتسببا في الوقت ذاته في إعلان “الدولة العميقة” في تونس حالة الطوارئ القصوى، بعد أن أسقط ترشح مورو حظوظ الأحصنة التي كانوا يراهنون عليها قبل أن تنطلق الانتخابات حتى.
لم يكن اختيار حركة النهضة لمرشح خاص بها لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة خيارا سهلا، ولو كان الأمر كذلك، لحسم هذا الأمر من أول اجتماع للمكتب التنفيذي نهاية الأسبوع الماضي، فالكواليس والمعلومات المؤكدة كانت تؤكد باقتراب حصول انفجار داخلي قد يعجّل بتفكّك الحزب الأكثر تماسكا في تونس إذا ما تواصل عناد رئيس الحركة والموالين له، برفض المجازفة هذه المرة.
رغم أن ترشيح حركة النهضة لأحد قيادييها ومؤسسيها التاريخيين للمشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة لم يكن بالخطوة التي يتمناها كثيرون ومن بينهم رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي حاول إعاقة ترشيح مورو بطرق عديدة، خوفا من أن يكون لهذا الترشيح تبعات سلبية قد لا يحمد عقباها في ظل وضع إقليمي معقّد ومناوئ لوجود الإسلاميين في السلطة، إلا أن المؤشرات الأولية، تؤكد أن الدولة العميقة في تونس لم تقدر على استيعاب الصدمة حتى الآن، ولم تستطع ردّ الفعل، وهو ما سيزيد من تعقيد مهمّة رجالها في الفترة المقبلة.
بترشيحها لعبد الفتاح مورو “البلدي” (الساكن الأصلي للعاصمة)، حكمت حركة النهضة على عدد من المترشّحين البارزين الطامعين في مساندتها ممن زقزقوا علنا وخفية، بالفشل قبل أن يصل أول منتخب لصناديق الاقتراع في 15 من سبتمبر الماضي، فالقاعدة الشعبية للحركة التي لن تقلّ عن 500 ألف مصوّت في أدنى الحالات، لن تقدّم صوتا واحدا لمرشّح غير نهضاوي، شاهديا، زبيديا كان أو مرزوقيا حتى.
قبل أيام قليلة من حسم حركة النهضة لموقفها وترجيح المراقبين لأن يكون عبد الكريم الزبيدي أو يوسف الشاهد مرشّح النهضة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مورست ضغوطات رهيبة على رئيس الحركة راشد الغنوشي من الداخل والخارج حتى ينال أحد الرجلين دعم مئات آلاف النهضاويين
رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي والرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، هم أكبر الخاسرين من هذه الخطوة محسوبة العواقب التي قامت بها النهضة، فالرجال الثلاث كانوا يمنّون النفس بأن تصل زقزقتهم الخفية ليسمعها قياديو النهضة الباحثين عن “العصفور النادر”، ولكن ذلك لم يحدث، وحدث ما لم يقرأ له الثلاثة ألف حساب، رغم أنهم حاولوا إظهار تماسكهم المصطنع واطمئنانهم أمام عدسات المصوّرين وفي تصريحاتهم للصحفيين فور تقديم ملفّات ترشّحهم لهيئة الانتخابات.
قبل أيام قليلة من حسم حركة النهضة لموقفها وترجيح المراقبين لأن يكون عبد الكريم الزبيدي أو يوسف الشاهد مرشّح النهضة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مورست ضغوطات رهيبة على رئيس الحركة راشد الغنوشي من الداخل والخارج حتى ينال أحد الرجلين دعم مئات آلاف النهضاويين، خاصة وأنهما يعتبران كما لا يخفى على المراقبين للشأن التونسي، مدعومين من قوتين غربيتين، الأول من الولايات المتحدة الأمريكية والثاني من فرنسا.
عبد الفتاح مورو القاضي والمحامي التونسي المعروف، وأحد أكبر أعداء الجماعات الإسلامية المتشدّدة في تونس، وصديق السياسيين التونسيين من مختلف مشاربهم، وأحد أبناء حركة النهضة ممن رفض اللجوء إلى خارج تونس للمعارضة
أمام هذه الضغوطات المحلية والغربية، وإكراهات الخضوع لدعوات قياديي النهضة وقاعدتها الشعبية الكبيرة لتقديم مرشّح خاص بها في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وأمام التراجع الرهيب في حظوظ رئيس الحكومة يوسف الشاهد في أن يكون رئيس تونس المستقبلي، إضافة إلى استحالة أن يكون وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي المتنافس الأبرز على كرسي الرئاسة، كان على حكماء الحركة الجلوس على طاولة الحوار وتقريب وجهات النظر، وصولا لاختيار إحدى “حمائم” النهضة من المعروفين بليبراليتهم المفرطة، لخوض هذه التجربة الجديدة.
عبد الفتاح مورو القاضي والمحامي التونسي المعروف، وأحد أكبر أعداء الجماعات الإسلامية المتشدّدة في تونس، وصديق السياسيين التونسيين من مختلف مشاربهم، وأحد أبناء حركة النهضة ممن رفض اللجوء إلى خارج تونس للمعارضة، والرجل المثير للجدل، كان ورقة رابحة قد أجاد الإسلاميون لعبها، لما يتمتع به من شعبية ليس في صفوف النهضاويين فقط، بل في صفوف فئة واسعة من الشعب التونسي ممن يرونه تونسيا مثلهم، يلبس الجبّة التونسية والشاشية، ويعترف بالأشعرية عقيدة يتبناها، وبفقه الإمام مالك مذهبا متبعا.
سننتظر ونرى ماذا ستحمل الانتخابات الرئاسية المقبلة من مفاجئات للتونسيين، لكننا بتنا شبه مؤكدين بأن عبد الفتاح مورو سيكون أول الواصلين للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية المقبلة، في المقابل، لا أحد منا يمكنه الجزم بمن سيرافق “الشيخ الليبرالي”، رغم أننا لا نستبعد أن يكون ذلك مؤسس حزب قلب تونس، ورجل الإعلام والأعمال التونسي، نبيل القروي، خاصة بعد التشتّت الذي أصاب “العائلة الديمقراطية”، خلال الأيام الأخيرة، بسبب رفض رموزها الانسحاب والاصطفاف خلف مرشّح توافقي واحد، والحديث عن ذلك قد يكون في المقال المقبل.