جنيفر لوبيز في مصر: تطبيع وسَفَه ورقص على الدماء

تهتم الحكومة المصرية اهتمامًا كبيرًا بملف السياحة وفكرة الترويج لها بطرق غير تقليدية، مدفوعةً في ذلك بالرغبة في تعويض خسائر هذا القطاع الحيوي منذ ثورة 25 يناير وما تلاها من أحداث، وتحقيق تدفقات مالية – بالعملات الصعبة – لملايين المصريين العاملين في هذا القطاع، عبر الاستفادة من المُقومات السياحية الهائلة التي تمتلكها مصر، خاصة في الموسم الصيفي.
وقد شرعت مصر خلال الأعوام الخمس الماضية في الاعتماد على إستراتيجية “استقدام نجوم عالميين”، في السينما والرياضة والموسيقى، لإقامة عروض فنية أو لقضاء عطلة والتمتع بجولة في أحد المعالم السياحية، كنوعٍ من الاستفادة التِجارية المتبادَلة بين هؤلاء النجوم والرعاة والبلد المضيف، فاستضافت مصر لاعبي كرة قدم معروفين مثل ليونيل ميسي وسيرجيو راموس ورونالدينهو، وأقامت عروضا فنية غنائية لنجوم مثل Yanne وRuss وغيرهم.
إلا أن الحفل الأخير في مصر الذي شهد استضافة نجمة البوب الأمريكية جينيفر لوبيز، مساء أمس الجمعة، بالساحل الشمالي بمدينة العلمين الجديدة، شهد موجة اعتراضات واسعة، لأسبابٍ تتعلق بالنجم المستضاف وحيثيات مكان الاستضافة وتوقيت الحفل.
الفن في خدمة التطبيع
قبل أسبوع واحد فقط من زيارتها إلى مصر، أحيتْ “لوبيز” حفلاً غنائيًا ضخمًا في منتجع “Yarkon Park“، بتل أبيب، بحضور أكثر من 50 ألف مشاهد “إسرائيلي”، في إطار جولتها السياحية الخارجية التي تحتفل فيها بعيد ميلادها الخمسين It’s my party“.
عند صعودها إلى المسرح، بادرتْ لوبيز بتقديم التحية للجمهور “الإسرائيلي” الحاضر باللغة العبرية “شالوم”
وقبل التنظيم، تعرضت “لوبيز” لحملات ضغط إعلامية شديدة من فلسطينيين بغرض إلغاء الحفل المقام على أنقاض قرية “الجريشة” الفلسطينية التي هجر أهلها عصابات “الأرغون” الصهيونية عام 1948، إلا أن وكيل أعمال لوبيز حسم الموقف من إقامة الحفل في لقاءٍ تليفزيوني مع القناة الـ12 الإسرائيلية قال فيه: “لا شيء يستطيع منع إقامة الحفل، لأن لوبيز تستحق إسرائيل، وإسرائيل تستحق لوبيز”.
وفور وصول لوبيز إلى “إسرائيل”، عبرت عن سعادتها وأهلها بالوجود في “الوطن الأم: The mother land” من خلال رسالةٍ نشرتها في “Story” على موقع “إنستغرام”، ثم قامت بجولة سياحيةً في معالم القدس القديمة، أدت خلالها صلواتٍ تلمودية عند حائط المبكى، تحت حراسة أمنية مشددة من قوات الشرطة الإسرائيلية.
وعند صعودها إلى المسرح، بادرتْ لوبيز بتقديم التحية للجمهور الإسرائيلي الحاضر باللغة العبرية “شالوم”، وفي أثناء تقديم إحدى الرقصات الاستعراضية طلبت من ابنتها الصعود إلى المسرح لتشاركها الرقص، ثم ختمت عرضها الغنائي بالسؤال عن ترجمة عبارة “أنا أحبكم” باللغة العبرية.
وردًا على هذه الممارسات، أطلقت صفحة (BDS) مصر، بالتعاون مع مبادرة “جيش الهبد الإلكتروني” الفلسطينية، حملةً إعلاميةً على مواقع التواصل الاجتماعي، للمطالبة بإلغاء حفل جنيفر لوبيز وعدم استقبالها في مصر، دشنت خلالها وسمًا بعنوان #مصر_تقاطع، ورفعت شعار:”هنعلمها إن ده احتلال” في وجه الحملة الإعلامية التي أطلقها عدد من رعاة الحفل مع عددٍ من الفنانين المصريين للترحيب بجنيفر تحت عنوان: “هتعلمها إيه؟”.
حفل لوبيز طرح أيضًا عدة تساؤلات تخص التحولات الاجتماعية الجديدة في مصر، وعلاقة السلطة برجال الأعمال، والغرض من المشروعات العقارية الجديدة التي تقوم بها الحكومة المصرية في مناطق متعددة منذ عدة سنوات
الحملة الشعبية المصرية لمقاطعة “إسرائيل” (BDS) تتكون من أحزاب سياسية واتحادات وحركات طلابية ونقابات ومنظمات غير حكومية وشخصيات مصرية عامة، وتعتبر جزءًا من الحركة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات اقتصادية ضد “إسرائيل”، حتى إنهاء الاحتلال وتحرير فلسطين.
وعلى الرغم من ذلك، تجاهلت شركة “أوراسكوم للتنمية”، الراعي الأول للحفل والمملوكة لرجل الأعمال المصري سميح ساويرس، شقيق رجل الأعمال المصري الآخر نجيب ساويرس، حملات المقاطعة، مكتفيةً بحذف المنشور الذي تفاعل عبره المدونون الرافضون للحفل، ونظمت الحفل في موعده بحضور عدد كبير من رجال الأعمال والسياسة والفن.
وقد أتى هذا الحفل في وقتٍ كثر فيه الحديث عن فرص “التطبيع الثقافي”، حيث احتفت الأوساط الثقافية الإسرائيلية مؤخرًا بتصريحات وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني، التي دعا خلالها إلى ترجمة الآداب الإسرائيلية بدعوى التعرف على الآخر، معتبرًا أن المقاطعة الثقافية باتت أمرًا لا قيمة له في زمن العولمة، ومشيرًا في الوقت ذاته إلى أن التعاون مع “إسرائيل” في أي مجال سلمي، بما في ذلك الفنون، هو “في صالحنا”، خاصة أن “إسرائيل” لم تمانع ترشحه إلى اليونسكو كما شاع إعلاميًا فيما يعرف بـ”معركة اليونسكو”، كما تسعى بعض شركات الإنتاج السينمائي الدولية إلى تشبيك مخرجين مصريين بمخرجين إسرائيليين في مجال الأفلام التسجيلية.
البرجوازية المصرية الجديدة
حفل لوبيز طرح أيضًا عدة تساؤلات تخص التحولات الاجتماعية الجديدة في مصر، وعلاقة السلطة برجال الأعمال، والغرض من المشروعات العقارية الجديدة التي تقوم بها الحكومة المصرية في مناطق متعددة منذ عدة سنوات، فقد بيعت تذاكر الحفل من خلال أربع فئات متدرجة تبدأ من 2000 جنيه وصولًا إلى 4500 جنيه للفئة الذهبية، مع إمكانية “تقسيط” ثمن التذكرة على 36 شهرًا، بمعدل101 جنيه شهريًا، من خلال موقع حجز التذاكر (Ticket Egypt)، حيث سخر الإعلامي المصري إسلام عقل على صفحته الرسمية بموقع تويتر من سعر التذاكر الباهظ وتقسيطها قائلاً: “مش مهم الشعب ياكل ويشرب ويتعالج، حفلة جنيفر لوبيز بالقسط، يا بلاش!”.
بحث معدلات الدخل والإنفاق الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 30 من يوليو/تموز الماضي عن عام 2017/2018 أظهر أن 32.5% من المصريين باتوا “فقراءً” رسميًا
ومع ذلك، لم تستطع الشركة المنظمة Venture Lifestyle المملوكة لرجل الأعمال اللبناني ربيع مقبل، تحصيل المبلغ المرصود لإقامة الحفل (25 مليون جنيه) من خلال بيع التذاكر، فضلاً عن تحقيق أرباح، فلجأت إلى التعاون مع أوراسكوم للتنمية – التي دفعت 15 مليون جنيه – لرعاية الحفل والتسويق لأبراجها العقارية التي يجري إنشاؤها بمدينة العلمين الجديدة.
بحث معدلات الدخل والإنفاق الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 30 من يوليو/تموز الماضي عن عام 2017/2018 أظهر أن 32.5% من المصريين باتوا “فقراءً” رسميًا، بزيادة 5.5% (نحو 5 ملايين مصري) عن آخر إصدار من هذا التقرير في 2015، علمًا بأن هذا البحث لم يخرج إلى النور إلا بعد تدخلات من “جهات سيادية” قامت بمواءمة نتائجه مع الأرقام الصادرة عن الحكومة، وقد جرى إعداده وفقًا لحساب معدل الفقر (734 جنيهًا للفرد شهريًا) بمقاييس محلية أقل من نظيرتها المعمول بها في البنك الدولي التي تقدر إنفاق “الفقير” عالميًا بنحو 1.90 دولار أمريكي، كما أنه لم يتضمن معالجة الأرقام الواردة بعد الزيادة الأخيرة في أسعار الوقود والكهرباء، يوليو/تموز الماضي.
ويرجح باحثون أن تدفع السياسات الاقتصادية “الإصلاحية” التي تتبعها الحكومة المصرية، وتعتمد على الاقتراض والديون – التي بلغ وحدها 4.181 تريليون جنيه مصري في مايو الماضي بزيادة سنوية أكثر من 20% – ورفع سعر الفائدة لتحصيل مزيد من الضرائب، إلى زيادة معدلات الفقر وضعف القدرة الشرائية وتراجع “وهمي” في التضخم، وهي العوامل التي ستؤدي مجتمعة إلى “هروب” الأغنياء خارج الحزام السكني المصري بصورته التقليدية، خوفًا من تفاقم الأمراض الاجتماعية وتزايد معدلات الجريمة في النطاقات الأكثر فقرًا، إلى المدن الجديدة التي تقوم الحكومة بتدشينها مع رجال الأعمال، ويقول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إنه يقوم ببنائها مع المستثمرين “عشان تجيب فلوس”.
أكدت الحكومة المصرية تبني هذا الحفل سياسيًا عبر تفقد رئيس الحكومة وعدد كبير من الوزراء لموقع الحفل يوم الخميس الماضي
سعر المتر في الأبراج الجديدة بمدينة العلمين التي استضافت الحفل وصل إلى 50 ألف جنيه مصري، وتخطط الحكومة بالتعاون مع المستثمرين لبناء 23 برجًا سكنيًا مطلاً على البحر بارتفاعات شاهقة تصل إلى 170 مترًا، إلى جانب مشروع الإسكان المتميز و”الداون تاون”، بالإضافة إلى 296 فدانًا لبناء أكثر من 15 ألف غرفة فندقية، وممشى سياحي بطول 14 كيلومتر، ومدينة ترفيهية تضاهي “والت ديزني”، وتطوير المطار القديم، وإنشاء محطة لتحلية مياة البحر، وقطار كهربائي فائق بسرعة 250 كيلومتر يربط بين مدينة السادس من أكتوبر ومدينة العلمين الجديدة بطول 221 كيلومتر.
وقد أكدت الحكومة المصرية تبني هذا الحفل سياسيًا عبر تفقد رئيس الحكومة وعدد كبير من الوزراء لموقع الحفل يوم الخميس الماضي، ثم حضور كل المجموعة الوزارية النسائية للحفل، كما قامت – من ناحية أخرى – بنقل مسلة الملك رمسيس الثاني التي يصل طولها إلى 130 مترًا ويبلغ وزنها 90 طنًا، من موقعها بحديقة الأندلس بالقاهرة إلى العلمين الجديدة، لتزين مدخل قصر رئاسي منيف يجري بناؤه بالمدينة التي تخطط لها الحكومة كي تصبح العاصمة الثانية لمصر، بعد العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة.
خطط الحكومة المصرية لاستصلاح 14 مدينة جديدة من نفس هذا الطراز، “مدن الجيل الرابع”، في إطار الخطة التنموية للدولة (مصر 2030) جعلتْ ما كتبه الأديب الراحل أحمد خالد توفيق في رواية “يوتوبيا” (2008) متنبئًا بأن الأغنياء “سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها، وتندثر ظلمًا وقهرًا وفقرًا ومرضًا، ويذهبون إلى عاصمتهم الجديدة، حتى لا تتأذى أعينهم بكل هذا الدمار” أشبه بـ”مانفيستو” يتداوله المصريون بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي لفهم ما يدور حولهم في علاقة الدولة برجال الأعمال خلال هذه المرحلة.
رقص على الجثث وعدم احترام للشعيرة الدينية
استنكر مراقبون دعم وزراء الحكومة المصرية حفلاً غنائيًا وإظهارهم مظاهر البهجة، باعتبارهم ممثلين عن الشعب المصري، بعد 5 أيام فقط من الحادث الإرهابي الذي وقع أمام معهد الأورام الأكبر في القاهرة ، حاصدًا أرواح 22 شخصًا، منهم 15 من عائلةٍ واحدة، ونتج عنه إصابة 47 شخصًا، في حين رأى بعض المتابعين في حضور الوزراء، وتوقيت إقامة الحفلة (عشية ليلة الوقوف على جبل عرفات)، سوء تقدير للسياق العام وخروجًا عن اللياقة.
وبعد هذا الحادث، وجهت الداخلية المصرية أصابع الاتهام إلى حركة “حسم” الإرهابية التي نفت بدورها هذا الاتهام، وقالت الداخلية المصرية في بيانها المُعدل إن السيارة التي كانت تحمل كمية من المتفجرات، بهدف استخدامها في عمل إرهابي خلال عيد الأضحى، اصطدمت بسيارتيْن أخريين بعد سيرها عكس الطريق في شارع المنيل، أمام معهد الأورام.
وأعلنت الداخلية المصرية، الخميس الماضي، توصلها إلى هُوية الشاب، قائد السيارة التي أدت إلى الانفجار، ويُدعى عبد الرحمن خالد محمود عبد الرحمن، ويحمل اسمًا حركيًا (معتصم)، هارب من قضية إرهابية (طلائع حسم) عام 2018، عبر مطابقة الحمض النووي لأشلاء جثته (DNA) بالحمض النووي لأفراد أسرته، وبثت شريط فيديو قالت إنه للشاب مرتكب العملية الإرهابية يقوم بوداع أهله بعد تلقيه تكليفًا بالعملية، كما أعلنت أنها استطاعت قتل 19 عنصرًا من الخلية الإرهابية المنفذة للهجوم، بعد اشتباكات تلت مداهمة وكرين إرهابيين في القاهرة والفيوم، من بينهم شقيق الشاب منفذ العملية، الذي قُتل في أثناء محاولة الهرب، بعد أن اعترف على أحد العناصر الضالعة في التخطيط للهجوم.
إلا أن محللين محسوبين على النظام المصري شككوا، بدافع “الوطنية”، في “تماسك” الرواية المقدمة من وزارة الداخلية، استنادًا إلى عدة معطيات، من بينها سرعة كشف كل عناصر الخلية، حيث لم تستغرق التحريات أكثر من يومين، وتنفيذ المداهمات والاشتباك دون أي إصابات في صفوف الشرطة في حين قُتل كل عناصر الخلية الإرهابية كما هو معتاد، وتضارب الروايات عن هُوية المتهم بين الداخلية والشهود الذين أدلوا باعترافاتهم في شريط مصور أظهر – بوضوح – تلقينهم هذه الشهادة عبر وسيطٍ خارجي يشبه قارئ النشرة “أوتو كيو”، فيما رأى بعض المعارضين أن إعلان الداخلية المصرية مقتل 19 شخصًا، هو امتداد لمنهجها في تحميل معارضيها مسؤولية إخفاقاتها الأمنية، عبر “القتل خارج إطار القانون”.