أفادت القناة 14 العبرية بأن العملية العسكرية الإسرائيلية في شمالي الضفة الغربية ستتوسع لتشمل مدينة طولكرم ومخيماتها، بعد أسبوع من الهجمات المكثَّفة في مخيم جنين، الذي كان المحطة الأولى لعملية “السور الحديدي”. هذه العملية، التي أقرَّها “الكابينيت” الإسرائيلي، أدرجت نتائجها ضمن أهداف الحرب المحدَّثة، والتي تسعى إلى تصفية ممنهَجة للمقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة.
يتضح من توقيت العملية العسكرية وحجمها أن “السور الحديدي” جاءت جزءًا من تفاهمات نتنياهو-سموتريتش، الهادفة إلى تعزيز استقرار الائتلاف الحكومي، والمضي قدمًا في تنفيذ خطط تصفية القضية الفلسطينية.
في جوهر هذه التفاهمات، تبرز خطوة فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وهو هدف يتطلب تحييد كل مكامن المقاومة وضمان ألَّا تشتعل الضفة كميدان مواجهة واسعة النطاق في المستقبل القريب.
مَشاهد غزة تعود: جنين تحت الحصار والقصف
في 21 يناير/كانون الثاني، أعلن الجيش الإسرائيلي بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في جنين شمالي الضفة المحتلة، استهدَفت المدينة ومخيمها، أحد أبرز معاقل المقاومة الفلسطينية. وذكرت مصادر محلية أن اشتباكات عنيفة اندلعت بين مقاومين وقوات الاحتلال في محاور عدة بمحيط المخيم، ودفع الاحتلال بتعزيزات عسكرية كبيرة في محاولة لإحكام السيطرة على المنطقة.
استخدمت قوات الاحتلال في العملية وسائل عسكرية مكثفة، تضمنت القصف الجوي بالمُسيَّرات، والمروحيات من طراز “أباتشي”، وإطلاق النار العشوائي من الأسلحة الرشاشة لتوفير غطاء ناري مكثف يتيح تنفيذ اقتحام واسع وعنيف.
وفقًا للإحصاءات الرسمية، أدى العدوان المستمر إلى استشهاد أكثر من 16 فلسطينيًّا، وعشرات الإصابات، واعتقالات واسعة، وعمليات نزوح قسري، وتدمير أكثر من 30 منزلًا.
رغم الحصار والعدوان المكثَّف؛ استمرت المقاومة الفلسطينية في جنين بالتصدي لقوات الاحتلال، معلنة خوض معارك عنيفة في محاور القتال داخل المخيم.
فرض الاحتلال حصارًا محكمًا على المخيم، مغلِقًا جميع مداخله ومخارجه بالكامل. وشهدت المنطقة مَشاهد تذكِّر بالعمليات العسكرية في غزة، إذ فرض الاحتلال حصارًا على مستشفى جنين الحكومي (مستشفى الشهيد خليل سليمان)، وأغلق الطرق المؤدية إليه بالسواتر الترابية، وجرف المداخل المحيطة به، ما أعاق تقديم الخدمات الطبية للمصابين.
ومع استمرار العملية، لجأ الاحتلال إلى وسائل ضغط إضافية لدفع سكان المخيم إلى النزوح القسري، محاولًا إفراغه من سكانه، فألقى الجيش منشورات تحذرهم من البقاء في منازلهم، تزامنًا مع قصف المخيم بالطائرات الحربية، واستخدم مسيَّرات “كواد كابتر” مزوَّدة بمكبرات صوت لدعوة السكان إلى مغادرة منازلهم فورًا، وحدَّد فترة السماح بالنزوح من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً.
في المقابل، ورغم الحصار والعدوان المكثَّف؛ استمرت المقاومة الفلسطينية في جنين بالتصدي لقوات الاحتلال، معلنة خوض معارك عنيفة في محاور القتال داخل المخيم. وأعلنت استهداف قوات جيش الاحتلال بزخات كثيفة من الرصاص والعبوات الناسفة، أدت إلى إصابات مؤكدة في صفوفه، وفجرت عبوات ناسفة فأعطبت آليات عسكرية وجرافات، ما أعاق تقدم قوات الاحتلال.
اعترف جيش الاحتلال بإصابة ثلاثة جنود من وحدة الكوماندوز “إيغوز” في المواجهات، وأكدت المصادر العسكرية الإصابة الخطيرة لأحدهم.
تحديث أهداف الحرب لترسيخ الائتلاف الحكومي
بعد إعلان جيش الاحتلال بدء عملية “السور الحديدي” في جنين، أكدت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنها جاءت بقرار من المستوى السياسي، وجرت المصادقة عليها في اجتماع “الكابينيت” الذي عُقد مؤخرًا وشهد تحديثًا لأهداف الحرب القائمة، ليُضاف إليها إحكام السيطرة على الضفة الغربية، بناءً على ضغوط من شركاء بنيامين نتنياهو في الائتلاف الحكومي، ولا سيما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.
هدف العملية بحسب تصريح وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، هو “حماية المستوطنين والنقاط الاستيطانية”، واصفًا إياها بأنها غير مسبوقة في نطاقها وحجمها. وأعلن رئيس وزراء الاحتلال أنها “خطوة أخرى نحو تحقيق الأمن في الضفة الغربية”، في إشارة إلى استراتيجية جديدة تتجاوز مجرد احتواء الأحداث الميدانية إلى إعادة تشكيل الواقع الأمني والسياسي في الضفة.
وتزامن قرار بدء العملية مع توقف القتال وسريان الهدنة في غزة، ما يؤكد ارتباط التحركات الإسرائيلية في القطاع والضفة. إذ شملت الإجراءات الإسرائيلية في الضفة المحتلة عزل المدن وتركيب بوابات حديدية جديدة، وإغلاقًا محكمًا للطرق. وتشير هذه الخطوات إلى أن عملية جنين ليست مجرد رد أمني مرتبط بإنذارات ساخنة، بل إنها جزء من استراتيجية أوسع يسعى نتنياهو إلى تنفيذها، في إطار التفاهمات مع شركائه في الحكومة، وخاصةً حزب الصهيونية الدينية.
تمثِّل العملية تغييرًا في مفهوم الأمن الإسرائيلي في الضفة، وتضع نموذجًا جديدًا للتعامل مع المخيمات والمناطق التي تُعَدُّ معاقل للمقاومة الفلسطينية
سموتريتش، الذي هدد بالانسحاب من الحكومة إن لم تنفَّذ مطالبه، عدَّ عملية جنين “تحركًا ضروريًّا لحماية الاستيطان والمستوطنين”، مؤكدًا أنها جزء من خطة شاملة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الضفة، وأنها تنفيذ فعلي لسياسة “السور الحديدي” الهادفة إلى “اجتثاث الإرهاب” وحماية المشروع الاستيطاني بوصفه “حزام الأمن” لـ”دولة إسرائيل”.
على الرغم من كشف القناة 12 العبرية أن عملية جنين قُررت مسبقًا بناءً على توصيات رئيس “الشاباك” رونين بار، الذي طالب بتوسيع العمليات لمواجهة ما وصفه بـ”تطور الإرهاب في الضفة الغربية”، ارتبط توقيت العملية وتسارعها بعدة عوامل وفقًا لصحيفة “معاريف”، منها الاتفاق مع حركة “حماس” بشأن تحرير “المختطفين” الإسرائيليين مقابل إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين، وهي خطوة يخشى الجيش الإسرائيلي أن تؤدي إلى تعزيز الروح المعنوية للمقاومة وتزايد هجماتها في الضفة.
وأشارت تقارير عبرية إلى أن الجيش يرى في عملية جنين فرصة لمعالجة ما عدَّه “نقاط ضعف أمنية” مستفيدًا من دروس العمليات السابقة في غزة. ووفقًا لتصريحات وزير الحرب، تمثِّل العملية تغييرًا في مفهوم الأمن الإسرائيلي في الضفة، وتضع نموذجًا جديدًا للتعامل مع المخيمات والمناطق التي تُعَدُّ معاقل للمقاومة الفلسطينية، وهدفها القضاء على “البنية التحتية للإرهاب” في المخيم وضمان ألَّا تعود إلى الظهور.
توضِح عملية جنين تداخلَ الحسابات السياسية والأمنية في قرارات الاحتلال، فهي ليست مجرد خطوة عسكرية، بل تأتي في سياق صفقات وتفاهمات داخلية تهدف إلى تعزيز تماسك الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، وإعادة رسم المعادلة الأمنية والسياسية في الضفة.
المقاومة بين فكَّي كماشة: التنسيق الأمني والاستنزاف المتبادل
عانى مخيم جنين من ظروف صعبة للغاية في الأشهر الماضية، إذ فرضت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حصارًا خانقًا استمرَّ 45 يومًا، قطعت في خلاله المياه والكهرباء عن المخيم، ونفذت حملة ضد المقاومة الفلسطينية بذريعة مواجهة “الخارجين عن القانون”. حاولت “كتيبة جنين” وفصائل المقاومة الأخرى تجنُّب الاشتباك المباشر مع أجهزة السلطة، لكن الأخيرة استمرت في تضييق الخناق على المخيم، ما زاد حالة الاحتقان والتوتر.
على الرغم من جهود الوساطة التي بذلها الوجهاء ولجان الإصلاح للتوصل إلى تسوية بين السلطة والمقاومة، قوبلت المحاولات برفض السلطة. تفاقمت الأوضاع مع تزايد الانتهاكات التي وثَّقها سكان المخيم، واستمرار منع حركة المواطنين بِحرِّية، فانهارت محاولات التوصل إلى حل سلمي. لم يقتصر الأمر على ذلك، ففي خطوة أثارت استياءً شعبيًّا واسعًا وعدَّها كثيرون تكاملاً في الأدوار مع جيش الاحتلال، اعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية مقاومين حاولوا دخول المخيم لإسناد رفاقهم.
السلطة الفلسطينية لم تكتفِ بدورها الاستنزافي عبر عمليتها الأمنية الطويلة، بل استكملت حملتَها بملاحقة كوادر المقاومة في القرى المحيطة بجنين، بالتزامن مع التصعيد العسكري الإسرائيلي على المخيم
لحظة دخول قوات الاحتلال إلى مخيم جنين، وثَّقت كاميرات المواطنين انسحاب الأجهزة الأمنية من محيط المخيم، في مشهد وصفه الناشطون بـ”تبادل الأدوار الواضح“. وبرر الناطق باسم الأجهزة الانسحابَ بأنه محاولة لتجنب مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، نافيًا وجود أي تنسيق مع الاحتلال، لكنه أشار إلى أن الاقتحام باغت الجميع، وأدى إلى مقتل أحد عناصر الأجهزة الأمنية وإصابة آخرين.
خلافًا لتصريحات السلطة، أفادت القناة 12 العبرية بأن مسؤولين في المنظومة الأمنية الإسرائيلية نقلوا رسائل دقيقة إلى رام الله قبيل الاقتحام تؤكد وجود تنسيق مسبق. وذكرت “جيروزاليم بوست” أن الاحتلال منح السلطة الفلسطينية تقييمًا إيجابيًّا نسبيًّا لجهودها في مواجهة المقاومة في جنين، لكنه عَدَّها غير كافية. وحسب التقارير العبرية، كان مخططًا للعملية الإسرائيلية في جنين منذ أشهر، لكنها انطلقت بعد وقف إطلاق النار في لبنان وغزة، ما أتاح تركيز الجهود الإسرائيلية على الضفة.
أظهرت الأحداث على الأرض أن السلطة الفلسطينية لم تكتفِ بدورها الاستنزافي عبر عمليتها الأمنية الطويلة، بل استكملت حملتَها بملاحقة كوادر المقاومة في القرى المحيطة بجنين، بالتزامن مع التصعيد العسكري الإسرائيلي على المخيم. وفي مشهد يَعكس تعقيدَ المعادلة السياسية والأمنية في الضفة، وضع هذا التنسيقُ غيرُ المعلنِ المقاومين بين فكَّي كماشة: حملة أمنية فلسطينية، وعدوان عسكري إسرائيلي موسَّع.
تَعكس هذه المؤشرات تدشينَ مرحلة جديدة من التنسيق الأمني بين الاحتلال والسلطة، وصلت إلى العمل الميداني المشترك لتصفية قوى المقاومة وتجريدها من قدرتها على التأثير.
تفكيك ممكنات المواجهة الفلسطينية تمهيدًا للضم
تكشف التقارير العبرية أن عملية “السور الحديدي” التي تشنها “إسرائيل” في شمالي الضفة ليست مجرد حملة أمنية مؤقتة، بل خطوة تمهيدية لخطة الضم الإسرائيلية الكبرى. تستهدف الخطة ضم ما تبقى من أراضي الضفة إلى السيطرة الإسرائيلية، في واحدة من أوسع عمليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية منذ نكسة 1967. وتعد تصريحات وزير المالية الإسرائيلي، الذي أعلن أن العام 2025 عام فرض السيادة الإسرائيلية، دليلاً على المسار التصعيدي الذي تسلكه حكومة الاحتلال مستفيدةً من وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض لتنفيذ خططها العدوانية.
تُظهِر العملية العسكرية الحالية أن “إسرائيل” تسعى إلى تحييد ممكنات المواجهة الفلسطينية، التي تمثِّل حجر عثرة أمام تنفيذ خططها التوسعية. إذ باتت مجموعات المقاومة الناشطة في شمالي الضفة، التي ترسخت في السنوات الأخيرة بوصفها قوة اشتباك يومي مع الاحتلال، تشكِّل تهديدًا متزايدًا لحكومة الاحتلال، ولأجهزته الأمنية التي رصدت تنامي قدرات المقاومة في استهداف المستوطنين والجنود بأساليب أكثر تطورًا وضربات مؤثرة، لتشكِّل العقبة الأبرز أمام فرض سيطرة الاحتلال على الضفة.
الاحتلال يسعى إلى استغلال الظروف الحالية لإحكام قبضته على الضفة، مستخدِمًا مزيجًا من القوة العسكرية المكثَّفة، والتنسيق الأمني، والضغط السياسي لتمرير خطة الضم دون مقاومة
في المقابل، لعبت السلطة الفلسطينية دورًا أساسيًّا في تعطيل ممكنات النهوض الوطني الفلسطيني، باستهداف قوى المقاومة وإضعاف الحراك الشعبي الفلسطيني، ضمن عملية تنسيق متواصل مع الاحتلال ساهم في تحييد أدوات الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، وأتاح له فرصة تنفيذ مشاريعه التوسعية دون أن يواجِه تصعيدًا شعبيًّا واسع النطاق، ما يجعل من مجموعات المقاومة في شمالي الضفة بارقة الأمل الأخير الذي قد يحُول دون تحقيق “إسرائيل” لخططها، عبر تصعيد المواجهة وتحويل الضفة إلى منطقة ملتهبة تقف عائقًا أمام تمرير الضم بسلاسة.
تواجِه المقاومة في شمالي الضفة أعنف الهجمات التي تستهدف بنيتها وقواعدها، إذ تعرضت لإنهاك مستمر على مدار الأشهر الماضية بحملات ميدانية متواصلة من الاحتلال والسلطة، شملت عمليات اغتيال واعتقالات متزامنة، مع تصعيد غير مسبوق في الاستهداف الجوي من جيش الاحتلال.
تعي حكومة الاحتلال أن تجريدَ الفلسطينيين من أدوات المواجهة والاشتباك الطريقُ الأقصرُ لتمرير خطة الضم وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة المحتلة، وبالتالي تُسهم هذه الحملة في تقليل احتمالات تحوُّل الضفة إلى بؤرة اشتعال واسعة النطاق، خصوصًا بعد تحييد المقاومة في غزة عقب حرب الإبادة الأخيرة، وجدير بالذِّكر أن تهديدات المقاومة في القطاع كانت سببًا رئيسيًّا في تعطيل خطة الضم سابقًا، وباتت الآن خارج المعادلة المباشرة، ما يَمنح الاحتلالَ مساحةً للتحرك في الضفة دون مخاطر تصعيد كبير.
تشير التطورات إلى سعي الاحتلال إلى استغلال الظروف الحالية لإحكام قبضته على الضفة، مستخدِمًا مزيجًا من القوة العسكرية المكثَّفة، والتنسيق الأمني، والضغط السياسي لتمرير خطة الضم دون مقاومة تُذكَر.