قبل ست سنوات تمامًا، يوم الجمعة الـ28 من يونيو/حزيران 2013، توجه عشرات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين للرئيس الراحل محمد مرسي إلى ميدان رابعة العدوية، تمسكًا بالشرعية ورفضًا لانزلاق الجيش في الحياة السياسية، واستباقًا لمظاهرات المعارضة المصرية التي دعت إليها حركة تُدعى تمرد، وتطالب بسحب الثقة من الرئيس.
في ميداني رابعة العدوية شرقي القاهرة والنهضة غربها، تظاهر هؤلاء واعتصموا ونصبوا الخيام، وقالوا إن اعتصامهم سلمي، لكنهم لم يسلموا من الآلة الإعلامية المؤيدة للانقلاب التي لم تنفك ليل نهار عن التحريض عليهم ونهش أعراضهم، فجردتهم من وطنيتهم وشيطنتهم ونعتتهم بأبشع الصفات.
تحولت التظاهرة إلى اعتصام، ونفَّذ وزير الدفاع حينها عبد الفتاح السيسي انقلابًا عسكريًا أزاح الحكم المدني الوليد، ثم أخد الاعتصام يكبر، واستمر 6 أسابيع شهدت مذبحتين قريبًا منه، وراح ضحيتها عشرات المصريين، ثم كان “الأربعاء الأسود” الذي أصبح فيه الميدان ساحة لاستباحة الدماء.
لم تكد شمس ذلك اليوم تغرب حتى بدأت أهوال ممتدة إلى الآن، كأن الزمن توقف هناك، فلا العدالة تحققت، ولا مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية بإنصاف الضحايا وجدت صدى لها، وسط ما يعتبره أنصار الشرعية تواطؤًا دوليًا وإقليميًا.
في ذكرى ميدان الموت
في مثل هذا اليوم، ومع إشراقة يوم الـ14 من أغسطس/آب 2013، دوَّى صوت الطلقات، واقتحمت آليات الجيش العسكرية ومدرعات للشرطة الميدان وأحاطت بجميع مداخله وأطبقت الخناق على كل من فيه، وأمطر قناصة الأمن المتظاهرين بالرصاص وأطبقوا الخناق على المعتصمين، ونفذوا أكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر الحديث، وفق منظمة “هيومان رايتس ووتش”.
رغم قسوة هذه المشاهد ووحشيتها، بات غياب العدالة والإفلات من العقاب طوال هذه السنوات أكثر قسوة على ذوي الضحايا من هذه المشاهد
قُتل ألفٌ أو يزيد وفقًا لحقوقيين، وتحدثت تقارير رسمية عن عشرات القتلى من الضباط، لكن لم تدعم هذه الرواية منظمات مستقلة، كما أُحرقت الخيام، وجُرفت الجثث، واقتحم الأمن مسجد رابعة والمستشفيات الميدانية بداخله والمحيطة به، وامتلأ المكان بالجثث، ووفقًا لشهود الواقعة، لم تكن ثمة ممرات آمنة كما روَّج الإعلام المصري، فمَنْ نجا من القتل أو السحل كان الاعتقال من نصيبه.
رغم قسوة هذه المشاهد ووحشيتها، بات غياب العدالة والإفلات من العقاب طوال هذه السنوات أكثر قسوة على ذوي الضحايا من هذه المشاهد، لكن الأكثر قسوة ووحشية وفقًا لذوي الضحايا هو استمرار نزيف الدماء المصرية البريئة بالتصفيات الجسدية والقتل خارج القانون تارة أو القتل بالإهمال الطبي في السجون والمعتقلات تارة أخرى.
على سبيل المثال، الرئيس المعزول محمد مرسي الذي اُرتكبت مذبحة رابعة للتنكيل بأنصاره والمطالبين بشرعيته فقد حياته قبل حلول هذه الذكرى نتيجة الإهمال الطبي والظروف القاسية وفقًا لأنصاره ومنظمات حقوقية تطالب بتحقيق دولي في ظروف وفاته.
ويمكن رؤية تبعات الانتهاكات بحق المتظاهرين في رابعة والنهضة بالنظر فقط إلى مصير مّنْ طالبوا بشرعيته، فقد أجبرت السلطات المصرية أسرته على دفنه ليلاً دون جنازة رسمية تليق بأول رئيس مدني منتخب أو حتى جنازة شعبية، ومنعت أسرته من تلقي العزاء فيه، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة إخفاء معالم جريمة بحقه.
فضلاً عن ذلك، شكَّلت أحكام الإعدام بدورها مقصلة أخرى حصدت المزيد من أرواح المصريين وتهدد بحصد أرواح آخرين في محاكمات قالت المنظمات الحقوقية الدولية إنها لا تتوافر فيها معايير العدالة، بل وصفتها تقارير أخرى بأنها أداة من أدوات معاقبة الخصوم السياسيين، فأغلب من قُدموا للمحاكمة وصدرت بحقهم أحكام بالسجن والإعدام من الضحايا وفقًا لمنظمة “هيومان رايتس واتش”.
أسئلة العدالة الغائبة
صحيح أن القضاء المصري فتح تحقيقًا في مجزرة رابعة، لكن لجنة تقصي الحقائق التي أنشأها الرئيس المؤقت آنذاك عدلي منصور تقصت حقائقها من عيون جلادي الضحية، والمثير أن المجني عليه تحول على ما يبدو إلى جانٍ، فلا أحد من الجيش أو الشرطة يُحاكم في هذه القضية، وصار المعتصمون المتهمين في محاكمات أُلقي فيها اللوم على قادة الاحتجاجات على وقوع الضحايا في رابعة بسبب السماح بحمل السلاح في ساحة الاعتصام، وأن المعتصمين العزَّل أخطأوا لأنهم بقوا في الاعتصام مع العلم بأن بعضهم كانوا مسلحين.
لم تكتف السلطات المصرية بهذا الحد من تدليس الحقائق فحسب، بل وبعد 6 سنوات لم يكن ثمة دليل على تلك المحاكمات – التي تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير العدالة وفقًا لمنظمات حقوقية دولية – أكثر وضوحًا من ذلك الحكم الصادر في سبتمبر/أيلول الماضي عن محكمة جنايات القاهرة، بعد أكثر من 50 جلسة و3 سنوات من المحاكمة، الذي يقضي بالإعدام شنقًا لـ75 شخصًا، في القضية المعروفة إعلاميًا بـ”فض اعتصام رابعة العدوية”، بينهم قياديو جماعة الإخوان – التي تصنفها السلطات تنظيمًا “إرهابيًا” – محمد البتاجى وعصام العريان وصفوت حجازي وعبد الرحمن البر وأسامة ياسين وعمرو زكي وأحمد عارف، وكذلك القياديان في الجماعة الإسلامية، عاصم عبد الماجد وطارق الزمر.
يُضاف إلى ذلك أحكام بالسجن المؤبد (25 عامًا) على 47 آخرين، أبرزهم مرشد جماعة الإخوان المسلمين محمد بديع ونائب رئيس حزب الوسط عصام سلطان ووزير التموين السابق باسم عودة وآخرين، بالإضافة إلى أحكام بالسجن المشدد 15 عامًا على 374 متهمًا، و5 سنوات على 215 آخرين، من بينهم المصور الصحفي محمود أبوزيد الشهير بـ”شوكان” الذي أُفرج عنه بعدما ظل في الحبس الاحتياطي لأكثر من 5 سنوات.
المذبحة التي توقعت قوى الشرعية في مصر أن تكون آخر المذابح فتحت الباب على سيل من المذابح المستمرة والمتواصلة بذريعة “الحرب على الإرهاب”
ومع مرور الأيام، قررت المحكمة توسعة قفص الاتهام ليستوعب العدد الكبير لمتهمي هذه القضية المتداولة في المحاكم منذ 6 سنوات، فوجهت لهم النيابة تهمًا تتضمن مقاومة رجال الشرطة وقتل بعضهم والتخريب والإتلاف العمدي للمباني والأملاك العامة ومحاولة قلب نظام الحكم.
وقبل أيام قليلة فقط من الذكرى السادسة، استكملت محكمة جنايات جنوب القاهرة، بمعهد أمناء الشرطة بطره، برئاسة المستشار حسن فريد، المعروف بـ”قاضي الإعدامات”، إعادة إجراءات محاكمة العشرات في هذه القضية، وأسندت النيابة إلى المتهمين اتهامات عديدة، من بينها: تدبير تجمهر مسلح والاشتراك فيه بميدان رابعة العدوية وقطع الطرق وتقييد حرية الناس في التنقل والقتل العمد مع سبق الإصرار للمواطنين وقوات الشرطة المكلفة بفض تجمهرهم والشروع في القتل العمد.
دعا ذلك المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها هيومان رايتس واتش ومنظمة العفو الدولية “أمنستي” إلى التنديد بالمحاكمات الجماعية الجائرة للناجين وحالات الإفلات من العقاب التي تنعم بها قوات الأمن المصرية بعد مرور 6 سنوات على فضها الاعتصام السلمي.
وأصدرت المنظمتان تقاريرًا حقوقية خلاصتها أن لا عدالة تم إحقاقها لضحايا رابعة، وقد ساهم في ذلك موافقة السيسي على قانون يمنح القادة العسكريين الحصانة من المقاضاة أو الاستجواب بشأن أي حدث وقع في الفترة بين 3 من يوليو/تموز 2013 ويناير/كانون الثاني 2016 إلا بإذن من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو ما يراه مراقبون متوافقًا مع تصريحات سابقة تعهد فيها بعدم تقديم أي ضابط للمحاكمة.
الإفلات من العقاب
المذبحة التي توقعت قوى الشرعية في مصر أن تكون آخر المذابح فتحت الباب على سيل من المذابح المستمرة والمتواصلة بذريعة “الحرب على الإرهاب”، وهو ما لفتت إليه “هيومان رايتس واتش” بالقول إن عمليات القتل لا تشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، بل من المحتمل أنها تشكل جرائم ضد الإنسانية.
وكما لم يكن يدور بخلد عشرات الضحايا أن اعتصامهم الذي مضى عليه أكثر من 45 يومًا ستكتب نهايته بدمائهم، لم يكن كذلك يتوقع الناجون من “المجزرة” أن يواجهوا واقعًا أكثر قتامةً مما شهدته أعينهم في الميدان، فكان مصيرهم إمَّا في سجون النظام أو مطاردون خارج وطنهم.
وفقًا لمنظمات حقوقية، أسس هذا الواقع لنهج أمني جديد، وهو التصفية الجسدية، وهو النهج الذي تعامل به نظام السيسي بعد فض رابعة مع مئات من رافضي الانقلاب
كما كان فض اعتصام رابعة ذريعة للقضاء على الخصوم السياسيين والزج بهم في السجون التي تزايد عددها بشكل مضطرد في عهد السيسي، ووصل عددها إلى 26 سجنًا من أصل 68 سجنًا في عموم البلاد، وسط أزمة اقتصادية طاحنة، وتساؤلات عن عدد المدارس والمستشفيات التي بناها السيسي.
ومع ازدياد أعداد السجون كان لا بد من زيادة أعداد المعتقلين الذين تضاعف عددهم منذ فض اعتصام رابعة، وفي هذا الصدد، يستذكر الأمين العام لجماعة الإخوان محمود حسين هذه المذبحة بوجود أكثر من 60 ألفًا بالسجون، وهو ما جاء في كلمة ألقاها في مؤتمر بإسطنبول، مساء أمس الثلاثاء، لإحياء الذكرى السادسة لفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة.
ووفقًا لمنظمات حقوقية، أسس هذا الواقع لنهج أمني جديد، وهو التصفية الجسدية، وهو النهج الذي تعامل به نظام السيسي بعد فض رابعة مع مئات من رافضي الانقلاب، إذ لا يمر شهر واحد في مصر دون إعلان وزارة الداخلية تصفية عدد ممن تصفهم بـ”الإرهابيين” الذين تلحقهم تارة بولاية سيناء أو تنظيم الدولة أو حركة حسم وغيرها، ثم تلحق هذا الإعلان عادة بعبارة “الإرهابيون قتلوا في أثناء اشتباك مع قوات الشرطة”.
وعلى ما يبدو، ليس هناك جديد في المشهد السياسي المصري المنغلق والماضي قدمًا نحو مزيد من القمع وتقييد الحريات وتوطيد الحكم بتعديلات دستورية تتيح للرئيس عبد الفتاح السيسي البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة وعصفٍ بالمنافسين.
بحسب محللين، فإن أحكام الإعدام واستهداف المعارضين تهدم أي استنتاجات بشأن حدوث أي مصالحات قريبة بين النظام وجماعة الإخوان، كما تطرح أسئلة عدة عن استقلالية المنظومة القضائية وبُعدها عن التسييس بعد إصدارها أحكامًا غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديث.