المغرب بلد منقسم بين جيلين، فإقبال الشباب على التدين يقل بالمقارنة مع الجيل الأكبر من المغاربة، ولا يعني التدين بالضرورة الالتزام بتطبيق التعاليم الشرعية والتقيد بأحكامها، لكنه يعني الكيفية التي يعيش بها الناس معتقداتهم الدينية في حياتهم اليومية. بالتالي حتى الناس الذين لا يطبقون العبادات، يستشعرون انتماءهم للهوية الإسلامية بممارسة طقوس موسمية تأخذ طابعاً استعراضيًا في بعض الأحيان.
تناقضات تتجاور داخل مجتمع مركب
أظهرت نتائج الباروميتر العربي لسنة 2019، أن 24% من الشباب المغاربة الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة يعتبرون أنفسهم متدينين، على طرف النقيض، أظهرت البيانات أن البالغين من العمر 60 عامًا فأكثر يزداد إقبالهم على ممارسة الشعائر الدينية بنسبة 68%، فيما تعتبر النساء الأكثر تدينًا مقارنة بالرجال بمعدل 44% في مقابل 31%، وإن كان إقبال سكان الأرياف والحواضر على التدين متشابه النسبة.
كثير من الناس لا يستشعرون انتماءهم للهوية الإسلامية إلا من مناسبة إلى أخرى، حيث أضحى التدين موسميًا، وبالتالي فإن اكتظاظ المساجد يوم الجمعة وصبيحة العيدين وخلال العشر الأواخر من رمضان، يعد أحد أشكال التدين الموسمي السائد داخل المجتمع المغربي المركب، كما وصفه عالم الاجتماع بول باسكون في ستينيات القرن الماضي.
يرى رشيد جرموني، وهو باحث أكاديمي في سوسيولوجيا التدين، أن هناك مؤشرات تظهر بين الفينة والأخرى، تدل على تعددية المجتمع المغربي
ويقصد باسكون بالمجتمع المركب تداخل عدة مجتمعات في مجتمع واحد، إذ تبدو الثقافات وأنماط العيش متجاورة حتى ولو كانت متناقضة، ويعتقد السوسيولوجي المولود في المغرب عام 1932 من أبوين فرنسيين، أن الدينامية الداخلية التي تميز المجتمع المغربي تولد تناقضات مختلفة يتشكل منها الواقع الاجتماعي في البلاد.
التاريخ يضغط بثقله
يرى رشيد جرموني، وهو باحث أكاديمي في سوسيولوجيا التدين، أن هناك مؤشرات تظهر بين الفينة والأخرى تدل على تعددية المجتمع المغربي، ويوضح الباحث في حديثه لـ”نون بوست”، أن هناك فئة ذهبت بعيدًا نحو علمنة المجتمع وعقلنة الدين أو تحديثه، وفتح مجال للحريات الفردية، والقطع مع هيمنة الدين على المستوى المؤسساتي والسلوكي للفرد.
لكننا نجد فئة أخرى تروم إلى المعتقد والاحتماء بالدين، في مقابل فئة ثالثة لا تعلن نفسها لأنها تعيش نوعًا من الازدواجية، كما يوضح الباحث السوسيولوجي قائلاً: “نحن اليوم أمام خريطة متعددة، وأعتقد أن الفئة التي تعيش نوعًا من الازداوجية بين ما تعتقده وما تعيشه، هي التي تمثل الأغلبية للأسف”، وفق جرموني الذي ضرب أمثلة من واقع وجود مساجد داخل نوادٍ ليلية وأمام خمارات، أو العاملات بالجنس اللواتي يمتنعن عن شرب الخمر مع اقتراب رمضان، لكنهن لا يتوقفن عن ممارسة البغاء خلال الشهر الكريم.
يحكي التاريخ أن الأمازيغ قاوموا هذا الفتح بالقوة، في مواجهة الممارسات التي سلكها قادته، ومن بعدهم ولاة الدولة الأموية ثم الدولة العباسية في المغرب
على الرغم من طغيان هذه الفئة التي تتناقض بين المعتقد والسلوك داخل تركيبة المجتمع المغربي، فإنها لا تعلن مواقفها، على الأقل الفئة الأولى تعبر عن مواقفها بوضوح، ويُعزا ذلك إلى إرث تاريخي عميق يضغط على المجتمع بثقله، وفقًا لمنظور كارل ماركس.
إرث الفتح الإسلامي؟
ورد في كتاب “تاريخ المغرب العربي” للمؤرخ المصري سعد زغلول عبد الحميد، أن فتح المغرب يتصف بالصعوبة الشديدة والمقاومة العنيدة من جانب أهل البلاد وهم الأمازيغ، “ذلك أن المغاربة أهل نجدة وقوة، لا يرضون بالضيم ولا يرضخون للذل”، كما يقول المؤرخ المصري.
وما قد يراه معظمنا فتحًا إسلاميًا، يراه البعض توسعًا استعماريًا، ويحكي التاريخ أن الأمازيغ قاوموا هذا الفتح بالقوة، في مواجهة بعض الممارسات التي سلكها قادته، ومن بعدهم ولاة الدولة الأموية ثم الدولة العباسية في المغرب، إذ عرفت تجاوزات بعيدة عن مفاهيم الإسلام ومبادئه، حسب ما جاء في كتاب “البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب”.
النظام السياسي المغربي القائم على الازدواجية لم يحسم في علاقته مع المعتقد والحريات الفردية
دين شعبي جديد
ما زالت هذه الأحداث التاريخية تضغط بثقلها على مجتمع اليوم، وتشكل خريطة متعددة القيم والتوجهات، وبالعودة إلى حوار “نون بوست” مع الباحث رشيد جرموني، يعتقد هذا الأخير أن هذه الازدواجية مرتبطة في جزء كبير منها بالمؤسسات السياسية وخاصة الرسمية منها، التي تستمد شرعيتها من الدين، وفي نفس الوقت تتبنى الحداثة والانفتاح الليبرالي.
إذ إن النظام السياسي المغربي القائم على الازدواجية لم يحسم في علاقته مع المعتقد والحريات الفردية، في اعتقاد جرموني، هو الذي يزيد من ترسيخ هذه الدينامية، حيث يرغب الناس في تبني أسلوب عيش حداثي، وفي نفس الوقت يحتمون بالدين، من هنا برزت مشكلة الارتباط الهوياتي بالدين، فالمغاربة عادة ما يصفون هويتهم بالانتماء إلى الإسلام في المقام الأول.
أدى هذا إلى انتعاشة التدين الطقوسي في السنوات الأخيرة، حيث عرفت إعادة إحياء الدين الشعبي الذي كان مرتبطًا في الماضي بالزوايا والأضرحة، وبعض الممارسات اليومية داخل الأحياء الشعبية التي يميل فيها الناس إلى الاحتماء بالدين، لكن هذا الإسلام الشعبي الجديد، كما يصفه جرموني، تجاوز الفقراء ليخترق الفئات الغنية التي بدأت تميل إلى التباهي بالعمرة والحج وأضحية العيد في عصر ثورة تكنولوجيا الاتصال.
في ظل غياب معطيات دقيقة عن كم مغربي صبأ عن دين أجداده، تشير التقديرات إلى أن أعداد الملحدين واللادينيين واللاأدريين، ومعتنقي المسيحية في تزايد
في هذا السياق، تبلور الإسلام الطقوسي عند الفئات الغنية مرتبطًا بسؤال الوجود وأزمة غياب المعنى، وفقًا لانطباع الباحث في السوسيولوجيا الدينية، “تعود هذه الفئة للدين على نحو استعراضي لتعبر عن مغربيتها وانتمائها لدين الإسلام”، يضيف رشيد جرموني “من الصعب أن نتنبأ بأن الإسلام سيتخذ نمطًا طقوسيًا احتفاليًا، بالتزامن مع موجة التصوف التي بدأت تبرز بشكل لافت”.
نزوع نحو التدين الفردي
في ظل غياب معطيات دقيقة عن كم مغربي صبأ عن دين أجداده، تشير التقديرات إلى أن أعداد الملحدين واللادينيين واللاأدريين ومعتنقي المسيحية في تزايد، إذ برزت هذه الفئة لتعبر عن رفضها للإسلام التقليدي المتوارث، وتدعو إلى إعادة النظر في السلوك الديني بوصفه “رجعيًا ولا يليق بالمجتمع”.
في حين تظل المؤسسات السياسية والاجتماعية، بما فيها الأسرة والمدرسة، تعزف على وتر اسمه الإسلام الرسمي، سعيًا نحو إعادة إنتاج القيم الدينية في المجتمع، على النقيض من ذلك، برزت فئة من الشباب التي تملكت وسائل المعرفة الدينية، “بالتالي لم يبق هناك أي مجال لممارسة الوصاية على هؤلاء الشباب الذين تبنوا خيارات دينية لا تتواءم مع توجهات الدولة، من منطلق تنشئتهم الاجتماعية في عالم منفتح”.
خلال العيد الماضي، فسدت الكثير من لحوم الأضاحي، ورماها الناس في مطارح النفايات بعد يومين من ذبح الأكباش التي سُمنت بتناولها علف الدجاج الأبيض “سيكاريم” كما يُطلق عليه المغاربة، عقب ذلك أثير نقاش بشأن هذه التقاليد التي لم يعد الجميع متفقًا عليها. حسب منظور السوسيولوجي، أصبح المغرب يشهد بروز موجات من التحرر تتخذ شكلاً من التدين الفردي.