إلى تهدئة أم إلى مزيد من التصعيد؟ وهل تبقى مياه الخليج هادئة وبيئة صالحة للملاحة أم تتلاطم أمواجها وتزداد صخبًا؟ في غمرة هذه الأسئلة وغيرها تواصل الإدارة الأمريكية مساعيها لتشكيل تحالف دولي تقول إن هدفه “ضمان الملاحة البحرية”، فترسل أحد أبرز صقورها وأكثرها عداوة لإيران إلى بريطانيا، بينما تترقب إيران التطورات المتعلقة بسفينتها المحتجزة في جبل طارق، فكيف ينظر الإيرانيون إلى حرب الناقلات بعد أسابيع من اندلاعها؟ وما موقف طهران من تحركات المسؤولين الأمريكيين لتسويق مشروعهم في المنطقة؟
جونسون يحط رحاله في لندن.. نحو مزيد من الحشد للضغط على طهران
تتواصل لعبة شد الحبال بين واشنطن وطهران، هذه المرة بتصريحات وجولات في اتجاهات متباينة عنوانها لندن، وفيها حملت زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون عنوانًا عريضًا مفاده “نريد مزيدًا من التشدد تجاه طهران”، علمًا أن بولتون هو أرفع مسؤول أمريكي تبعث به واشنطن إلى لندن منذ أن تولى مؤخرًا بوريس بوريس جونسون رئاسة الوزراء البريطانية خلفًا لتريزا ماي في ظل أزمة البريكست وتعثر الطلاق الأوروبي، مما أدَّى لتوتر علاقاتها مع دول الاتحاد.
هذه الزيارة تأتي في وقت لا يزال الغموض فيه مسيطرًا على الموقف الأوروبي عمومًا والفرنسي والألماني على وجه الخصوص من المشاركة في التحالف العسكري الذي تعمل الولايات المتحدة على تشكيله، كما أن معظم الدول ما زالت ترفض الخطة الأمريكية مع احتمالات أرجح لتشكيل تحالف يأخذ في الاعتبار الرؤيتين الأمريكية والأوروبية بشأن شكل التحالف والمهام التي ستُوكل إليه.
أعطت حكومة جونسون الإدارة الأمريكية بالفعل ما كانت امتنعت عنه سابقتها، كالبدء بالمفاوضات التجارية بين البلدين وإعلان لندن مشاركتها في القوة البحرية في الخليج بقيادة واشنطن وتشديد موقفها تجاه إيران وحلفائها في المنطقة
وفي محاولة لاستعادة عافية العلاقات بعد تسلم بوريس جونسون رئاسة الوزراء والتوتر الذي شاب العلاقات بين ترامب ورئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي، حمل بولتون للحكومة البريطانية الجديدة وعودًا بشراكة غير مسبوقة واتفاقية تجارة حرة طموحة، ووفقًا لبولتون، يريد دونالد ترامب أن تكون المملكة المتحدة أولى الدول التي تعقد صفقة تجارية مع الولايات المتحدة، وهي الصفقة التي وصفها سيمون تيسدال في مقال بصحيفة The Guardian البريطانية بأن “بولتون يريد استعمارنا ولا يقوم بصفقات تجارة حرة، بل يقوم بتغيير الأنظمة في دول مثل كوريا الشمالية وفنزويلا وكوبا والتدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق وليبيا”.
غير هذه الإغراءات، كان ملف الخروج من الاتحاد الأوروبي “بريكست” من أهم القضايا في مباحثات بولتون، ففي الوقت الذي تستعد فيه المملكة المتحدة لهذه الخطوة في 31 من أكتوبر/تشرين الأول في أكبر تحول جيوسياسي منذ الحرب العالمية الثانية، بدا واضحًا على لسان بولتون التأييد الأمريكي المطلق للخروج ولو دون اتفاق “إذا كان ذلك هو قرار الحكومة البريطانية”، وهو موقف يتماشى أكثر مع سياسة “بريكست” التي يفضلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
يُنظر إلى هذه الزيارة التي تزيد من فرص مغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، على أنها اختبار لقياس مدى عزم المملكة المتحدة وضع نفسها كدولة “تحرر نفسها من قيود الاتحاد الأوروبي” في قمة مجموعة السبع التي يستضيفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بياريتز بجنوب غرب فرنسا في وقت لاحق من هذا الشهر، وهو الأمر الذي حمل توقعات كثير من الدبلوماسيين بأن يزداد بعدها اعتماد لندن على واشنطن، وأثار التكهنات بأن بولتون سيوحد المملكة المتحدة أكثر نحو سياسات إدارة ترامب بعيدًا عن أوروبا.
مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون (يمين) يصافح وزير الخزانة البريطاني فيليب هاموند (يسار)
أعطت حكومة جونسون الإدارة الأمريكية بالفعل ما كانت امتنعت عنه سابقتها، كالبدء بالمفاوضات التجارية بين البلدين وإعلان لندن مشاركتها في القوة البحرية في الخليج بقيادة واشنطن وتشديد موقفها تجاه إيران وحلفائها في المنطقة، وهو ما عبَّر عنه بولتون بقوله إن الحكومة البريطانية الجديدة “تقدِّر” وجهات نظر الولايات المتحدة بشأن مجموعة من القضايا الداخلية والخارجية بما في ذلك التجارة والصفقة النووية الإيرانية ودور شركة التكنولوجيا الصينية “هواوي”.
وفي شأن مجموعة الاتصالات الصينية “هواوي”، قال بولتون إن المسؤولين البريطانيين أخبروه أن حكومة جونسون ستنظر في مسألة ما إذا كان يتعين على المملكة المتحدة استخدام تكنولوجيا هواوي لشبكة اتصالات الجيل الخامس (5G) الخاصة بها، في إشارة إلى أن المملكة المتحدة تدرس إلغاء قرار تيريزا ماي المؤقت بالسماح لمجموعة الاتصالات الصينية ببناء بعض الأجزاء من شبكة الجيل الخامس البريطانية، وهو القرار الذي اُعتبر “معاداة” لإدارة ترامب التي تخشى أن تستخدم بكين تكنولوجيا هواوي للوصول إلى المعلومات الحساسة، وسبق أن حذرت حلفاءها من أن استخدام البنية التحتية للشركة سيهدد التعاون الأمني مع واشنطن.
الانسجام مع تحركات واشنطن.. خصام عسكري في ظاهره ودبلوماسي في باطنه
بالتزامن مع التصعيد المستمر في مياه الخليج، كانت مسائل السياسة الخارجية حاضرة أيضًا، وعلى رأسها ملف إيران وخفض التزاماتها بالاتفاق النووي الذي تتمسك به بريطانيا، وكان ملف الملاحة البحرية أبرز الملفات التي حملها بولتون إلى بريطانيا، والخشية لدى كثيرين أن تكون هذه المسائل مقابل تلك “الهدايا” التي حملها بولتون لجونسون، وذلك رغم تأكيد لندن أن تقاربها مع واشنطن لا يغير موقفها بشأن الاتفاق النووي الذي يحد من أنشطة إيران النووية.
وكما كان متوقعًا، حثّ بولتون المسؤولين البريطانيين على أن تكون سياستهم تجاه إيران أكثر توافقًا مع سياسة واشنطن التي تضغط على طهران بعقوبات مشددة بعد أن سحب ترامب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ويفسر ذلك أن بولتون – الذي لا يزال يشعر بالإحباط من مقاربة ترامب غير المتسقة مع رأيه تجاه طهران – لا ينفك عن مطالبة حلفاء بلاده بمزيد من الانخراط في جهودها الرامية لإخضاع إيران لشروط واشنطن.
أوروبا وجدت نفسها ممزقة أو على الأقل حائرة بين اصطفافها مع الحليف الدائم لها في واشنطن ومصالحها وتمسكها بالاتفاق الذي وقعت عليه مع الجميع بعد جهد كبير
وفي حضور بولتون، لم تلق الأنباء الواردة من إيران عن قرب الإفراج عن ناقلتها المحتجزة في جبل طارق أصداءً كبيرة في لندن، فقد رفضت الخارجية البريطانية التعليق، وقالت إن الأمر شأن السلطات المحلية في تلك الجزيرة الخاضعة للسيادة البريطانية. تلا ذلك إعلان سلطات جبل طارق حسم ملف الناقلة الإيرانية بإعلانها أنها لا تعتزم الإفراج عن الناقلة التي احتجزها مشاة البحرية البريطانية في البحر المتوسط.
بريطانيا التي أعلنت سابقًا انضمامها للحلف المزمع تشكيله لحماية أمن السفن في هرمز، مدفوعة باعتداءات الحرس الثوري الإيراني المتكررة على ناقلات النفط، لم تنتظر طويلاً لتعلن بالتزامن مع هذه الزيارة أنها أرسلت فرقاطة جديدة إلى المضيق لهذا الهدف، هدفٌ يحمل عنوانًا عريضًا في طياته عناوين فرعية، كمحافحة الإرهاب والتهريب، ولأجله تحركت الفرقاطة “كنت” من ميناء بورتثموث جنوبي إنجلترا إلى المياه الخليجية، لتنضم بذلك إلى الفرقاطة “مونتروز”.
كما أن المتحدث باسم حكومة بوريس جونسون أمسك العصا من المنتصف، وقبض عليها بخفة حتى لا تنكسر، وندد بما سمَّاه “أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة”، وذلك في انسجام مع خطاب الضيف الأمريكي، إلا أنه أبقى الباب مواربًا أمام إيران لإرخاء الحبل قليلاً بتأكيده أن بلاده ستواصل التزامها بالاتفاق النووي الموقع عام 2015.
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف (يسار) يصافح نظيره البريطاني آنذاك بوريس جونسون خلال اجتماع في طهران عام 2017
تبدو هذه رسالة بريطانية مزدوجة الوجهة إلى إيران وأيضًا إلى الولايات المتحدة، لكنها لا تنسجم مع الأوروبيين الذين يقبعون في موقف لا يُحسدون عليه، فأوروبا وجدت نفسها ممزقة أو على الأقل حائرة بين اصطفافها مع الحليف الدائم لها في واشنطن ومصالحها وتمسكها بالاتفاق الذي وقعت عليه مع الجميع بعد جهد كبير، كما لا تتوافق مع موقف بغداد التي دخلت على خط التحالف الأمريكي، وأكدت رفضها لمشاركة “إسرائيل” في أي دوريات بمياه الخليج.
إيران بدورها أكدت المناخ الإيجابي لأزمة الناقلات مع بريطانيا على لسان نائب رئيس مؤسسة الملاحة والموانئ جليل إسلامي الذي قال إن بلاده تتوقع أن يتم الإفراج عن الناقلة الإيرانية، موضحًا أن بريطانيا أعربت عن رغبتها بالإفراج عنها، مع تأكيده على ما وصفه بفشل واشنطن بتشكيل تحالف أمني بالمنطقة.
ومع السعي الأمريكي لعسكرة المياه الخليجية، تراهن إيران على تحييد الأطراف الأوروبية عن خطوات واشنطن المتلاحقة ضدها، وهي إن تؤكد جنوحها للسلم لمن يرد التحية بمثلها من دول الإقليم أو الدول الأوروبية، تبدو كمَنْ يدير الأزمة يومًا بيوم بانتظار حصول تحولات سياسية في البيت الأبيض عبر الانتخابات المقررة العام المقبل أو إيجاد مقاربة دبلوماسية بوساطات إقليمية ودولية تحفظ لها الحد الأدنى من مكتسبات الاتفاق النووي.
التورط البريطاني في فخ واشنطن.. هل أصبحت حكومة المحافظين في جيب إدارة ترامب؟
الدعم الأمريكي الكبير الذي حمله بولتون لحكومة جونسون في مسعاها للخروج من الاتحاد الأوروبي ولو دون اتفاق يُخشى أن يكون مقابله تماهيًا بريطانيًا مع إدارة ترامب مع قضايا السياسة الخارجية، خاصة بشأن تشكيل تحالف دولي لضمان الملاحة البحرية، والاتفاق النووي الذي دعا بولتون بريطانيا لإعادة حساباتها حياله، لكنه يبقى حتى الآن الحفاظ عليه محل إجماع بين البريطانيين وشركائهم الأوروبيين.
وفي حين تبدو بريطانيا أنها حددت موقفها باللحاق بواشنطن، انتقد زعيم المعارضة البريطانية جيريمي كوربين هذا التناغم البريطاني الأمريكي، وقال إن حكومة المحافظين بزعامة جونسون أضحت في جيب إدارة ترامب، مما يهدد نظام الرعاية الصحية والأمن والسلام في البلاد.
بعد أن اندفعت بريطانيا نحو تأييد موقف الولايات المتحدة من إيران إرضاءً للرئيس دونالد ترامب، تخلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن المملكة المتحدة في هذه الأزمة
هذه الانتقادات الموجهة للتقارب البريطاني الأمريكي في تأمين الملاحة بمضيق هرمز ليس مصادفة، فهي تأتي بعد حديث عن تورط بريطانيا في الخطط الأمريكية، فقد سبق أن كشفت صحفية The Guardian البريطانية أن بولتون – الذي دافع منذ فترة طويلة عن تغيير النظام في طهران بأي وسيلة كانت – هو من حرَّض بريطانيا على احتجاز ناقلة نفط إيرانية في جبل طارق في يوليو/تموز الماضي، وكانت هذه فاتحة التصعيد بين طهران ولندن، لتحتجز الأولى بعد أيام ناقلة نفط بريطانية في مضيق هرمز.
وبعد أن اندفعت بريطانيا نحو تأييد موقف الولايات المتحدة من إيران إرضاءً للرئيس دونالد ترامب، تخلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن المملكة المتحدة في هذه الأزمة، مؤكدًا في مقابلة تليفزيونية مع قناة “فوكس بيزنس” الأمريكية أنه يتعين عليها “تحمل مسؤولية حماية سفنها بنفسها”.
هذا الموقف وفق رئيس وحدة الدراسات الأمنية في المعهد الملكي البريطاني رافايالو بينتوشي ترك شعورًا في لندن بخذلان أمريكي واضح في حديث بومبيو بشأن مسؤولية لندن وحدها عن حماية سفنها، فهل أرسلت الولايات المتحدة مستشارها ليرمم قول وزير خارجيتها؟ وهل يكون ذلك بالدفع قُدمًا بتعزيز التحالف المأمول أمريكيًا في الخليج الذي تُلزم إيران بفشل تشكيله؟
دونالد ترامب (يمين) وتريزا ماي (وسط) وبوريس جونسون (يسار)
تجيب صحيفة The Financial Times البريطانية باستبعاد أن يتصرف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وفق هوى ترامب لاعتبارات ثلاث: الالتزام بمبدأ حرية الملاحة، وهو مبدأ ستدافع عنه بريطانيا وحلفاؤها دائمًا، وبقاء مضيق هرمز مفتوحًا وتغليب الحل الدبلوماسي على العسكري، أي تجنب التصعيد أو الدخول في صراع مفتوح.
هنا تبدو الدبلوماسية الإيرانية ناجعة إلى حد معقول في أزمة المضيقين (هرمز وجبل طارق) حين ضيَّقت إستراتيجيتها بحدود ناقلة مقابل ناقلة، فقالت على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني: “تحتجزون فنحتجز، تفرجون فنفرج”.
في المحصلة، تبدو العدوانية الدبلوماسية في الخليج وكأنها تنفيس لخطورة التحركات العسكرية، إذ مهما بلغ الاختلاف في خندق الدول المقابل لإيران، فإن بوصلة واحدة تجمعهم، وهي أن مضيق هرمز الذي يمر فيه ثلث النفط المنقول بحرًا في العالم يجب ألا تصل المواجهة فيه إلى مستوى لا يمكن التحكم فيه. في المقابل هذا المستوى له عِلة وحيدة، فالوصول إليه يستدعي تنازلات من جميع الأطراف تبدو بعيدة المنال في الوقت الراهن وفي المدى المنظور.