مع تزايد الحديث عن العودة إلى سوريا بعد سقوط النظام، تواجه العديد من العائلات التي طال مقامها في بلاد المهجر تحديات كبيرة في تعليم أطفالها اللغة العربية، ناهيك عن أولئك الذين درسوا طوال سنوات الثورة بلغات غير العربية، واعتادوا التحدث بلغة ثانية حتى داخل المنزل، أو الذين وُلدوا في دول اللجوء ما جعلهم يفقدون القدرة على استخدام اللغة وتلاشيها تدريجيًا من ذاكرتهم.
سارع الأهالي الذين وجدوا أنفسهم فجأة أمام مرحلة إسعافية إلى تسجيل أبنائهم في منصات رقمية “أونلاين” والتي بدورها نشطت مؤخرًا، أو في دروس خاصة أو معاهد إن وجدت، مما يُهيئهم لمواصلة تعليمهم في سوريا، ويساعدهم على الاندماج بشكل أفضل مع أقرانهم.
لكن التحديات لا تقتصر على تعلم الأطفال اللغة العربية، بل تمتد إلى الآثار النفسية التي قد يواجهونها نتيجة الفارق اللغوي الكبير مع أقرانهم، بالإضافة إلى اختلاف البيئة التعليمية بشكل أساسي.
فقد تركت ويلات الحرب التي استمرت 14 عامًا، بصمتها العميقة على كافة شرائح المجتمع، خاصة فئة الأطفال، وعلى جميع جوانب الحياة، وكان التعليم أحد أبرز القطاعات المتضررة، فالعديد من المدارس تحتاج إلى إعادة إعمار وتأهيل لأسباب مختلفة، منها تحويل بعضها لثكنات عسكرية لقوات النظام وإيران، ومنها بسبب القصف، أما التي لا تزال قائمة فهي تعاني من بنية تحتية متهالكة، وتفتقر إلى الحد الأدنى من متطلبات العملية التعليمية.
كل هذه العوامل قد تعرقل عملية اندماج الطلاب العائدين، وتدفعهم إلى حالة من الصدمة النفسية، التي تؤثر سلبًا على قدرتهم بالتكيف مع وطنهم، ما يعني أننا أمام معضلة كبيرة تكمن في كيفية إعادة دمجهم.
فجوة لغوية وتحديات نفسية
سنوات اللجوء الطويلة دفعت العديد من العائلات إلى الابتعاد عن تعليم أبنائها اللغة العربية بسبب فقدانهم الأمل في العودة إلى سوريا، بالإضافة إلى رغبتهم في تسهيل اندماج أطفالهم في المجتمعات المضيفة.
لكن بعد سقوط النظام، واتخاذ قرار العودة، بدأت العائلات بشكل كبير في تسجيل أطفالها بمراكز تعليم اللغة العربية سواء الحضورية أو الالكترونية، لتلافي ضعف اللغة لديهم، وتمكين استكمال تعليمهم باللغة العربية دون عوائق، مع اختلاف المستوى اللغوي بينهم، فبعضهم قادر على التحدث بالعربية لكنه يحتاج إلى تحسين مهارات القراءة والكتابة، بينما نشأ آخرون في بيئة مختلفة بالكامل، ما يجعلهم بحاجة إلى جهد مضاعف من الأهل والمعلمين لتعلم اللغة من الصفر.
السيدة أمينة حلي، (35 عامًا)، مقيمة في مدينة مرسين التركية منذ 10 سنوات وأم لطفلين، أحدهم ولد في تركيا، تقول في حديثها لـ”نون بوست”: “قبل التحرير كان تركيزي على تعليم أطفالي اللغة التركية لضمان تفوقهم الدراسي ومع ذلك حاولت تخصيص مساحة صغيرة في العطلة لتعليم أطفالي أساسيات اللغة العربية، لكن النتيجة كانت مستوى ضعيفًا جدًا (في اللغة العربية) مقارنة بأقرانهم في سوريا”.
وتقول أمينة، “بعد فرحة التحرير استيقظنا على واقع مختلف، أطفالي يجيدون اللغة التركية بنسبة 90%، بينما لا يتجاوز مستواهم في اللغة العربية 30%، نحاول الآن تعويض هذا النقص الكبير خلال فترة قصيرة باعتبار أننا سنعود الشهر القادم، “سجلت أطفالي في دروس خصوصية ومنصات تعليمية أونلاين، وأحاول إعدادهم نفسيًا للتأقلم مع بيئة التعليم السورية.
تفكر بعض العائلات، ممن التقت بهم “نون بوست”، في تسجيل أطفالها بمدارس خاصة داخل سوريا، بحثًا عن بيئة تعليمية أكثر دعمًا، تتيح لهم الاهتمام بمستواهم الأكاديمي وحالتهم النفسية، وترى العائلات أن هذا الخيار هو الأنسب لتقليص الفجوة التي يواجهها أطفالهم، إلا أن القلق من تحديات هذه المرحلة الانتقالية لا يزال قائمًا.
بحسب ما قاله المختص النفسي باسل نمرة، لـ”نون بوست”، فإن أولى التحديات التي قد تواجه الأطفال العائدين هي صدمة فقدان الهوية اللغوية، فالطفل الذي اعتاد التحدث بلغة البلد الذي لجأت إليه أسرته، وفجأة يجد نفسه في بلد مختلف تمامًا، وفي مدرسة يجب أن يتحدث فيها باللغة العربية ولا يعرف الطفل مفردات هذه اللغة ولا يستطيع تكوين جملة صحيحة بها، قد يتعرض لصدمة “من نحن؟ وهل نحن عرب يجب أن نتحدث فقط اللغة العربية فيشعر بالصدمة وضياع الهوية اللغوية”.
ولدعم الأطفال نفسيًا أثناء تعلمهم اللغة العربية دون إشعارهم بالإحباط أو الضغط، يقول نمرة إنه يجب أن يتبنى الأهل نهجًا مرنًا يشمل عدة محاور منها تهيئة العائلة لأطفالها قبل العودة إلى سوريا، وذلك من خلال تدريبهم على التحدث باللغة العربية بشكل كامل ويومي في المنزل، وأن يكون هناك كورسات مكثفة حسب المدة الزمنية للعودة.
ويضيف: “إعداد الطفل نفسيًا يتطلب دعمًا من الجهات المسؤولة، وخاصة وزارة التربية، ومن الضروري أن يكون هناك مختص نفسي في كل مدرسة، وهو ما يتوفر بشكل محدود في سوريا، فيما يقع على عاتق المختص دور كبير في مساعدة الأطفال السوريين على إعادة دمجهم، وتخفيف الصدمة النفسية الناتجة عن الفارق في المستوى التعليمي”.
تفاوت المستوى التعليمي
في ظل التشريد والتهجير الذي عاشه السوريون، تباينت ظروف التعليم بشكل جذري بين الأجيال، فمن ظل في سوريا تلقى تعليمًا بمستوى متدنٍ وبنية تحتية متهالكة، بينما نشأت أجيال في مخيمات النزوح وتلقت دروسها في ظروف قاسية، أما الأجيال المهجّرة، فقد حصلت على تعليم مختلف، بحسب البيئة التي نشأت فيها، ما نتج عنه تفاوت واضح في مستوى التعليم بين الطلاب السوريين.
بالإضافة إلى تعدد المناهج الدراسية داخل سوريا، حيث يوجد أربعة مناهج تعليمية مختلفة، يدرسون الطلاب من خلالها، فهناك منهج كان يدرس في مناطق النظام المخلوع، ومنهج في مناطق “الإدارة الذاتية” التابعة لميليشيات “قسد”، ومنهجان آخران في حكومتي الإنقاذ والمؤقتة في شمال غرب سوريا.
هذا التعدد في المناهج، بالإضافة إلى تعدد اللغات والبيئات التعليمية المختلفة التي نشأ فيها الطلاب، أدى إلى فجوة واسعة في المستوى التعليمي بين الأجيال.
الناشط الحقوقي المتخصص في قضايا اللاجئين السوريين، طه الغازي، يقول لـ “نون بوست”: “اليوم بعد سقوط نظام الأسد ورغبة العديد من العائلات بالعودة إلى سوريا، برزت بشكل واضح أزمة اندماج الطلاب السوريين مع مجتمعهم الأم، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على الجانب التعليمي، وإنما هي أزمة مجتمعية ثقافية”.
ويضيف: “من الصعب جدًا دمج الطلاب السوريين في مجتمعهم الأم في سوريا، فهناك تفاوت واختلاف بين واقع الطلاب السوريين في مختلف دول اللجوء مثل تركيا، ألمانيا، فرنسا، الدنمارك، السويد وغيرها، وبين واقع الطلاب في سوريا، ما يجعل كل فئة من الطلاب تحتاج إلى منظومة تعليمية ونفسية خاصة تساعدهم على الاندماج مجددًا بمجتمعه الأم وبالنظام التعليمي في سوريا من جديد”.
داخل وخارج سوريا.. مشاريع لتهيئة الأطفال
يُشكل المبنى المدرسي الركيزة الأساسية للبيئة التعليمية، إلا أن المدارس العامة في سوريا تعاني من التهالك والاكتظاظ الشديد داخل فصولها، وتدني مستوى التعليم، وقسم منها خرج عن الخدمة، إذ تعرضت 29% من المدارس في عموم سوريا للتدمير الكلي أو الجزئي، وفق تقرير صادر عن الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان.
وفي ظل هذه التحديات، تبرز الحاجة الملحة لتدخل منظمات المجتمع الدولي، لدعم القطاع التعليمي، سواء عبر إعادة بناء المدارس أو من خلال توفير بيئة تعليمية مناسبة، أو توفير برامج تعليمية لتسهيل إعادة الاندماج.
يشير الناشط طه الغازي، في حديثه مع “نون بوست” إلى وجود مشاريع وبرامج سيتم تمويلها من الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة لتعليم الأطفال اللغة العربية، وتنقسم إلى فئتين: الأولى تستهدف الطلاب السوريين الموجودين في تركيا، حيث يمكن صياغة برامج تعليمية لهم تتضمن دروسًا في اللغة العربية تُدرّس ضمن ساعات الدوام المدرسي، أو من خلال دروس تقوية تُقدَّم في المراكز الرديفة للمراكز الحكومية مثل “هالك إيتيم”، أو في مراكز تعليمية خاصة.
أما الثانية، فهي الطلاب السوريون العائدون إلى سوريا من دول اللجوء، وهم الفئة الأكثر حاجة للدعم، ويضيف: “اليوم من خلال البرامج التعليمية الموجهة لهذه الفئة نواجه صعوبات عديدة، أبرزها نقص الكوادر التعليمية المؤهلة التي تمتلك كفاءات لغوية مزدوجة، فهناك طلاب عادوا إلى سوريا ولا يتقنون اللغة العربية، مما يجعلهم بحاجة إلى معلمين قادرين على تدريسهم العربية، وفي الوقت ذاته التواصل معهم باللغة التي يجيدونها”.
وعانت المدارس السورية في عهد الأسد وخلال فترة الحرب، من نقص في الكوادر التعليمية وتراجع جودة التعليم نتيجة الاعتماد على معلمين يفتقرون إلى الخبرة الكافية أو التأهيل التربوي المناسب، وذلك بسبب ضعف الرواتب، وعزوف قسم كبير من المعلمين عن التدريس بسبب توجههم إلى التدريس الخاص أو العمل الحر، بحثًا عن دخل أفضل يلبّي احتياجات أسرهم.
فيما تسرب مئات آلاف الطلاب من التعليم، نتيجة عوامل مختلفة أبرزها عدم قدرة الأهالي على تأمين مستلزمات الطفل التعليمية، وعمالة الأطفال الناجمة عن ارتفاع التكلفة المعيشية، وانتشار مئات المدارس الخاصة.
بدورها تقول جميلة الزير، الناشطة في مجال التعليم في سوريا، لـ”نون بوست” إن الجهات الفاعلة في سوريا تعمل على مساعدة الطلاب، وتضيف: “من أبرز اهتمامات عملنا، وبحسب ما أكدته لنا الاجتماعات مع الوزارة، هو التركيز على التعليم غير الرسمي، الذي يُعد حاليًا حاجة ملحّة لسد الفجوات التي يعاني منها الأطفال العائدون من خارج سوريا، هذا الأمر يتطلب الحشد والمناصرة للحصول على تمويل مخصص للتعليم غير الرسمي، والذي من خلاله يمكن اعتماد مناهج تعليمية تتناسب مع الفروقات الفردية للأطفال”.
وفي بلد أنهكته الحرب والتهجير، يأمل النازحون واللاجئون في طي صفحة من المعاناة امتدت لسنوات أفقدتهم منازلهم وأجبرتهم على اللجوء خارج بلادهم، أو تركتهم في مخيمات مهترئة لا تلبي أبسط مقومات الحياة البشرية.
وبالرغم من العقبات الكثيرة، عاد إلى سوريا نحو 200 ألف لاجئ منذ سقوط نظام الأسد في مطلع كانون الأول 2024، بحسب أرقام كشفت عنها الأمم المتحدة.
ونشر المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، فيليبو غراندي، عبر “إكس”، جدولًا يظهر إحصائيات عودة اللاجئين السوريين، وأوضح أنه بين 8 من كانون الأول 2024 و16 من كانون الثاني الحالي عاد قرابة 195200 لاجئ سوري إلى بلادهم.
وفي تركيا أعلن وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، عودة 81 ألفًا و576 لاجئًا سوريًا منذ 9 من كانون الأول 2024، فيما تراجع أكثر من 1000 سوري عن طلباتهم للحصول على اللجوء أو الحماية الدولية في فبرص، لأنهم ينوون العودة إلى وطنهم، بينما عاد 500 آخرون بالفعل.