اعتقله نظام الأسد مرّتين، ونجا بأعجوبة من مجزرة القبو في داريا، ووجد نفسه بين الجثث ويتم توثيق اسمه بين الشهداء، هي ملخص سريع لقصة “عصام موفق قفاعة” في شوارع داريا المكلومة، حيث تتناثر ذكريات الثورة السورية.
قصة قفاعة هي إحدى الحكايات التي يتشابك فيها الألم مع النجاة في مشهد سوريالي يختزل وحشية الحرب، فلم يكن الشاب الأربعيني مجرد شاهد على فصول الرعب، بل كان أحد الناجين الذين سجلت أسماؤهم بين الموتى، ليعود إلى الحياة محملاً بذاكرة من دم ونار.
يروي عصام قفاعة، الشهيد الحي الذي واجه الموت في سبيل الحرية، لـ”نون بوست” فصلاً مؤلماً من تاريخ داريا، المدينة التي صمدت رغم الألم، ودفع أهلها ثمن مقاومتهم بدمائهم في واحدة من أبشع المجازر الوحشية التي شهدتها الثورة السورية.
الاعتقال الأول: حين يكون الهاتف سلاحًا
مع اندلاع الثورة السورية، انخرط عصام قفاعة في الحراك السلمي في داريا، مشاركًا في تنظيم المظاهرات وتوثيقها بعدسته، دون أن يدرك أن كاميرا هاتفه ستتحول إلى أداة تدينه، لكن في السابع من مارس/آذار 2012، اقتحمت قوات الأمن محله لتصليح الدراجات النارية، بعد أن وشى به أحد المخبرين، فاعتُقل بتهمة التصوير ونشر التظاهرات على حسابه في فيسبوك.
استمر اعتقاله لمدة خمسة أشهر و11 يومًا، نُقل خلالها إلى فرع المخابرات الجوية في حي المزة، المعروف بـ”مسلخ الجوية”، حيث بدأ أول فصل من معاناته. عند وصوله، طرح عليه المحققون سؤالًا وحيدًا: “كم جنديًا قتلت؟”، وحين عجز عن الرد، انهالت عليه الضربات من أكثر من خمسة عناصر في مشهد كان مجرد بداية لسلسلة من التعذيب الوحشي.
طوال شهرين، تعرض لأنواع شتى من الانتهاكات، من الحرق بالسجائر إلى غرس البراغي المعدنية في قدميه، وحتى نقله إلى التحقيق محمولًا على بطانية بسبب شدة الإيذاء الجسدي، لإجباره على الاعتراف بجرائم لم يرتكبها، قبل أن يكتب له في النهاية إفادة مزورة، وتحويل تهمته من التصوير إلى “التعامل مع جهات خارجية”.
زُجّ بعصام في زنزانة انفرادية لا تتجاوز مساحتها مترًا بمتر، برفقة أربعة معتقلين آخرين، حيث قضى فيها أربعة أشهر من العذاب، ولم يكن القهر نابعًا فقط من ضيق المكان أو قسوته، بل من مشاهد الموت التي أصبحت جزءًا من يومياته.
توفي أحد رفاقه في الزنزانة نتيجة التعذيب، وظلت جثته ملقاة بجانبه لأكثر من عشرين يومًا، دون أن يتمكن من فعل شيء سوى تحمل هول المشهد، في تلك العزلة القاتلة، كان عقله غارقًا في مصير عائلته وخطيبته، الذين لا يعرفون عنه شيئًا، وكان يبكي بصمت كلما سمع أصوات التعذيب القادمة من الزنازين المجاورة، وكأنّ أحد أفراد أسرته هو من يتعرض لهذا الجحيم.
كان اليأس يتسلل أحيانًا إلى نفسه حتى أنّ فكرة الانتحار راودته للتخلص من التعذيب، ولتجنب قول: “بشار ربي” أو السجود على صورة بشار الأسد، قائلًا: “لكن كنت أجد في نفسي صبراً غريباً على الرغم من هذه الظروف القاسية، حتى تمكّنت من الخروج من مسلخ الجوية في 18 آب/أغسطس 2012، وذلك بعد أن دفعت والدتي مبلغاً مالياً كبيراً والتي فقدت وعيها عندما رأتني بحالة مأساوية”.
النجاة من المجزرة
عاد عصام قفاعة إلى منزله كان زفاف أخيه وسام مقررًا في 25 أغسطس/آب 2012، وقررت والدته أن يكون زفاف عصام في اليوم ذاته، ليسأل نفسه “هل سأعيش بسلام الآن أم أنني سأظل ملاحقاً؟”، وفي ظل البحث عن الإجابة حولت قوات الأسد قوم الزفاف إلى عزاء مفتوح الجراح، حيث اقتحمت منزلهم قبل أن يتناولوا وجبة الإفطار.
حاول عصام أن يحمي والده بجسده الهزيل، لكن الجنود سحبوه مع جميع سكان الحي، من أطفال وشيوخ ونساء، إلى الخارج، يقول قفاعة إن ضابطًا وقف أمامه، وقال له “لا تريد أن نعذب والدك؟ ثم بدأوا في ضربه أمامي، وتعرَّضنا جميعاً للضرب، قبل أن يتم نقلنا إلى القبو، حيث كان عددنا 173 شخصاً من بينهم أطفال”.
يضيف قفاعة أنه في القبو صرخ أحد عناصر الأسد: “أين المسلحون؟ أنا الله، أنا ربكم، الذي سيقبض أرواحكم”، قبل أن تبدأ عملية التصفية الميدانية بإطلاق النار على الجميع، فسقط عصام أرضًا، ليفاجأ بجثة تنهار فوقه، غارقًا في دمائها، مرتجفًا من الألم والرعب، لكنه لم يحرك ساكنًا، مما جعله أهله يظنون أنه قد قتل، لكنه بقي حياً تحت أكوام الجثث.
تابع عصام قفاعة روايته وهو يحاول استرجاع المشاهد التي لا تفارق ذاكرته وخاصة فيما يتعلق بأصوات النساء التي كانت تصدح من الطوابق العلوية صراخاً وذعراً على مصير أحبّتهن، قبل أن يقتاد عناصر الميليشيا عدداً منهنّ إلى القبو ويتم اغتصابهن بالقرب من الجثث المتناثرة، كما تم اغتصاب النساء في الطوابق العلوية لأكثر من ساعتين، قبل قتلهم.
لم يتوقف الجحيم عند هذا الحد، فقد تعالت أصوات بكاء الأطفال، أحدهم لم يكن قد تجاوز أسبوعه الأول، والآخر لم يكن قد أكمل بضعة أشهر، حسب قفاعة، الذي أكد أن أحد الجنود حملهما ببرود، وبدأ يضربهما بقسوة على الجدران والسلالم.
وحين سأل أحدهم الضابط عن مصيرهما، جاءه الرد بضحكة باردة: “يا عباس، لا تقتلهما بالرصاص، فهذا السلاح نستخدمه للكبار لنكسب الجنة.” ثم سحق رأسيهما بحذائه العسكري، وسط ضحكات قاسية تخلو من الإنسانية، وفقاً لرواية عصام قفاعة، الذي كان يسمع، ويكتم أنفاسه حتى لا يكتشفوا أنه حيّ.
بعد المجزرة، سارع جنود النظام إلى ترتيب مسرح الجريمة، ليس لإخفاء آثارها، بل لإعادة إخراجها وفق رواية رسمية مفبركة، فقاموا بوضع أسلحة بجانب الجثث، تمهيدًا لوصول فريق التلفزيون السوري، الذي رافقته المذيعة ميشلين عازار، التي قدمت رواية مفبركة عن هؤلاء الضحايا، مدّعية أنّهم إرهابيون من الشيشان والسعودية جاءوا لتخريب سوريا، حيث تم تصوير ضحايا المجزرة، واتهموا ثوار داريا بقتلهم.
تحت أكوام الجثث، كان عصام قفاعة يختنق بالغضب والقهر، عاجزًا عن الصراخ أو المواجهة. يقول:”كنت أشعر بالنار تشتعل بداخلي، مكبوتاً تحت جثث عائلتي التي غمرتني دماؤها، لم أكن أتخيل يوماً أن أعيش هذا الألم أو أن أحمل هذه الذكريات القاسية معي طوال حياتي”.
الخروج من بين الجثث
بعد أن هدأ صوت الرصاص تدريجيًا، بقي صدى صراخ النساء يتردد في الأرجاء، قادمًا من مكان قريب، كأن الألم لا يزال يتغلغل في كل زاوية من المدينة. كان عصام قفاعة ينزف، جسديًا ونفسيًا، بينما يجاهد للسيطرة على مشاعره ومحاولة فهم ما حدث لعائلته، بصعوبة، رفع جسده المنهك ونهض من بين الجثث: “كنت أبحث بين الجثث وأنا أجهش بالبكاء، كيف رحلوا دون وداع؟ كيف غادرني كل من أحبّ بهذه الطريقة المروعة؟”.
وتابع: “صعدت الدرج بجسد منهك، لأواجه مشهداً أشد إيلاماً، لم يكن الجنود قد ابتعدوا كثيراً، كانوا في الحارة الثانية، يقتلون جيراننا بوحشية.. من بعيد رأيت دخاناً كثيفاً يتصاعد من منزلهم، وعلمت لاحقاً أنّهم أحرقوا الشباب داخل المطبخ أمام أعين أهاليهم!، كل شيء حولي كان يُظهر قسوة لا حدود لها”.
أردف: “عدتُ سريعاً إلى القبو، اختبأت بين الجثث من جديد، مع اقتراب وقت العصر تحركت ببطء دون أن يشعر بي أحد، وعدت إلى منزلي لأجد أمي وأخواتي، كنَّ يبكين بحزن لا تحمله الجبال، كنتُ مغطىً بالدماء، فغسلت نفسي وضمدت جروحي بقطعة قماش عثرت عليها، وبعد أن استجمعت شجاعتي للخروج من المنزل، التقيت بـ حسام عبدالوهاب البلاقسي المعروف بـ أبي صياح الذي تولى جمع جثث الشهداء ووضعها في مسجد أبي سليمان الديراني، عندما رآني، أصابه الذهول لم يصدّق أنّني ما زلت على قيد الحياة، أخبرته برغبتي في نقل الجثث من القبو إلى المسجد، فعملنا معاً في صمت مشوب بالحزن، حتى أنهينا المهمة”.
عقب ذلك قرر قفاعة الانتقال إلى مسجد صلاح الدين، الذي كان يبعد عن منزله نحو 20 دقيقة سيراً على الأقدام، ليسلك الحارات الضيقة والشوارع المهجورة خوفًا من رؤية عناصر الأسد، يوثق هذه اللحظات بالقول: “كلّما تقدمت، كانت الطرق تشهد على وحشية لا يمكن تصورها والمشهد أشبه بيوم القيامة، فالجثث متناثرة في كل مكان، بعضها محترق وأخرى مقطعة الأوصال، وعندما وصلت إلى المسجد، صعدت إلى المئذنة واختبأت فيها، قضيت ليلة مليئة بالرعب، كنت أعيش على أعصابي، لا أسمع سوى صدى أصوات القبو، وإلى يومنا هذا، لا تزال تلك الذكريات تلاحقني كأنّها ظلّي الذي لن يغادرني أبداً”.
مع شروق شمس اليوم التالي، غادر المئذنة واتجه إلى منزل عمه أبو جميل، حيث وجد والدته وأخته هناك، فشعر بلحظة قصيرة من الطمأنينة وسط الحزن الذي لا يفارقه، لكنه لم يكن يشعر بالأمان، فصعد إلى سطح المنزل واختبأ داخل خزان ماء، غير مدرك لسبب اختياره هذا المكان، لكنه بقي هناك أكثر من 24 ساعة، غارقًا في مشاعر مشتتة، وأفكار لا يمكن تفسيرها.
في 27 أغسطس/آب 2012، انسحبت قوات الأسد من داريا، بعدما تركت خلفها مدينة مشوهة، محطمة، مليئة بالجثث والخراب. لم يكن انسحابًا بقدر ما كان إعلانًا عن انتهاء فصل من الإبادة، ليبدأ فصل آخر من المعاناة.
مع رحيل القوات، توجه قفاعة إلى مقبرة المدينة، حيث ودّع أحبته للمرة الأخيرة. كان بين الجثامين التي دُفنت والده، وأخواه وسام ومحمد، وزوج أخته محمد، وأقاربه الذين سقطوا في المجزرة، وقف هناك، محاطًا برائحة التراب المختلط بدماء من فقدهم، يدرك أن هذا الوداع الأخير، ويدرك أيضًا أن قلبه قد انكسر إلى الأبد.
يذكر أن مجزرة داريا بدأت بقصف مدفعي من قبل نظام الأسد الساقط في 20 آب/أغسطس 2012 راح ضحيتها أكثر من 700 قتيل بينهم 522 مدنياً وُثقوا بالاسم، بحسب المجلس المحلي لداريا، لكنّها لم تكن كافية لإنهاء معاناة المدينة التي فرض عليها نظام الأسد حصاراً خانقاً دام أربع سنوات قبل أن يستعيد السيطرة عليها في 27 آب/أغسطس 2016.
الحصار والتهجير
لم تكن المجازر والحصار سوى بداية رحلة طويلة من الألم، فقد استمرت المأساة في فصولها القاسية، حيث وجد عصام قفاعة نفسه في مواجهة صراع جديد لا يقل قسوة عن الموت ذاته، يقول: “عاصرتُ حصار النظام لداريا منذ نهاية العام 2012 بكلّ ما حمله من قسوة وتجويع، وكنت أحد الثوار الذين قاتلوا دفاعاً عنها، وأُصبت عدة مرات خلال المواجهات، لكنَّني كنت أتحامل على نفسي وأواصل رغم كلّ شيء، وفي عام 2016، انتقلت إلى مدينة معضمية الشام، وهناك تزوجت وزرقت بطفل وطفلة، بحثاً عن بصيص أمل في حياة يغمرها الظلام”.
وأضاف: “لكن النظام لم يتركنا وشأننا، شنّ معركة شرسة فصلت بين داريا والمعضمية المحاصرتين، ووجدت نفسي عالقاً في معضمية الشام، كنت أشاهد أهالي داريا يُهجّرون قسراً من مدينتهم، مشهداً يضاف إلى سلسلة الأحزان التي لا تنتهي، ثم جاء الدور على تهجير أهل المعضمية، لكنّي لم أغادر رغم كلّ المخاطر، لا أعرف لماذا بقيت؟، ربما كان الخوف يشلّني، أو كنت أتمسّك بمكان اعتقدت أنني أنتمي إليه”.
وفي نهاية 2016 فقد عصام شقيقته في واحدة من فصول التهجير الدامي. كانت في طريقها إلى المجهول على متن إحدى حافلات التهجير، حين تعرضت القافلة لهجوم بالرصاص، فأصيبت بجروح بليغة: “استشهدت أختي إثر إصابتها في هجوم على أحد باصات التهجير التي رُشّت بالرصاص، فأصيبت بجروح بليغة، ومع غياب العناية الطبية، انتشرت الغرغرينا في جسدها حتى أودت بحياتها، أما ابنها، فقد أفقدته الإصابة في قدميه، القدرة على المشي”.
الاعتقال الثاني
لأن عصام قفاعة اختار البقاء في مناطق سيطرة النظام، كان قدره أن يقع في قبضته مرة أخرى، ليعيش فصلًا جديدًا من العذاب، ففي يوليو/تموز 2017، اعتقلته قوات النظام مجددًا، ليقضي أكثر من عامين متنقلًا بين أفرع الأمن العسكري، وسرية 215، وفرع المنطقة، والمخابرات الجوية، ومكتب الفرقة الرابعة، قبل أن يُجبر على الالتحاق بالخدمة العسكرية.
يصف قفاعة هذه المرحلة، بأسوأ أيام حياته قائلاً: “كل لحظة في ذلك المعتقل كانت كابوساً متجدداً، يقتل الروح قبل الجسد، رغم ذلك العذاب، خرجت من السجن بأعجوبة، وكأنَّ الحياة كُتبت لي من جديد، لكن الخوف لم يفارقني بعد خروجي، كنت أعيش متخفياً محاولاً تجنّب الحواجز الأمنية، وفي كلّ مرّة يتم توقيفي عند حاجز أمني، كنت أضطر لدفع المال مقابل إطلاق سراحي، خوفاً من أن أعود إلى الجحيم الذي خرجت منه”.
رغم كلّ ما عشته، كانت بداخلي مشاعر متضاربة؛ مزيجاً من الخوف والنجاة، الألم والأمل، والإرهاق من حمل ذاكرة مثقلة بالوجع، كنت أمضي يوماً بيوم، لا أعلم ما يخبئه الغد، لكنّني أتمسّك بخيط رفيع من الأمل، بأن تحمل لي هذه الحياة يوماً ما فرصة للسلام الذي أفتقده داخلياً، يختم عصام قفاعة قصته، بأمل تناسي ما مرّ به بعد رحيل بشار الأسد لكنّ آثاره واضحة عليه لا يمكن إخفاءها مهما حاول النسيان.