بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وانهيار الأخير في مطلع تسعينات القرن الماضي، أصبحت الولايات المتحدة هي القطب الأوحد والقوة الأبرز التي بيدها مفاتيح الاقتصاد والتقدم العسكري والتقني في العالم أجمع.
وشهدت بداية الألفينات من هذا القرن قفزات كبيرة في صناعة الحواسيب والبرمجيات التي تعمل بخوارزميات الذكاء الصناعي، وظهر منافس شديد للولايات المتحدة الأمريكية بهذا المجال، منافس لا يستهان به البتة، ألا وهي الصين.
في السنوات القليلة الماضية، كان التنافس في القطاع الرقمي والتكنولوجي على أشده، فبينما كانت شركة آبل (الأمريكية) تكتسح الأسواق العالمية وتتصدر مبيعاتها دول العالم أجمع، تمكنت شركة هواوي (الصينية) خلال فترة وجيزة من مناطحة أعتى الشركات العالمية.
لكن الغريب في الأمر، أن التنافس بين الدولتين لم يتوقف عند المنافسة والسيطرة على الأسواق الخارجية، بل تعدّاه إلى تقليد بعضهما بغية السيطرة على الداخل، والتجسس على شعبيهما بشكل أكبر.
دشنت الصين مطلع هذا العام تقنية التعرّف على الوجه، والتي تتيح لملايين أنظمة كاميرات المراقبة من التعرف على أي شخص وتحديد هويته وإرسال إنذار إلى رجال الأمن القريبين خلال أجزاء من الثانية.
طوّرت كلتا الدولتين العديد من أنظمة المراقبة الذكية، التي تتيح لكلا الحكومتين التعرّف والوصول إلى الشخص المطلوب في دقائق معدودة، ولو أن الصين تعدّى استخدامها لهذه الأنظمة من الاستخدام الاستباقي لحفظ الأمن إلى الاستخدام القمعي والعنصري.
إذ دشنت الصين مطلع هذا العام تقنية التعرّف على الوجه، والتي تتيح لملايين أنظمة كاميرات المراقبة من التعرف على أي شخص وتحديد هويته وإرسال إنذار إلى رجال الأمن القريبين خلال أجزاء من الثانية.
هذه التقنية التي استخدمتها الصين طورتها بالتعاون مع شركة مايكروسوفت الأمريكية، واستخدمتها بالدرجة الأساس لتعقب المعارضين للحكومة، وكذلك لزيادة مراقبة أقلية “الإيغور” المسلمة، المضطهدة منذ سنوات.
بدأت الحكومة الصينية تجرّب نظام المراقبة الجديدة في المنطقة الغربية لمقاطعة شينجيانغ، التي يسكنها العديد من الايغوريين، واضعةً بذلك أكثر من 11 مليون مسلم تحت المراقبة. وبعد أن بدأت الصين باستخدامها لتقنية التعرف على الوجه، كشفت مصادر عن استخدام وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أيه” لهذه التقنية بشكل محدود في بعض المطارات والمنافذ الحدودية.
لم تكد تهدأ الزوبعة التي أثارتها استخدام تقنية التعرف على الوجه في الصين، حتى تعالَ صراخ المدافعين عن حقوق الإنسان والحرّيات مرة أخرى، إذ ثبت قيام رجال الأمن في الصين بتثبيت تطبيق على هواتف الزّوار والوافدين، تتيح للحكومة تتبع الزائر جسدياً ورقمياً
أدى هذا الكشف إلى موجة استهجان من قبل المواطنين الأمريكيين، مما حدى بالمشرعيين في عدة ولايات أمريكية من اتخاذ موقف صارم ضد استخدامها، وتشريع قوانين تحظر على الحكومة استخدامها على الأقل في المدن التي صوتت على حظرها، وهي سانس فرانسيسكو وكاليفورنيا وماساتشوستس.
وأظهرت هذه التقنية التي استخدمتها الحكومة الأمريكية، والتي كانت من تصميم شركة أمازون، تحيزاً كبيراً ضد العرقيات وأصحاب البشرة الداكنة، حيث كانت خوارزمياتها تطلق التحذير من التهديدات المحتملة بنسبة كبيرة ضد معظم حاملي البشرة الداكنة، بطريقة أعادت إلى الأذهان الفترة المظلمة من الاقتتال بين البيض والسود.
لم تكد تهدأ الزوبعة التي أثارتها استخدام تقنية التعرف على الوجه في الصين، حتى تعالَ صراخ المدافعين عن حقوق الإنسان والحرّيات مرة أخرى، إذ ثبت قيام رجال الأمن في الصين بتثبيت تطبيق على هواتف الزّوار والوافدين، تتيح للحكومة تتبع الزائر جسدياً ورقمياً، إذ يمكنها تحديد موقعه على مدار الساعة، وكذلك تتبع نشاطه الإلكتروني والتنصت على مكالماته، إضافة إلى رسائله وسجل هاتفه.
يقوم التطبيق بالبحث عن الملفات ذات الصلة بالإسلام، والتحقق من أكثر من 70000 ملف محدد مسبقاً، لكن أغلبية الملفات التي تم تحديدها كانت عبارة عن محتوى إسلامي، وتم ربط ملفات أخرى بأجزاء من القرآن، ووثائق من الدالاي لاما، وحتى أغنية مؤيدة لتايوان من إنتاج فرقة يابانية.
كأن تقنية التعرف على الوجه لم تكن كافية لرصد ومتابعة الناس، لتعلن بعدها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، عن تطويرها لتقنية ثورية، تتيح للجيش الأمريكي التعرف على الأشخاص من خلال “دقات القلب”.
قابلت الولايات المتحدة هذا التصرف، بآخر مشابه له، إذ فرضت الخارجية الأمريكية شرطاً إضافياً للمتقدمين للحصول على الفيزا، وهو تقديم معلومات عن كل حسابات التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني للمتقدم لخمس سنوات ماضية.
وكأن تقنية التعرف على الوجه لم تكن كافية لرصد ومتابعة الناس، لتعلن بعدها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، عن تطويرها لتقنية ثورية، تتيح للجيش الأمريكي التعرف على الأشخاص من خلال “دقات القلب”.
تعتبر نبضات قلب الإنسان فريدة ومميزة مثل بصمات الأصابع، وتمتاز عنها في إمكانية قراءتها من مسافة بعيدة تصل ل 200 ياردة، وهو ما يستفيد منه البنتاغون، ويعمل على تطويره.
بالطبع هذه ليست نهاية القصة، فالحكومة الأمريكية لديها سجل حافل في المراقبة والتجسس على المواطنين في الداخل والخارج؛ ولعل أبرز ما أثيرت ضجّة حوله هو ما كشف عنه إدوارد سنودن – الموظف السابق في وكالة المخابرات المركزية، الذي قام بتسريب معلومات سرية عام 2013 ثم هرب إلى روسيا – عن مشروع “PRISM“.
بيّن سنودن أن الحكومة الفيدرالية كانت تتجسس على المواطنين من خلال استهداف البصمة الرقمية للمواطنين الأميركيين، كل شيء من أجهزة الكمبيوتر المحمولة، إلى سجل البحث ورسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية وحساب وسائل التواصل الاجتماعي، وعدد كبير من المعلومات الخاصة الأخرى.
الحكومة الفيدرالية لديها تاريخ طويل في إساءة استخدام صلاحيات المراقبة، ومع توسع حجم البيانات الرقمية، انفجرت كمية المراقبة أيضاً
يعد “PRISM” برنامجاً للتنصت على أجهزة المواطنين من هواتف وحواسيب، يعمل على مدار الساعة، يقوم بتفريغ البريد الإلكتروني ورسائل فيسبوك ومحادثات جوجل ومكالمات سكايب وما شابه ذلك، ثم يقوم بتخزين تلك المعلومات في قاعدة بيانات ضخمة تابعة لوكالات الأمن القومي والمخابرات.
جوبهت الضجة الإعلامية التي أُثيرت على هذا المشروع وإصرار حكومي على أن “PRISM” يستخدم فقط لاستهداف الأجانب القادمين الولايات المتحدة الأمريكية، لكن وبحسب ما بين سنودن، فهو يستخدم في الدرجة الأساس ضد المواطنين الأمريكيين، إذ يعمل البرنامج على وضع 125000 مواطن أمريكي تحت المراقبة كل عام.
الحكومة الفيدرالية لديها تاريخ طويل في إساءة استخدام صلاحيات المراقبة، ومع توسع حجم البيانات الرقمية، انفجرت كمية المراقبة أيضاً.
التقارير التي نشرها سنودن، دفعت اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، إلى رفع دعوى قضائية ضد وزارة العدل، لمعرفة المزيد عن الظروف التي تدفع بالحكومة للتجسس فيها على الأميركيين دون إخبارهم.
أمّا فيما يخص تجسس الحكومة الأمريكية ووكالاتها على بيانات الأفراد خارج الولايات المتحدة الأمريكية، فيتم ذلك عن طريق 5 شبكات استخبارية قوية، تعمل ضمن خلية كبيرة تعترض كل البيانات على مستوى العالم، وهذه الشبكة تتكون من:
-
مقر الاتصالات الحكومية في المملكة المتحدة (GCHQ)
-
مؤسسة أمن الاتصالات في كندا (CSEC)
-
إدارة الإشارات الأسترالية (ASD)
-
مكتب أمن اتصالات حكومة نيوزيلندا (GCSB)
تقوم هذه الوكالات والمؤسسات بالتعاون من وكالة الأمن القومي الفيدرالي بالضغط على شركات الإنترنت الكبرى مثل جوجل وفيسبوك وياهو للرضوخ إلى قوانين التشفير التي تحددها الحكومات، والتي تمكن الدولة من التسلل إلى ذلك التشفير ونقل البيانات في أي وقت تشاء، وبخلافه يتم تغريم شركات الإنترنت بغرامات مالية كبيرة كما حدث مع شركة ياهو في 2014.
من المفارقات العجيبة، أن معظم الدول التي قد رفعت شعار الحرية كانت أكثر الدول تجسساً عليهم
يقول جوليان أسانج، أحد مؤسسي ويكيليكس، إن وكالة الأمن القومي تعترض 98 بالمائة من اتصالات أمريكا الجنوبية .
ومن المفارقات العجيبة، أن معظم الدول التي قد رفعت شعار الحرية كانت أكثر الدول تجسساً عليهم، حيث أظهر مسح أجرته وكالة “فرانس بريس” لأكثر الدول تجسساً على بيانات وخصوصيات أفراد شعوبها هي:
1- ألمانيا
حلت ألمانيا في المرتبة الأولى، فهي واحدة من “الشركاء الرئيسيين” لوكالة الأمن القومي الأمريكية حسبما ذكرت صحيفة “دير شبيغل”، وأن وكالات الاستخبارات الألمانية عملت مع وكالة الأمن القومي لجمع البيانات عن المواطنين عبر برنامج خصص لمراقبة وتخزين البيانات يدعى “XKeyScore“.
2- فرنسا
ذكرت صحيفة لوموند أن الحكومة الفرنسية تتجسس على مواطنيها بنفس الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة. ووفقاً للصحيفة، يتم جمع البيانات يومياً من المكالمات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تُخزن المعلومات لسنوات.
3- الصين
الصين تتجسس على مواطنيها – هذا ليس سراً -، فالبلاد لديها امبراطورية رقمية واسعة لأداء مثل هذه المهام، لكن التجسس الداخلي خرج عن السيطرة في الصين لدرجة أن مسؤوليها العموميين يتجسسون على بعضهم البعض.
4- روسيا
لدى روسيا نظام عتيد للتجسس على المواطنين، وهو إرث تلقته من أطلال الإتحاد السوفيتي، تخيل أنها قامت بتركيب نظام مراقبة حتى تتمكن الحكومة من الاستماع إلى الرياضيين والزوار في دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي 2014، تم تطوير هذا النظام والمعروف باسم SORM لأول مرة في الثمانينيات، وتم استخدامه على المعارضة، وخلال دورة الألعاب، ستتمتع وكالات إنفاذ القانون بالسلطة للاستفادة من جميع الاتصالات عبر الإنترنت والهاتف دون إخطار من مقدمي الاتصالات للمستخدمين.
5- زيمبابوي
طلبت الحكومة من جميع مزودي الإنترنت وشركات الهاتف، في البدء في حفظ معلومات على المستخدمين لمدة تصل إلى خمس سنوات، سيتم تخزين المعلومات في قاعدة بيانات وطنية، وتقول الحكومة مثل هذا الرصد هو محاولة لمكافحة الجريمة، لكن الكثيرين يشكون في أنها مجرد وسيلة أخرى للحكومة للتجسس على المعارضة السياسية.
6- سوريا
يخضع الإنترنت في سوريا لسيطرة شركتين رئيسيتين، كلتاهما أسسها الرئيس السوري بشار الأسد، هذه الشركات تسجل جميع الأنشطة عبر الإنترنت، كما تقوم الشركتان بحظر الرسائل النصية وإغلاق الوصول إلى الإنترنت لردع المتظاهرين. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة مراسلون بلا حدود.
7- إيران
تقوم الحكومة الإيرانية وبالتعاون مع شركات عالمية كبرى مثل نوكيا وسيمنز، ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فإن الحكومة لديها حق الوصول إلى رسائل البريد الإلكتروني، وحسابات فيسبوك وتويتر، وأي مكالمات هاتفية عبر الإنترنت.
8- نيوزيلندا
كانت الحكومة النيوزيلندية تتجسس على مواطنيها في الخفاء لفترة، لكن في الآونة الأخيرة تم تشريع قانون رسمي يتيح للحكومة الوصول وتخزين البيانات دون إذن مسبق من المستخدمين.
9- البحرين
تستخدم مملكة البحرين برنامج FinFisher، وهو برنامج تجسس تم بيعه بواسطة مجموعة Gamma، وهي شركة بريطانية، تستخدم الحكومة البرنامج لمراقبة نشطاء المعارضة في داخل وخارج البحرين.
يعمل البرنامج عن طريق إرسال رسالة للناشطين عبر بريد إلكتروني حول بعض الموضوعات ذات الصلة، مثل السجناء السياسيين أو أساليب التعذيب التي تستخدمها الحكومة. البرنامج مخفي في البريد الإلكتروني، وبمجرد فتحه يسمح للحكومة بنسخ الملفات وتسجيل ضربات المفاتيح و اعتراض مكالمات Skype.
10- المملكة المتحدة
المملكة المتحدة والولايات المتحدة تربطهما صداقة جميلة، فهم يتشاركون كل شيء، حتى سجلات المكالمات الهاتفية الخاصة بالمواطنين، إذ تقوم وكالة الاستخبارات البريطانية، والمعروفة باسم مقر الاتصالات الحكومية، أو GCHQ، بتبادل المعلومات التي تم جمعها على مواطنيها مع وكالة الأمن القومي الأمريكية من خلال برنامج يعرف باسم PRISM.
من الواضح أن عصر الإنترنت الذي قرّب المسافات بين أصقاع الأرض، وزاد من تواصل الشعوب مع بعضها؛ زاد في نفس الوقت من كمية المراقبة والتجسس التي يتعرض لها مستخدمي هذه التكنولوجيا الرائعة.