لا يمكن تتبع الحراك الذي حصل في المخيمات الفلسطينية في لبنان من زاوية واحدة بعزله عما يحدث من انزياح ديمغرافي للوجود الفلسطيني في الخارج، سعياً لتفكيك الكتل الناعمة المؤثرة في مناطق الوجود الفلسطيني سواء في لبنان وسوريا أو الأردن باعتبارها في المقام الأول مناطق فلسطيني الجوار، ويقصد بالكتل الناعمة أنها الحاضنة الشعبية التي تشكل بنية أساسية للمشروع الوطني الفلسطيني والتي قد ينبثق عنها مسار داعم للمقاومة بشكلها المسلح.
تتم إعادة هندسة الوجود الفلسطيني في الخارج بشكل ناعم قد يتفق في بدايته مع ما حصل له في سوريا، الذي وصل لإرغام الفلسطيني على حمل السلاح لمواجهة النظام أو الدفاع عن نفسه هناك، ثم تفكيك بنية مخيم اليرموك ليصبح بهندسته الجديدة أرضًا جوفاء غير قابلة لبناء هيكلية حامية للمشروع الفلسطيني. فحوالي 90% من الفلسطينيين في سوريا موجودون اليوم خارج مخيم اليرموك. في نهاية المطاف ما حدث في سوريا دون تقديم تفسير واضح للفاعل أو الدافع الذي أرغم الفلسطيني على حمل السلاح، هو مخطط مدروس لتفكيك هذه الكتلة الناعمة التي تحمي الكتلة الفلسطينية الصلبة هناك.
وقوع المخيمات اللبنانية في حفرة الحرمان المستدام لم يكن وليد اللحظة، بل على مدار التواجد الفلسطيني في لبنان ظل الفلسطينيون في المخيمات يعانون من حرمان حقوقهم تحت خانة الخوف من توطين اللاجئين الفلسطينيين
أما على صعيد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فتكمن أهمية الساحة اللبنانية كآخر الساحات الفاعلة والقوية للفلسطينيين في الخارج، والتي تمكنهم من بناء كتل قتالية صلبة تحميها كتلة عددية فلسطينية ناعمة تلعب دوراً في حال اندلاع حرب مع الاحتلال الإسرائيلي، أو كوسيلة ضغط لمحاربة مشاريع التصفية في المنطقة.
وقوع المخيمات اللبنانية في حفرة الحرمان المستدام لم يكن وليد اللحظة، فعلى مدار الوجود الفلسطيني في لبنان ظل الفلسطينيون في المخيمات يعانون من حرمان حقوقهم تحت خانة “الخوف من التوطين”، وما يترتب عليها من تغيير ديمغرافي لصالح السنّة على حساب الشيعة أو المارونيين.
لذلك قدمت هولندا بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وبالتعاون مع لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني في الحكومة اللبنانية التي يغطي عملها 12 مخيمًا فلسطينيًا إحصائية لعدد اللاجئين في المخيمات وقدّرت العدد بـ 174 ألف لاجئ كرسالة طمأنة للمارونيين خصوصاً، بالرغم من أن عدد المسجلين لدى الأونروا يقترب من 450 ألف لاجئ يقيم 273 ألف منهم خارج المخيمات إلا أن هذا العدد غير دقيق في ظل موجات تهجير مختلفة تعرض لها الفلسطينيون هناك هروباً من الواقع الصعب.
ويبقى العدد الأقرب للدقة ما عرضته هولندا، وهنا يجب الإشارة إلى أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يجب أن يتمتعوا بالحقوق المنصوص عليها في القوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية المعمول بها في هذا الشأن، وإن كانت الأزمة السورية قد رفعت عدد الفلسطينيين في لبنان بنسبة 20% إلا أنهم لا يسكنون المخيمات اللبنانية بالغالب.
كيف تناقص عدد اللاجئين في لبنان؟
“لقد كان تناقص عدد اللاجئين في لبنان صادماً” هكذا علقت المراكز المختصة بحقوق اللاجئين الفلسطينيين هناك، حيث اتهمت أشخاصاً محددين أطلقت عليهم “السماسرة” مثل التاجر الفلسطيني “جمال الغلاييني” والذي أخرج آلاف الفلسطينيين من لبنان نحو أوروبا بمسار يبدأ من مطار بيروت نحو إثيوبيا ثم البرازيل ثم بوليفيا إلى إسبانيا والقارة الأوروبية.
في 30-7-2019 وقف دعمها للأونروا مؤقتاً بعد اتهامات بالفساد، في محاولة لزيادة العبء على الحكومة اللبنانية من ناحية، وزيادة العبء على اللاجئين الفلسطينيين المقيمين هناك من ناحية ثاني
هذا التناقص لم يكن وليد العمل التجاري المحض، إذ أن إفراغ الكتلة الصلبة داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان حاجة أمريكية إسرائيلية لازمة في الوقت الحالي، تشمل الخطة ثلاثة طرق إما فتح “كاردور” نحو أوروبا واضحاً لفلسطينيي لبنان من حملة الوثيقة والمصنفين أكثر اللاجئين الفلسطينيين معاناة في السفر، أو من خلال تسهيل الطرق غير الشرعية، والبقية تخضع لإعادة التوطين بعد تفريغ المخيمات تدريجياً.
تتقاطع هذه السيناريوهات مع تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بخصوص اللاجئين الفلسطينيين ضمن حملته الانتخابية بمنح الفلسطينيين جزيرة بورتوريكو الأمريكية، ثم دعواته لكندا وفرنسا بفتح باب اللجوء أمام الفلسطينيين. كما يتقاطع هذا مع الحديث الغربي -دلالة التوقيت مهمة- عن فساد في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، حيث أعلنت كل من بريطانيا وبلجيكا وسويسرا في 30-7-2019 وقف دعمها للأونروا مؤقتاً بعد اتهامات بالفساد، في محاولة لزيادة العبء على الحكومة اللبنانية من ناحية، وزيادة العبء على اللاجئين الفلسطينيين المقيمين هناك من ناحية ثانية، لفتح طريق باتجاه واحد أمام الفلسطينيين، وهو خارج لبنان.
من يشحن السلاح في المخيمات لصراع النفوذ؟
ما حاجة المخيمات الفلسطينية للسلاح في هذا التوقيت المتوافق تماماً مع الحراك الاجتماعي؟ سؤال ذو أهمية بالغة. وقد علمت مصادر خاصة لـ “نون بوست” أن هناك أشخاص معينين ينتمون لأطراف معروفة يحشدون السلاح ويبيعونه للفصائل الفلسطينية في المخيمات لتحويلها لحالة اصطدام خشنة استعداداً لتفريغها، هنا يجب الإشارة للحالة الأمنية الخاصة التي تعيشها المخيمات، ولعل الحراك بحد ذاته كوصف مشروع لنيل الحقوق الفلسطينية الطريقة الناعمة الجديدة نحو إعادة هندسة المكان والزمان والديمغرافيا دفعاً للاصطدام أولاً ثم التفريغ.
كل المؤشرات “تسهيل الهجرة، وجمع السلاح، والحديث عن قضايا فساد في الأونروا مع وقف دول مهمة دعمها للأونروا..” يستدعي السيناريو الأهم وهو المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً الآن “إعادة هندسة الوجود الفلسطيني في لبنان” بما يمنع إنشاء قواعد عسكرية تؤثر في أي مواجهة قادمة
شهدت فترة الحراك الأخير حضوراً أكبر للتيار الإصلاحي لحركة فتح التابع لمحمد دحلان بشقيه، أولاً النفوذ المالي بزعامة إدوار كتورة، وتمدد المال داخل المخيمات بمشاريع عبر شركة “آرك”. وقد اتهمته حركة فتح سابقاً بتنفيذ سياسات تدعم التهجير. ثانياً، تكثيف التواجد العسكري للتيار بقيادة محمود عيسى الملقب “باللينو”، وحضور التيار في الوساطة مع الحكومة اللبنانية والأطراف الفاعلة في تسوية الحراك.
وفي السياق يذكر أنه في يناير الماضي التقى عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، عزام الأحمد، بقائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون بحث فيه بشكل أساسي التنسيق اللبناني الفلسطيني المشترك داخل المخيمات، ودارت زيارات مكثفة للأحمد إلى لبنان طرح فيها قضية نفوذ التيار الإصلاحي التابع لدحلان هناك.
ختاماً، كل المؤشرات “تسهيل الهجرة، وجمع السلاح، والحديث عن قضايا فساد في الأونروا مع وقف دول مهمة دعمها للأونروا..” يستدعي السيناريو الأهم وهو المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً الآن، وهو: “إعادة هندسة الوجود الفلسطيني في لبنان”، بما يمنع إنشاء قواعد عسكرية تؤثر في أي مواجهة قادمة مع الاحتلال الإسرائيلي، أو تساهم في تطوير عمل فصائل المقاومة في الداخل، إضافة لتفكيك مراكز قوة القيادات الفلسطينية في لبنان، وتفكيك القوة الناعمة من اللاجئين الفلسطينيين التي تحتضن القوة الصلبة هناك، كل ذلك يهدف بشكل واضح لإفراغ المخيمات من الفلسطينيين وتحويلها إلى إعمار عابر.