ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الشهر الماضي، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية مقطع فيديو موجه للشعب الإيراني يدّعي فيه المسؤول في إدارة ترامب، براين هوك، أنه من “الأسطورة” القول إن العقوبات تستهدف حصول إيران على الأدوية. لكن منذ أكثر من عقد من الزمن، كنت أنا وزملائي من المهنيين الطبيين الإيرانيين نناضل من أجل حماية المرضى من تداعيات العقوبات الأمريكية. وقد درسنا آثار العقوبات على قطاع الرعاية الصحية في إيران وطالبنا بردود أفضل من حكومتنا. وتوضح النتائج التي توصلنا إليها أن الأضرار التي لحقت بالمرضى الإيرانيين ليست أساطير.
اليوم، يعتمد العالم المتكامل والمترابط على الأنظمة المصرفية والشبكات التجارية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. نتيجة لذلك، باتت الحكومة الأمريكية قادرة على توظيف العقوبات الاقتصادية لإلحاق الضرر بسهولة نسبيا بالعلاقات الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية في البلدان المستهدفة. وعلى الرغم من أن العقوبات الأمريكية مصممة بطريقة تجعلها تبدو وكأنها لا تستهدف وصول المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء، إلا أن هذه العقوبات تعمل في الواقع كأداة للحرب الاقتصادية.
تفاقم الوضع في ظل رئاسة دونالد ترامب، حيث تُظهر بيانات مكتب تعداد الولايات المتحدة أن الولايات المتحدة صدّرت ما قيمته في المتوسط 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانية إلى إيران سنويا خلال العقوبات المفروضة في فترة رئاسة باراك أوباما
في الأثناء، يصر المسؤولون في واشنطن على أنهم يُبقون على “الإعفاءات” من عقوباتهم لحماية تجارة السلع الإنسانية، حتى بعد أن قضت محكمة العدل الدولية بأن هذه الإعفاءات غير كافية وهي تترك “احتمالا ضئيلا للتحسين” فيما يتعلق “بالتأثير الضار بشكل خطير على صحة وحياة” الإيرانيين. وفي نهاية المطاف، لا بد للولايات المتحدة من أن تنتبه لهذا التحذير الإنساني.
تفاقم الوضع في ظل رئاسة دونالد ترامب، حيث تُظهر بيانات مكتب تعداد الولايات المتحدة أن الولايات المتحدة صدّرت ما قيمته في المتوسط 26 مليون دولار من المنتجات الصيدلانية إلى إيران سنويا خلال العقوبات المفروضة في فترة رئاسة باراك أوباما. في المقابل، بلغ متوسط قيمة الصادرات 8.6 مليون دولار فقط في السنتين الماضيتين في ظل سياسات العقوبات الأكثر قسوة التي يتبعها ترامب.
فضلا عن ذلك، صعّبت إدارة ترامب الأمور على الدول الأوروبية بشأن تصدير الأدوية إلى إيران. فقد انخفضت صادرات الأدوية السويسرية نحو إيران بنسبة 30 بالمئة وذلك من 235 مليون فرنك سويسري (240 مليون دولار) في سنة 2017 إلى 163 مليون فرنك (167 مليون دولار) في السنة الماضية، وفقا لبيانات الجمارك السويسرية. وعلى الرغم من إعادة فرض العقوبات بشكل كامل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، إلا أن الصادرات السويسرية انخفضت في تلك السنة إلى ما دون 173 مليون فرنك سويسري (178 مليون دولار) وهو المتوسط السنوي الذي لوحظ في الفترة الممتدة بين سنة 2008 و2015.
تعتبر إيران رائدة عالميا في إنتاج الأدوية الجنيسة لتساعد بذلك في خفض تكلفة الرعاية الصحية بشكل كبير
ينطبق الأمر ذاته على صادرات الأدوية الفرنسية التي انخفضت بنسبة 25 بالمئة وذلك من 194 مليون يورو (218 مليون دولار) إلى 146 مليون يورو (164 مليون دولار) خلال السنة الماضية. وهذا يعني أنها تراجعت إلى أقل من المتوسط بين سنة 2008 و2015 البالغ 150 مليون يورو (168 مليون دولار)، وذلك وفقا للبيانات الصادرة عن “يوروستات”.
ردًا على مثل هذه الضغوط، وكجزء من سياسة الاكتفاء الذاتي ما بعد الثورة، قطعت إيران شوطا طويلا في ضمان حصول شعبها على الأدوية. وتعتبر إيران رائدة عالميا في إنتاج الأدوية الجنيسة لتساعد بذلك في خفض تكلفة الرعاية الصحية بشكل كبير. من جانبه، أوضح المدير العام لإدارة الغذاء والدواء الإيرانية، أكبر بارانديغي، أنه يتم توفير حوالي 97 بالمئة من الجرعات الدوائية التي تحتاجها البلاد من قبل 100 شركة أدوية محلية تتبع معظمها القطاع الخاص. من جهة أخرى، تُلبّي الواردات 3 بالمئة فقط من الطلب التي يتم شراؤها من العديد من أكبر شركات الأدوية في العالم.
في الواقع، قد لا تشكل هذه المشتريات سوى نسبة صغيرة فقط من إجمالي الطلب لكنها تتعلق بأدوية محددة تعتبر حيوية لصحة العديد من المرضى، لا سيما أولئك الذين يعانون من أمراض في مراحل متقدمة أو مزمنة. وفي السنة الماضية، نشر العديد من زملائي الذين يعملون في مجال علاج الأورام لدى الأطفال مذكرة في مجلة “ذا لانسيت” تُظهر أن أدوية العلاج الكيميائي على غرار الأسباراجينيز، وهو المركابتوبورين الذي يُستخدم في علاج اللوكيميا، وحتى الباراسيتامول، مسكن الألم الأساسي، قد نفذت من المخزون، وهو ما يهدد علاج الآلاف من الأطفال. ويُعطَّل النفاذ إلى هذه الأدوية بشكل كبير نتيجة للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. ويتخّذ هذا التعطيل ثلاثة أشكال رئيسية.
في مواجهة هذه الاضطرابات في الاستيراد، بدأ الانتهازيون في تهريب الأدوية المزيفة وذات الجودة المنخفضة إلى إيران عبر طرق تمر بباكستان وتركيا والإمارات العربية المتحدة
أولا، تؤثر العقوبات على توافر الواردات التي في حين أنها لا تمثل سوى 3 بالمئة من إجمالي الطلب الإيراني حسب الوحدة، فإنها تمثل 39 بالمئة من احتياجات البلاد حسب القيمة، ما يعكس حقيقة أن الأدوية المستوردة عادة ما يكون سعرها أغلى بخمس مرات من الأدوية المكافئة محلية الصنع، وحقيقة أن إيران تميل إلى استيراد الأدوية المتخصصة التي عادة ما تكون أغلى.
تماما مثلما هو الحال مع المواد الخام، جعلت القيود المصرفية من الصعب على المستوردين الإيرانيين الدفع للموردين الأوروبيين والآسيويين مقابل الأدوية. ويُعرّض النقص في الأدوية المستوردة والتكاليف المرتفعة للغاية المرضى الأكثر عرضة للخطر، أي المصابين بأمراض نادرة أو في مراحل متقدمة، للخطر الأكبر. ويظهر قلق خاص بشأن الخطر الذي يحوم حول مرضى السرطان من الأطفال.
في مواجهة هذه الاضطرابات في الاستيراد، بدأ الانتهازيون في تهريب الأدوية المزيفة وذات الجودة المنخفضة إلى إيران عبر طرق تمر بباكستان وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وفي حال ازدادت الاضطرابات سوءا، فقد يؤدي ذلك أيضا إلى إدخال مكونات مزيفة أو ملوثة للأدوية محلية الصنع، وهو ما لن يترتب عنه أدوية منخفضة الجودة فحسب، بل أيضا مخاطر جديدة على الصحة العامة.
إن تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني يُلحق الضرر بمقدمي الرعاية الصحية والمستهلكين على حد سواء من خلال الحد من القوة الشرائية
ثانيا، تقطع العقوبات الطريق على الإنتاج المحلي عن طريق اعتراض سلاسل الإمداد. ويستخدم مصنعو الأدوية الإيرانيون أكثر من 10 آلاف مركب مختلف في عمليات الإنتاج. وقد جعلت ضغوط العقوبات الأمريكية والتأثير القاسي على البنوك الدولية من المستحيل بالفعل على العديد من الموردين تلقي مدفوعات موثوق بها مقابل المواد الخام التي تُباع لإيران. وتتطلب بعض الأدوية 15 مادة من شركات مصنعة مختلفة في بلدان عدة من أجل إنتاجها. ويؤدي غياب مادة واحدة إلى توقف إنتاج هذا الدواء.
أخيرا، إن تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني يُلحق الضرر بمقدمي الرعاية الصحية والمستهلكين على حد سواء من خلال الحد من القوة الشرائية. ويضع انخفاض إيرادات الحكومة وتقليص فرص الوصول إلى العملات الأجنبية عبئا على الإنفاق على الرعاية الصحية، ما يجعل تحمل تكاليف الأدوية المستوردة أكثر صعوبة على المرضى حتى عندما تمتلكها المستشفيات في مخزونها. ووفقا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي الإيراني، ارتفعت تكلفة الرعاية الصحية في إيران بنحو 20 بالمئة بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2018.
يؤدي انخفاض الإنتاج أيضا إلى ارتفاع نسب البطالة، حيث تقدر نقابة الصناعات الصيدلانية الإيرانية مجموع عدد العاملين في مجال تصنيع الأدوية بحوالي 25 ألف موظف، بينما يزاول 100 ألف عامل آخرين عملهم في شركات التوزيع والصيدليات وخدمات ما بعد البيع. ويعتبر هؤلاء العمال الأفضل والألمع في إيران وينتمي 20 بالمئة منهم إلى فئة خريجي الجامعات الذين بات مستقبلهم مهددا بسبب هذه المشكلة.
يدرك القادة المسؤولون في الولايات المتحدة أن المكاسب سوف تكون ضئيلة مقابل تضييق الخناق على التجارة الإنسانية التي سعت الحكومات الأوروبية إلى توفير مزيد من التوضيح بشأنها، لكن هذه المساعي قوبلت بالرفض
إن ما يتراء للعيان كعقوبات مصرفية عقيمة هو أمر شديد الخطورة، ذلك أنها تعرقل عملية حصول الشعب الإيراني، بما في ذلك المسنين والأطفال والنساء والمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة وخاصة الفقراء، على الأدوية التي يحتاجونها. ونتيجة لذلك، ترتفع تكلفة الأدوية بينما تنخفض جودتها في المقابل. كما أن سلسلة الإمدادات غير الموثوق فيها تتسبب في تعليق العلاج وعدم اكتماله ما يجعل بعض الأمراض مزمنة. وتتفاقم الأزمة أكثر من ذي قبل عندما يزيد تباطؤ الإنتاج المحلي من حاجة البلاد إلى استيراد الأدوية في ظل شح موارد الحكومة الإيرانية، التي تجد نفسها مجبرة على استيراد الأدوية بسعر أعلى في حال كانت إحدى القنوات المصرفية متاحة.
يدرك القادة المسؤولون في الولايات المتحدة أن المكاسب سوف تكون ضئيلة مقابل تضييق الخناق على التجارة الإنسانية التي سعت الحكومات الأوروبية إلى توفير مزيد من التوضيح بشأنها، لكن هذه المساعي قوبلت بالرفض. وقد أجبر هذا المعطى كلا من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة على إنشاء آلية دعم التبادل التجاري “إينستكس” بهدف تسهيل التجارة الإنسانية، وهي خطوة لاقت ترحيبا من الإيرانيين.
لكن هذا لا يعني تنصّل الولايات المتحدة من مسؤولياتها الأخلاقية، إذ تتفاوض الحكومة السويسرية مباشرة مع إدارة ترامب لتوفير قناة مصرفية للتجارة الإنسانية، لكن المسؤولين الذين يسعون إلى فرض “أقصى قدر من الضغوط” ويتمسكون بهذا المبدأ، يستمرون في عرقلة جهودها. ويقرّ كل من الموردين الإيرانيين والأوروبيين بخطورة هذا الوضع، لكن إدارة ترامب لا تزال غير مراعية.
لا تزال الحكومة الأمريكية تعاني من نفس الانحلال الأخلاقي بعد مرور قرابة 40 سنة، وما زلت أشاهد النتائج عن قرب
خلال الحرب الإيرانية العراقية، غضت الولايات المتحدة الطرف عن استخدام صدام حسين للأسلحة الكيميائية والبيولوجية ضد الجنود والمدنيين الإيرانيين والأكراد. كما أنها لم تكتف بالامتناع عن فرض عقوبات على العراق بهدف ردع استخدام غاز الأعصاب، بل رفضت أيضًا مساعدة إيران للحصول الترياق اللازم لعلاج ضحايا الهجمات الكيميائية. لقد كنت من بين الضحايا وأحرقت أسلحة صدام الكيميائية رئتي وعيني وخلفت إصابات دائمة ازدادت سوءا مع تقدمي في السن. بقي مئات الضحايا الذين رأيتهم في المرافق المخصصة للطوارئ في ساحة المعركة بالقرب من الحدود الإيرانية العراقية محفورين في ذاكرتي، أولئك الذين لم يتمكنوا من الحصول على العلاج ولا سيما الترياق.
لا تزال الحكومة الأمريكية تعاني من نفس الانحلال الأخلاقي بعد مرور قرابة 40 سنة، وما زلت أشاهد النتائج عن قرب. وعلى الرغم من أنني نجوت من هذه الحرب غير التقليدية، إلا أن الكثير من مواطني بلدي والمرضى الذين عالجتهم لم يتمكنوا من النجاة، وبالتالي فإن وفاتهم الناجمة عن العقوبات ليست خرافة.
المصدر: فورين بوليسي