إن الحديث عن معتقدات وأفكار الديانات التي مضت وتركت أثرها في ذاكرة التاريخ، ليس المراد منه الإخبار عن الشعوب والأقوام الأوليين فسحب، بل يُشكل عاملًا مهمًا في قضايانا المعاصرة، كمسألة الأحقية والهوية التاريخية للشعوب التي سُلبت أراضيها أو العكس، كما أنه يُعطي الأفضلية للبلاد التي سبقت غيرها في البحث والتدقيق، وأخيرًا يُقدم لنا التسلسل الزمني لنهوض الحضارات البشرية بكل المجالات، أهمها الدين، حتى وصلنا لما وصلنا إليه.
لذلك فإن المعتقدات الدينية للحضارات القديمة، محط اهتمام ودراسة المؤرخين والباحثين حتى يومنها هذا، واستكمالًا لـ تقريرنا السابق، سنتحدث اليوم عن الأيدولوجيا الدينية لبعض أشهر الحضارات التي عرفها الإنسان.
الدين في بلاد ما وراء النهرين
يُعرف الباحثون مصطلح “ديانة بلاد ما بين النهرين” بأنها المعتقدات والممارسات الدينية التي كان يؤمن بها كل الأقوام التي سكنت العراق وبابل قديمًا، من السومريين والأكاديين الساميين الشرقيين والأشوريين والبابليين، ومن ثم آمن بها المهاجرون الآراميون والكلدان الذين كانوا يعيشون في بلاد ما بين النهرين (منطقة تشمل العراق الحديث وجنوب شرق تركيا وشمال شرق سوريا) التي كانت تحكم المنطقة لمدة 4200 سنة، منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين وحتى القرن العاشر تقريبًا بعد الميلاد في آشور.
كان الدين في العراق القديم تمامًا كما كان في مصر، من حيث خضوعه للتأثيرات السياسية بالمقام الأول، وكان يمثل درجة عالية من التعليمات والالتزامات الأخلاقية
إن الديانة البابلية ما هي إلا ديانة سوموية مقتبسة من ساميي وادي الرافدين وكلما تبدلت دولة من الدول البابلية، ترث الأخرى الديانة وتحترمها ولا تفكر في إلغائها، بل ربما تضيف إليها وتطورها، فقد ورث الكلدان نصوص الديانات السومرية والأكدية وعملوا بها وتبحروا فيها.
كان الدين في العراق القديم تمامًا كما كان في مصر، من حيث خضوعه للتأثيرات السياسية بالمقام الأول، وكان يمثل درجة عالية من التعليمات والالتزامات الأخلاقية، وكان له عند العراقيين والمصريين على حد سواء المكان الأول في حياتهم العامة والخاصة.
كما كان للعامل الجغرافي والاجتماعي تأثيرهما مثل بداية الديانة المصرية والإغريقية، إذ كان لكل مقاطعة من المقاطعات العراقية آلهة تحرسها، ولكل إله اسم خاص في كل مقاطعة من تلك المقاطعات، ففي مدينة أريدو كان الإله الأعلى يُسمى “أيا- أو- أنكي”، وفي نيبور “أنليل أو- بعل”، وفي أور “سن”، وفي لكش “نين جيرسوا”.
الآلهة في بابل ترجع من جهة أصلها إلى قوى الطبيعية، كمثيلاتها عند المصريين، حيث اختار العراقيون أهم الظواهر الطبيعية التي كان لها أثر قوي في حياتهم، وشخصوها على هيئة آلهة
الدين في العراق القديم كان وضعي متعدد الآلهة بطبيعة الحال، وبذلك فإن معتقد الألوهية كان عندهم يخضع للتفريد وليس التوحيد، فكانوا يفضلون إله عن الآخرين، دون تركهم، حيث كانت مكان آلهتهم متفاوتة، تبعًا لتفاوت المقاطعات السياسية ولسيطرة بعض المقاطعات على الأخرى نتيجة الحروب التي كانت تدور بينها وبالتالي ترتفع مكانة إله المقاطعة المنتصرة.
ثم أصبح العراق القديم يُحكم من ثلاث آلهة وهم “أدوم أو أنو” إله السماء، و”أنليل أو بعل” إله الهواء والأرض، و”أنكي أو أيا” إله البحار والمحيطات وكانت هناك مجموعة كبيرة من الآلهة عدا هؤلاء لها اختصاصات أخرى في الكون.
والآلهة في بابل ترجع من جهة أصلها إلى قوى الطبيعية، كمثيلاتها عند المصريين، حيث اختار العراقيون أهم الظواهر الطبيعية التي كان لها أثر قوي في حياتهم، وشخصوها على هيئة آلهة، وبقيت صفة الظواهر الطبيعية بارزة في آلهة العراق حتى بعد أن تطورت وابتعدت عن نشأتها الأولى، لكن وعلى عكس لم تكن للحيوانات في بابل أي قدسية – على عكس الديانة المصرية -.
لم تكن للديانة البابلية كتبها المقدسة، لكن كتبوا الملاحم والقصائد الشعرية التي تمكنت الكشوفات من التوصل إليها، كملحمة “كلكماش” وملحمة الخلق البابلية “الاينوما ايليش” التي جمعت معتقداتهم وفلسفاتهم وأساطيرهم.
ملحمة الخلق “الإينوما إيليش” تروي حكاية البدء بامتزاج “أبسو”، الذي يمثل المياه العذبة، بـ”تيامات” (تعامة)، التي تمثل المحيطات، ليخلقا آلهة كبيرة وشديدة الصخب، منهم “أيا” وأخوته
أما عن نظرية بدء الخلق البابلية، فكان الناس يعتقدون أنهم خلقوا من طينة الأرض وشكلوا حتى يشبهوا الآلهة، وأنهم ما خلقوا إلا لعبادتهم وطاعتهم ولذلك اعتبر الناس أنفسهم ملزمين تجاه تلك الآلهة بالخشوع والعبادة وتقديم القرابين، التي لم تكن غايتها للحصول على الحياة الخالدة، بل طمعًا في النعم المادية الملموسة في الحياة الدنيا.
أما ملحمة الخلق “الأينوما إيليش” تروي حكاية البدء بامتزاج “أبسو” الذي يمثل المياه العذبة، بـ”تيامات” (تعامة) التي تمثل المحيطات، ليخلقا آلهة كبيرة وشديدة الصخب، منهم “أيا” وأخوته، فينزعج أبسو ويهمُّ بقتلهم، لكن تيامات ترفض وتحذرهم من نواياه، فيقتل أيا أباه ويصبح بعد ذلك كبير الآلهة.
يتزوج أيا من “دامكينا” وينجبا “مردوخ”، الذي يوهَب الريح كي يلعب بها، فيستعملها لصنع عواصف ترابية وزوابع، ما يعكر صفو تيامات والآلهة التي تسكن جسدها ويمنعها من النوم، لذا تقنع هذه الآلهة تيامات بالانتقام لزوجها أبسو، فيما يقنع مردوخ آلهة أخرى بالانضام إليه في معركته ضد تيامات، فيتغلب عليها ويقتلها، ثم يشطر جسدها إلى قسمين، يصنع السماء من أحدهما والأرض من الآخر، ويخلق الإنسان من دماء “كنغو”، الزوج الثاني لتيامات.
وفيما يخص الموت والحياة الأخرى، فإن الاعتقاد بالحياة الأخرى نما نموًا بطيئًا جدًا في الديانة البابلية، لكنه تأثر بالمعتقد المصري عن العالم السفلي، لوم يشك البابليون في حتمية الموت وفرضه على البشر وجميع الأحياء ولكن يبدو أن فكرة البعث بعد الموت وما بعدها، لم يعرفوها في بدء أمرهم على خلاف المصريين القدماء.
الديانة البابلية تأثرت بشكل كبير بالديانة المصرية، لكنها بالمقابل أثرت على عدد كبير من الديانات التابعة للحضارات الأخرى
كانت عقيدتهم في الحياة أن الإنسان ما دام يعمل صالحًا، فقد استحق رضى الإله، وعاش ممتعًا بالسعادة، أما إذا أذنب – بقصد أو دون قصد – فإن الإله حاميه يتخلى عنه فتتلقفه مخلوقات الشر ويتردّى في عالم الرذيلة، وعندما يأتي الموت تنفصل الروح عن الجسم، وتنتقل إلى طور جديد من الوجود إذ تنحدر بعد وضع الجسم في القبر إلى عالم الأرواح وهو العالم السفلي وتعيش هناك إلى الأبد حيث لا قيامة ولا جنة ولا نار.
انتقلت بعد ذلك بعض المعتقدات المصرية إلى بابل، بشأن عودة الروح إلى الجسم في القبر، والحساب وما يترتب عليه من نعيم أو عذاب، وطرق الدفن لديهم، وما نجد في قبورهم من الأثاث واللوازم الخاصة بالميت، تدللنا على ذلك، كذلك ورد في اللوح الثاني عشر من ملحمة جلجامش “أن بعض الموتى ممن خلّفوا الحسنات والمآثر الصالحة.. يعيش في هذا “لعالم السفلي” عيشًا فيه بعض الراحة حيث يمنح الماء والطعام”.
احتلت عشتار مكانًا بارزًا في ديانة وادي الرافدين وانتشرت عبادتها إلى جميع أنحاء الشرق الأدنى وأنحاء أخرى من العالم
من الواضح فيما سبق أن الديانة البابلية تأثرت بشكل كبير بالديانة المصرية، لكنها بالمقابل أثرت على عدد كبير من الديانات التابعة للحضارات الأخرى، كإله القمر كان اسمه عند السومريين والبابليين “سين” ومعناه رجل السماء، الذي عبده الفينيقيون والعرب الأوائل الذين أسموا “سيناء” باسمه، وانتقلت عبادة القمر إلى جهات سوريا وشيد له معبد في “حران”، ثم إلى الفينقيين، وقدسه البدو الآراميون والبدو العرب.
احتلت عشتار مكانًا بارزًا في ديانة وادي الرافدين وانتشرت عبادتها إلى جميع أنحاء الشرق الأدنى وأنحاء أخرى من العالم، وأخذ عبادتها الإغريق وسموها باسم “أفروديت” وعبدها الرومان باسم “فينوس” وقد سماها السومريون باسم “إينانا”، والساميّون باسم “عشتار” وعرفت باسم “عشتاروت وعشتوريت” عند الأقدام السامية الأخرى لا سيما في جهات سورية، وعبدها العرب في الجنوب.
الدين عند الكنعانيين
يُعتبر الكنعانيون الذين أطلق عليهم الإغريق اسم الفينيقيين ثاني جماعة لعبت دورًا مهمًا في تاريخ بلاد الشام بعد الآموريين، فكانت هجرتهم في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد إلى فلسطين من أول الهجرات البشرية، ويقول بعض المؤرخين إنهم قبيلة عربية تنتمي إلى الشعوب السامية، هاجرت من الجزيرة العربية منذ أكثر من 4 آلاف سنة ق. م، واستقرت في جنوب سوريا ولبنان والأردن وفلسطين فوق أحد جبال القدس، الموقع الذي وفر لهم الأمن والحماية، في العصر الحجري الحديث نحو 3000- 1200 ق. م، كما أن آخر وفد كنعاني أتى إلى فلسطين قبل مجيء اليهود إليها بـ50 عامًا.
كانت ديانة الكنعانيين تقوم على تقديس مظاهر الطبيعة والكون مثل باقي الديانات القديمة، وتنوعت الآلهة التي عبدوها على حسب التقسيم الجغرافي
فيما تؤكد بعض الأبحاث والاكتشافات أن مدينة كنعان أقدم من شبه الجزيرة العربية، أي إنهم ليسوا عربًا، وهناك دراسات وأبحاث تقول إن الكنعانيين أول الشعوب السامية التي استقرت في الشرق الأوسط وذلك بعد وصولهم إلى إفريقيا عبر مصر، واستقروا في فلسطين بعد أن سقطت الحضارة الغسولينية بهذه المنطقة في 3300 ق. م، بينما يرى ابن تيمية أن الكنعانيين هم سكان حران وملوكهم هم النماردة.
كانت ديانة الكنعانيين تقوم على تقديس مظاهر الطبيعة والكون مثل باقي الديانات القديمة، وتنوعت الآلهة التي عبدوها على حسب التقسيم الجغرافي وعلى حسب مكانتها وقوتها، وكبيرهم هو الإله “إيل” الأب، الذي كان يُعرف بعدّة أسماء وصفات عند الكنعانيين، وفي هذا دلالة على مكانته المبجلة عندهم، فسموه باسم بعل لبنان، وشميم أي سيد السموات، وظهر أيضًا باسم بعل حمون، وبعل صافون.
أما الإلهة “يم” هي الأم لدى الكنعانيين، والسبب في ذلك هو اعتقادهم بأن الماء هي الأم الأولى التي خلقت الكون، و”عشتار أو عشتروت” فهي آلهة الحب والإخصاب، والربيع فعرفت باسم تانيت، ومن الآلهة الفينيقية المهمة الأخرى الإله “أشمون” وهو إله الشفاء، وكذلك الإله “رشف” وهو إله الحرب وسيد الصواعق، و”شم أو شميم” إله السماء الأول في عقيدتهم، و”أديم أو أدمة” هي إلهة الأرض.
تبين من اكتشافات عام 1929 على يد المنقبين، لألواح طينية من الكنوز الأوغاريتية في صور وقبرص وقرطاج، الكثير من ملامح الميثولوجيا الكنعانية وعلاقة الآلهة عندهم وأنسابهم، واعتبرت هذه الاكتشافات المرجع الأكثر عراقة، حيث يعود تاريخها إلى القرن الـ15 قبل الميلاد.
لا يوجد تسلسل دقيق لمراحل الخلق والتكوين الكنعانية وذلك نتيجة للتلف الذي أصاب الألواح الفخارية، خاصة فيما يتعلق بأساطير بعل
تبين بالاكتشافات أن الحياة كانت منبع اعتقادهم الديني، فكانت العناصر الأربع المكونة للحياة في اعتقاداتهم – التي أخذها الإغريق عن الكنعانيين – دور في تصور أرباب وآلهة لتلك العناصر (النار، التراب، الهواء، الماء)، والدليل الذي يؤكد أخذ الإغريق عن الكنعانيين اعتقاداتهم وآلهتهم، هي المقابلة في ذلك العدد الهائل من أسماء الآلهة في الحضارتين الكنعانية والإغريقية، وكون الحضارة الكنعانية قد سبقت الحضارة الإغريقية بزمن طويل، فبات من المؤكد استعارة وتبني تلك الاعتقادات الكنعانية من الإغريق الذين تعرضوا لاجتياح كنعاني حربي وتجاري.
أما عن نظرية الخلق، فتصنف الألواح الفخارية التي قدمت لنا الأسطورة الكنعانية ضمن ثلاث مجموعات: الأولى تضم الأساطير المتعلقة بالإله بعل، وعلاقته مع بقية آلهة المجمع الفينيقي، وتنطوي ضمنها أسطورة التكوين الكنعانية، المجموعة الثانية تضم ملحمة “كرت”، والمجموعة الثالثة تضم ملحمة “أقهات”.
لا يوجد تسلسل دقيق لمراحل الخلق والتكوين الكنعانية وذلك نتيجة للتلف الذي أصاب الألواح الفخارية، خاصة فيما يتعلق بأساطير بعل، مما أتاح المجال أمام الإطناب في وضع تسلسلات من الأكاديميين ومترجمي الأبجدية الأوغاريتية.
على غرار التكوينين الكنعاني والبابلي، وقبل بداية الكون كانت حالة العماء التي يمثلها هنا “يم”، ولأنه كان لا بد في لحظة ما أن ينشأ شيء من العدم، كان هناك “بعل” إله الخصب الذي يلعب بهذه الأسطورة نفس الدور الذي لعبه مردوخ في “الأينوما إيليش” البابلية في قهر المياه الأولى وإحلال نظام الكون.
بعد انتصار بعل يبدأ رحلته بتنظيم الكون ووضع أسس الحضارة، لكن يتوجب عليه بناء بيتٍ خاص به، حيث يطلب مساعدة محبوبته عناة للحصول على البيت المنشود
تصور الألواح الفخارية هذا النزاع بين بعل ويم، فتبدأ الأسطورة بأن يعزو يم إلى اثنين من رسله إرسال كتاب إلى مجمع الآلهة، يطلب فيه تسليم بعل ليصبح عبدًا له، وبعد وصول الرسولين يقومان بقراءة مطالب يم مباشرةً أمام مجمع الآلهة، فيغضب بعل، وينهض بسلاحه لقتل الرسولين، لكن الإلهتين عناة وعشتار تمنعانه من ذلك، لأن العرف يقضي بصيانة حياة الرسل، بعدها يتعاون الإلهان الحرفيان “كوثر” و”حاسيس” مع الإله بعل، فيقومان بصنع سلاحين فتاكين ليستخدمهما ضد يم، ليسقط يم أمامه معلنًا هزيمة الفوضى والعماء.
بعد انتصار بعل يبدأ رحلته بتنظيم الكون ووضع أسس الحضارة، لكن يتوجب عليه بناء بيتٍ خاص به، حيث يطلب مساعدة محبوبته عناة للحصول على البيت المنشود، فتصعد عناة إلى أبيها “إيل” كبير الآلهة في أعلى السماوات فيرتعد لقدومها ويختبئ في غرفته ذلك لأن عناة وكغيرها من إلهات الخصب تحمل قوى متناقضة فهي محبة رقيقة، قوية جبارة، لدرجة أن أبيها إيل كبير الآلهة يخشاها.
فتعرض مطلبها عليه وتؤيد دعواها زوجة إيل وأولاده، فينبري إيل لمطلبها ويولي مهمة بناء البيت إلى كوثر وحاسيس، لكن لسبب غير معلوم تبدأ عناة بالفتك بالجنس البشري، فيقوم بعل بإرسال مبعوثيه إلى الإلهة الغاضبة، ويطلب منها إحلال الخصب بالأرض.
أما الموت والحياة الأخرى عند الكنعانيين، فهم اعتقدوا بوجود حياة أخرى بعد الموت، وكانوا يقيمون طقوسًا جنائزية خاصةً، هدفها حماية الميت من قِبل الآلهة عند انتقاله إلى العالم الآخر
فتوافق بلهفة شديدة، وتطير قاطعة مئات الأميال، وعندما يراها بعل قادمة من بعيد يذبح لأجلها ثورًا، ويحتفل بها احتفالاً مشهودًا، وبقدومها تبتهج الطبيعة، فيرقص النبات ويتكاثر الحيوان.
أما الموت والحياة الأخرى عند الكنعانيين، فهم اعتقدوا بوجود حياة أخرى بعد الموت، وكانوا يقيمون طقوسًا جنائزية خاصةً، هدفها حماية الميت من قِبل الآلهة عند انتقاله إلى العالم الآخر، وكانوا يضعون الميت مع ذبيحة في قبور مزينة بنُصب جنائزي، وكانت هذه الألواح تثبت بالطين أمام القبور، وأحيانًا تمثل الألواح وجه الميت أو تكون اللوحة مزخرفة على شكل مثلث.
تجدر الإشارة أن الباحثين يعتبرون الألواح المكتشفة وغيرها من الاكتشافات تثبت الأحقية التاريخية للفلسطينين على أرضهم التي كانت تحمل اسم أرض كنعان، وهو أقدم اسم عُرفت به فلسطين، وقام الكنعانيون ببناء معظم مدنها قبل قدوم العبرانيين إليها بمئات السنين، ومن المدن القديمة التي أقاموها أريحا ونابلس وبيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وبئرالسبع وبيت لحم، وظلت فلسطين تُسمّى أرض كنعان حتّى عام 1200 ق. م.
المعتقدات الدينية في الجزيرة العربية
تعرضت المنطقة العربية إلى تغيرات دينية عديدة أثرت بشكل كبير على عقيدة العرب، ووضعتها في حالات كثيرة من اللبس الذي بطبيعته كان له التأثير الأقوى على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية عند العرب، وذلك يعني أن الدين كان لبُنة الأساس للمجتمع العربي.
العرب دانوا بالديانات التي نشرها الأنبياء من نسل آدم عليهم السلام في منطقتهم، فضلًا عن اعتقاد الكثير من علماء المسلمين بأن آدم عليه السلام بنى الكعبة المشرفة في مكة
إن العرب سكنوا شبه الجزيرة العربية واليمن منذ مئات الآلاف من السنين، في نسل مباشر يعود إلى أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام حسبما يعتقد المؤرخون، أما بن سام فمن نسله بعض العرب العاربة، وكل العرب المستعربة، ومن أحفاده إبراهيم عليه السلام، وجميع أبنائه ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وبذلك فإن العرب دانوا بالديانات التي نشرها الأنبياء من نسل آدم عليهم السلام في منطقتهم، فضلًا عن اعتقاد الكثير من علماء المسلمين بأن آدم عليه السلام بنى الكعبة المشرفة في مكة، وتبعه في رسالته ابنه النبي الشيث، والأنبياء إدريس ونوح وهود عليهم السلام.
بعد ذلك تأثرت عقيدة الدين عند العرب وأصبح بعض منهم يعبدون النجوم والفلك ويقول المؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابه “تاريخ العرب قبل الإسلام”، بأن عرب الجنوب عبدوا الثالوث الكوكبي (القمر والشمس والزهرة)، في الألف الأولى قبل الميلاد، وبعضًا منهم جهل كل هذه الأمور، وفقدوا تعاليم أنبياء الله عز وجل إليهم، حتى جاءهم نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وقاموا ببناء الكعبة ونشروا رسالتهم بين العرب، وأصبحت عقيدتهم التوحيد بأن لا إله إلا الله.
بقي الحال كما هو عليه، ونشر إسماعيل عليه السلام – الذي لقبه العرب بالقرش – تعاليم الدين الحنيفي، واستمر بذلك أبناؤه وأحفاده من بعده، حتى قلت هيبتهم وضعفت وكسرت شوكهم، ولقبهم العرب بـ”قريش”، وذلك تصغيرًا من شأنهم، حتى برزت شخصية عمرو ابن لحي الخزاعي الذي غير مجرى العقيدة إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ونشر الأوثان.
أما عن عقيدة العرب عن الخلق والله، فلقد كان مفهوم “الشرك”، حيث عبدت قبائل العرب عددًا من الأصنام، بعضها كان في مكة وبعضها الآخر في مواضع قريبة منها وأحيانًا بعيدة عنها
هناك روايتان تؤرخان لظهور الأوثان في الجزيرة العربية، الأولى تقول إن النبي إسماعيل رحل إلى مكة وأقام فيها وأعاد بناء الكعبة، إلا أن صراعات نشبت بين أبنائه وأحفاده بعد موته، فهاجر بعضهم إلى مناطق أخرى، لكن المهاجرين كانوا يحجون إلى الكعبة، وكانوا يأخذون منها أحجارًا تبركًا بها ويضعونها في أماكنهم ويطوفون حولها كما يفعلون حول الكعبة، ومع مرور الوقت تحوّل الطواف إلى عبادة لهذه الأحجار.
أما الثانية والأكثر انتشارًا في المصادر العربية، تقول إن عمرو بن لُحي كان تاجرًا من قبيلة خزاعة التي طردت أحفاد النبي إسماعيل من مكة، هو مَن أحضر الأوثان من العراق والشام بعد أن رأى أهلهما يتعبّدون لها، وكان أشهر وثن أحضره هو هُبل الذي كان أعظم الآلهة وكبيرها وأول صنم وُضع في مكة، وعندما انتزعت قريش مكة من خزاعة، أحضرت الأوثان من عند القبائل وأقامتها حول الكعبة حتى يحج الناس إليها، وتستفيد من أموالهم، ما يعني أن الأمر كان له بعد تجاري.
أما عن عقيدة العرب عن الخلق والله، فلقد كان مفهوم “الشرك”، حيث عبدت قبائل العرب عددًا من الأصنام، بعضها كان في مكة وبعضها الآخر في مواضع قريبة منها وأحيانًا بعيدة عنها، لكن أشهرها “اللات” الصنم الأنثى الذي عزا إليه العرب فصل الصيف، و”العزى” إلهة المكيين المفضلة، ومناة، إله السحاب والرياح المطيرة وكان منصوبًا بين مكة والمدينة، إضافة إلى إساف ونائلة.
وبذلك فإن القبيلة الواحدة لم تلتزم بعبادة إله واحد، أي تعدد الآلهة داخلها، وكان لكل قبيلة إله خاص بها يحميها من الأعداء، كما الديانات السابق ذكرها، فإذا تحالفت القبائل تحالفت آلهتها معًا، أما إذا تحاربت، فقد ينصرف المغلوبون عن آلهتهم إلى عبادة آلهة أخرى، كما كان للعوامل الطبيعية دور في المعتقدات والأديان التي تبناها العرب قبل الإسلام، فاختلاف عقليات وذهنيات أهل الصحراء عن أهل الجبال عن أهل السواحل أثَّر في اختيارهم لمعتقداتهم.
تأثرت المعتقدات العربية بالديانة المصرية القديمة، منذ القرن الرابع الميلادي، وذلك بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التجارية وصلات النسب والقرابة
كما كان بعضهم لا يؤمنون بأن الأصنام هي التي خلقتهم أو خلقت الكون، بل كانوا يؤمنون بالله خالقًا، وقد صرَّح القرآن بذلك في آيات عديدة، فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61]، وقال كذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]، وفي مواضع أخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87].
كما تأثرت المعتقدات العربية بالديانة المصرية القديمة، منذ القرن الرابع الميلادي، وذلك بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات التجارية وصلات النسب والقرابة، ويتضح ذلك من خلال العثور على معبد للإله حورس في منطقة الفاو بشمال الجزيرة العربية، وتماثيل وجعارين (تماثيل لحشرة الجعران أو الخنفسة) مكتوب عليها بالهيروغليفية في منطقتي الدمام والزهران على الخليج العربي شرقًا، إضافة إلى نصوص عربية قديمة مكتوبة بالثمودية واللحيانية ومكتوب عليها “عبد إيزيس” و”عبد أوزوريس”.
وفي هذا السياق، يقول أحمد كمال باشا وهو أول أثري مصري في القرن التاسع عشر، إن آلهة العرب المذكورة في القرآن كلها أسماء مصرية قديمة، مثل “اللات” المأخوذ من اسم إله مصري هو “الررت” وتم تحريف الاسم حيث نُطق “لام” بدلاً من “راء”.
تجدر الإشارة إلى أن سميح دغيم في كتابه “أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام”، وضح هذه الصورة النمطية، وسلط الضوء على الأديان والمعتقدات التي سادت عند العرب في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام.
الإنسان دائمًا ما يبحث عن سر وجوده وسر اختفائه، ودوره في هذه الحياة، وعن القوى الإلهية المديرة للكون وما عليه
من الجدير ذكره أن العرب كانوا يؤمنون بالقضاء والقدر، فيقول المؤرخ وأستاذ الفلسفة اللبناني سميح دغيم في كتابه “أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام” إن مسألة القضاء والقدر كانت مطروحة في الجاهلية ولم تنبع من الإسلام فقط، فالعرب استعملوا لفظ “منى” بمعنى القدر، ومنها “الماني” بمعنى القادر، والمنيّة بمعنى الموت، فالموت مُقدر بوقت مُعين.
إن كل ما تم ذكره من أديان وعقائد تأثرت بها الحضارات القديمة، تدل على أمور كثيرة واضحة في أغلبها، وهي أن الإنسان دائمًا ما يبحث عن سر وجوده وسر اختفائه، ودوره في هذه الحياة، وعن القوى الإلهية المديرة للكون وما عليه، وعلى نقيضه أمر آخر يكمن في استغلال بعض الجماعات أو الأشخاص لحاجة الناس الأولى لمصالح اقتصادية وسياسية.
واليوم وبعد ظهور الإسلام بـ1440 عامًا، كونه آخر الديانات السماوية التوحيدية، يوجد نحو 4200 ديانة وعقيدة في كوكب الأرض، ما بين ملل وفرق وكنائس وطوائف ومذاهب وعشائر، يعتقد الكثير منهم أنهم على صواب تام.