في الماضي الغابر، ازدهرت أسواق النخاسة تحت ظل قانون القوة الذي حكم البشرية لأزمان ما قبل التاريخ وبعده، فاستباح الغزاة أوطانًا وأسروا أهلها في الحروب، ليقتادوهم فيما بعد للبيع في الأسواق، إذ يتنافس عليهم عِلْيَة القوم، ومن يعرِض أعلى سعر، يربح المزاد ليصبح سيد العبد، وفي حاضر اليوم، تحول السيد إلى آلة فرضت سطوتها على الناس الواقعين في فخ الشبكة الرقمية.
الإنسان البدائي أكثر وسامة
لعل الاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية سيغير شكل البشر تدريجيًا، لدرجة أن الإنسان البدائي سيبدو أكثر وسامة من إنسان المستقبل.
سيكون إنسان المستقبل بمظهر أحدب
هذا ما يؤكده علماء رسموا صورة غريبة لمظهر الإنسان عام 2100 بعدما صممت شركة نموذجًا ثلاثي الأبعاد لإنسان المستقبل، انطلاقًا من فرضيات العلماء، حيث ستؤثر التكنولوجيا الحديثة على جسد الإنسان بصورة مرعبة حقًا، ويكشف النموذج أن الإنسان سيكون بمظهر أحدب بسبب الإفراط في الجلوس أمام الشاشات سواء كانت الكمبيوتر أم التليفزيون، وانحناء الرقبة لفترات طويلة.
موضة حياة اليوم
اجتاحت الثورة الرقمية جميع دول العالم خلال فترة قياسية من الزمن، وتطورت النظم المعلوماتية معلنة ميلاد شبكات التواصل الاجتماعي وفي طليعتها موقع فيسبوك الذي غير طريقة تعاملنا مع الإنترنت، إذ أصبحت معرفة أخبار الأصدقاء الموجودين في أي مكان أمرًا سهلاً ويسيرًا للغاية، لدرجة أننا نسينا، قبل فترة قصيرة، كم كان التواصل صعبًا ومن غير الممكن مشاركة الصور ومقاطع الفيديو التي صارت موضة حياة اليوم عبر تطبيقات الهواتف الذكية.
يتغافل الفرد في رمشة عين عن الساعات التي قضاها متصلاً بالشبكة، في إسراف غير مألوف، ولا يدرك مرور الوقت لأنه أصبح معزولاً عن الزمان والمكان
تغيرت علاقتنا مع الإنترنت عند انتقاله من جهاز الحاسوب إلى الهاتف الذكي ومن ثم تطوير الأجهزة المنزلية حتى أصبحت جميعها قادرة على الاتصال بشبكة الإنترنت، لتتفاعل هذه الأجهزة مستقبلاً فيما بينها دون تدخل الإنسان.
يتغافل الفرد في رمشة عين عن الساعات التي قضاها متصلاً بالشبكة، في إسراف غير مألوف، ولا يدرك مرور الوقت لأنه أصبح معزولاً عن الزمان والمكان.
38 ساعة تعتبر إدمانًا
عام 1998 استنتجت دراسة أن الناس الذين يقضون أكثر من 38 ساعة في الأسبوع وهم متصلون بالشبكة العنكبوتية لأهداف غير أكاديمية أو مهنية هم مدمنون على الإنترنت، بالتالي يضعف مستواهم التعليمي وتضطرب علاقاتهم مع أزواجهم، كما يتراجع أداؤهم الوظيفي، بالمقارنة مع غير المدمنين الذين يمضون متوسط 8 ساعات أسبوعيًا في اتصال بالإنترنت، دون أن يلاحظوا أي آثار سلبية.
عالمة النفس الأمريكية كيمبرلي يونغ أول من وضع مصطلح “الإدمان على الإنترنت”
أُعِدَّت الدراسة من طرف عالمة النفس كيمبرلي يونغ الأمريكية، مؤسسة أول مركز لعلاج إدمان الإنترنت سنة 1995، حيث لاحظت إلى جانب زميلها روبرت رودجرز أن القدرات التفاعلية للإنترنت كغرف الدردشة والألعاب هي الأكثر إدمانًا، ثم يؤدي ذلك إلى نوع من الاختلال في السيطرة على الانفعال السلوكي الذي لا يحيل إلى حالة من السكر، وإنما يبدو أقرب إلى القمار المرضي، حسب الدراسة التي أشارت إلى زيادة مستويات الاكتئاب عند الأفراد الذين أصبحوا مدمنين على الإنترنت.
استنتجت الدراسة أن المستخدمين الجدد للإنترنت في العادة هم الأكثر إسرافًا في الدخول للشبكة بسبب انبهارهم بها
كما توصلت دراسة حديثة أجراها جون جرو هول، أستاذ علم النفس الأمريكي، إلى نتيجة مفادها أن الأشخاص المعرضين للإصابة بإدمان الإنترنت، عادة ما يكون لديهم انجذاب شديد للإثارة العقلية التي يوفرها لهم الكم الهائل من المعلومات الموجودة على الإنترنت، ومدمن الإنترنت يشعر بحالة من القلق والتوتر الشديدين عندما يتم فصل جهاز الكمبيوتر الذي يستخدمه عن شبكة الإنترنت، كما أنه يصبح في حالة ترقب مستمرة لفترات استخدامه القادمة على الإنترنت، ولا يشعر بمرور الوقت طالما كان متصلاً بالشبكة.
واستنتجت الدراسة أن المستخدمين الجدد للإنترنت في العادة هم الأكثر إسرافًا في الدخول للشبكة بسبب انبهارهم بها، وبعد فترة تحدث لهؤلاء المستخدمين خيبة أمل بسبب عجزهم عن تحقيق طموحاتهم واحتياجاتهم الشخصية من خلالها، إلا أن بعض هؤلاء المستخدمين تطول معهم المراحل الأولى ولا يستطيعون تجاوزها إلا بعد فترة، وهؤلاء من أكثر الفئات تعرضًا للوقوع في إدمان الإنترنت.
لا طفل آمن على الإنترنت
غالبًا ما يعجز الآباء عن التحكم في هذه الأجهزة الرقمية أمام إصرار الأطفال على استخدام الشاشات التفاعلية لفترات زمنية طويلة، يترتب عليه تعلق مرضي بهذه الوسائط التي لا تؤثر فقط على تحصيلهم العلمي، بل تضعف علاقتهم بمحيطهم، رغم أن شغف اكتشاف البيئة المحيطة هي خاصية الطفل الفريدة.
يتأثر الأطفال أكثر من غيرهم بالمخاطر التي أنتجتها تقنيات المعلومات والاتصالات، فالأطفال أقل احتمالاً لأن يستوعبوا المخاطر وأكثر عرضة للمعاناة من الأضرار، حيث سبر تقرير لليونسيف أغوار الجانب المظلم من العالم الرقمي ومخاطر ومضار الحياة على الإنترنت، بما في ذلك تأثيرها على حق الطفل في الخصوصية والتعبير.
ولا يوجد طفل على الإنترنت آمن تمامًا من مخاطر الدخول عليها، حيث يتعرض لمحتوى غير مرغوب وغير لائق، ويمكن أن يشمل ذلك الصور الجنسية والإباحية والعنيفة وبعض أشكال الدعاية والمواد العنصرية أو التمييزية أو خطاب الكراهية، ومواقع الإنترنت التي تروج لسلوكيات غير صحية أو خطيرة، مثل إيذاء النفس أو الانتحار، بحسب ما جاء في تقرير “أطفال في عالم رقمي“.
من الممكن يشارك الطفل في اتصال محفوف بالمخاطر، على سبيل المثال مع شخص بالغ يسعى لاتصال غير لائق بالطفل أو لإغوائه لأغراض جنسية، أو مع أفراد يحاولون دفع الطفل إلى التطرف أو إقناعه بالمشاركة في سلوكيات غير صحية أو خطرة، حسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة التي أثارت الانتباه إلى أن عدم استخدام الوسائط الرقمية على الإطلاق أو استخدامها بشكل مفرط كلاهما يؤدي إلى آثار سلبية، في حين أن الاستخدام المعتدل له آثار إيجابية.
مجال لتفريغ النقص والحرمان
الجيل الذي نشأ بين أحضان هذه الثورة الرقمية أظهر مهارات وقدرات استثنائية على الابتكار لم يكن للجيل القديم عهد بها، أبرزها طفرة الروبوتات الذكية التي تختص بقدراتها الفائقة على القيام بعدد كبير من المهام كبديل للبشر.
أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الفرد الحديث بصراحة دون خوف، ويقول ما لا يستطيع قوله أمام الآخرين سواء كان ذلك في السياسة أم الجنس
كما أصبح الإنترنت مجالاً لتفريغ النقص والحرمان، حيث وجدت حشود من الناس فيه ما يسمح لهم بعمليات التفريغ، ومن وجهة نظر المفكر المغربي نورالدين أفاية، سمح الإنترنت ببناء هويات جديدة وانتحال شخصيات غير حقيقية، وأضاف “غيّر كثيرًا من سلوكياتنا تجاه نفسنا والآخرين، فصارت تكشف بعض نقائصها بطريقة فرجوية ربما.. فصارت قضايا حميمة أسريّةٌ متاحة، وتولَّدَ نزوع جماعي للاطلاع على الأنشطة الحميمة والفضائح وتبادلها”، ويضيف أستاذ الفلسفة المعاصرة أن المد الجارف للثورة الرقمية أدى إلى سيطرة الأجهزة على أسلوب عيش الناس، وأنتجت شكلاً من العبودية الطوعية الحديثة.
أصبحت وسائط التواصل الاجتماعي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الفرد الحديث بصراحة دون خوف، ويقول ما لا يستطيع قوله أمام الآخرين سواء كان ذلك في السياسة أم الجنس، فهو يفرغ كل ما يُعانيه من إحباط وكبت المشاعر، لذلك يغرق مدمن الإنترنت في عالم يمكن أن يؤدي به في النهاية إلى الانفصال التام عن حياته الواقعية، أما البالغون فلا رقيب عليهم غير أنفسهم، وعلى مدمن الإنترنت أن يعي حينما يجلس في كل مرة أمام الإنترنت أنه قد يفقد الكثير بسبب انعزاله عمن حوله سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو العملي.
يبدو بمثابة فخ سقطت فيه البشرية عن طوع وهي لا تدري، إذ تصبو طباع الناس إلى استهلاك آخر صيحات التكنولوجيا وتسخير هذه التقنيات لتسهيل حياتهم المعقدة، وفي نفس الوقت تجمع الأجهزة الذكية بيانات ومعلومات ضخمة عن مستخدميها، وأصبحت الحكومات تتعاقد مع شركات وظيفتها الوحيدة تحليل وتنظيم البيانات الضخمة، ليعرف أصحاب القرار كيف يستخدمونها في عصر يسيطر فيه من يعرف أكثر.