أربعة فصول وأربع هزائم يرويها الكاتب الإسباني ألبيرتو مينديس (1941-2004) في روايته “أزهار عباد الشمس العمياء” الصادرة مؤخرًا عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع، بترجمة عبد اللطيف البازي.
مينديس هو ابن للشاعر والمترجم فوسيه مينديس هيريرا، قضى جزءًا قصيرًا من طفولته في مدريد، وانتقل بعد ذلك للدراسة في روما، ثم بعد ذلك لدواعٍ سياسية وأخرى اقتصادية انتقلت عائلته تمامًا للعيش في روما.
ترميم الذاكرة الجماعية
“كانت مدريد في عمق الصورة مثل خشبة مسرح، تلطخ الهواء الفاتر بخيالات مدينة مطفأة، كان القمر يرسمها رغمًا عنه. كانت مدريد بصدد البحث عن مخبأ.”
حَكم الديكتاتور فرانكو إسبانيا بقبضة حديدٍ ونار، كانت مرحلة قاتمة من تاريخ إسبانيا، بكل أهوالها وفظاعاتها، والحرب الأهلية التي نشبت فيها، بين كل من جيش فرانكو، والحركات الأخرى من طالبي التحرر من الديكتاتورية، ووضع حدٍ لما آلت إليه إسبانيا.
قد تكون الذاكرة التي نحيا بها، هي الجحيم بالنسبة إلينا، خصوصًا لو كان ما نود أن نخفيه، يطفو بصورة ملحة ومستفزة أحيانًا أمامنا
الهزيمة الأولى، تحكي عن الجندي الذي كان يحارب في صف الجنرال فرانكو، ثم قبل لحظات من إعلان استسلام الجيش الآخر أعلن هو استسلامه، ليعاقب على ذلك بالإعدام، خلال فصلٍ كامل يصف لنا مينديس ما تفعله الحرب في إنسان. كل ما فعله القبطان أليغريا أنه صرخ المرة تلو الأخرى “أنا مستسلم!”، في مشهد عبثي يحاول من حوله فهم ما يفعله في وقت “اللغة الوحيدة المستعملة الآن هي لغة السيف وكلام الجرح.”
قد تكون الذاكرة التي نحيا بها، هي الجحيم بالنسبة إلينا، خصوصًا لو كان ما نود أن نخفيه، يطفو بصورة ملحة ومستفزة أحيانًا أمامنا، مِن خلال رسائل كتبها أليغريا لخطيبته والبعض الآخر لعددٍ قليل من الأصدقاء، يسرد ألبرتو مينديس حكايته، مِن خلال مشاركته في صف فرانكو، ويسرد معاناة مرحلة فضل المجتمع الإسباني كثيرًا ألا يتذكرها، أو يخوض في حرب أسئلة عنها لا تنتهي.
“ما الذي يمثله مهزوم بالنسبة إلى مهزوم آخر؟”
لم يتمكن أحد من سماع الذين صرخوا أثناء الحرب، ولا تعافي الجسد الممتلئ بالجروح مرة، كل ما هنالك أنهم تعودوا الصمت، وتركوا الكلمة للزمن.
أليغريا بالنسبة إليه كل ما شارك في الحرب هو مهزوم، فلم يأتِ منها إلَّا الخراب والدمار وكان مصيبًا في هذا، وبالنسبة إليهم كان خائنًا، لكن هو لم يود أن يحمل السلاح أكثر من هذا، ويشاهد حياته تمر من أمام عينيه، وكل ما عليه أن يظل هنا في هذا الخندق ينتظر رصاصة.
لم يتمكن أحد من سماع الذين صرخوا أثناء الحرب، ولا تعافي الجسد الممتلئ بالجروح مرة، كل ما هنالك أنهم تعودوا الصمت، وتركوا الكلمة للزمن.
“لم يكن لدي وقت لأضع خططا لحياتي لأن فظاعات أخرى جعلت مستقبلي معلقا.”
منشد أشعار بين طلقات الرصاص
في الهزيمة الثانية التي يسردها مينديس في فصله الثاني والتي تقع أحداثها في العام 1940، يحكي عن شاعر لجأ برفقة زوجته الحامل لمرج بأعالي صومييدو، قصائده كانت سببًا في فراره بعيدًا نحو العزلة، دون مال ولا ملابس، ولا طعام، فقط هو وزوجته الحامل، ودفتر وقلم رصاص، يسجل فيه أحداث أيامه، كلما استطاع.
من خلال الدفتر الذي عُثر عليه، يبدأ مينديس في لَعب لُعبة سردية جميلة، لا يدخلها كثيرًا الكُتّاب، حيث يبدو كناقل لما في الدفتر من صفحات
“ليس من العدل أن يباغتنا الموت بهذا الشكل المبكر من دون أن يكون هنالك متسع من الوقت لتعلن الحياة عن ولادتها.”
الفصل الثاني الذي نحن بصدد الحديث عنه، قبل أن يدرجه ألبرتو مينديس في روايته هذه، فاز بالجائزة الدولية للقصص ماكس أوب.
من خلال الدفتر الذي عُثر عليه، يبدأ مينديس في لَعب لُعبة سردية جميلة، لا يدخلها كثيرًا الكُتّاب، حيث يبدو كناقل لما في الدفتر من صفحات، وشخبطة، لتشعر أن ما هو مكتوب أمامك ليس كتابة مينديس، لكنها كتابة الشاعر الذي هرب من جيش فرانكو هو وزوجته الحامل.
“الموت لا يعدي. الهزيمة تفعل.”
في هذه الهزيمة الثانية تتجسد المعاناة أكثر، وتظهر صورة الحرب بوحشية أكبر، وتأثيرها على الباقية، ميغيل لم يكن يملك إلَّا أبياته التي أخافت فرانكو وكل ميلشياته، تأثيرها كان قويًا، كأي كلمة حق تقال أو تكتب في وجه حاكم ظالم.
في هذا الفصل شعرت بهزيمة ميغيل القوية، وموت زوجته “إلينا” والمعاناة التي عاشها مع الطفل، الذي ولد في بيئة جبيلية كساها الثلج، لا طعام، ولا أي شيء آخر يمّكن ميغيل من مساعدته لتربية الطفل، ما فعله مينديس هنا، هو أن وضع القارئ أمام الهزيمة، وتركه يشعر بكل ما سوف يمر به الأبطال الرئيسين لهذه الرواية.
هزيمة تلو هزيمة، يرويها ألبرتو مينديس، شاركًا القارئ معه في حكايته، ولا يود أن يتكره إلَّا وقد وصلت إليه القصة كاملة، غير ناقصة
“تحت وقع الجوع، أول ما يموت هو الذاكرة.”
لغة الأموات
هزيمة تلو هزيمة، يرويها ألبرتو مينديس، مشاركًا القارئ معه في حكايته، ولا يود أن يتركه إلَّا وقد وصلت إليه القصة كاملة، غير ناقصة، قصة يذكرها الآن التاريخ بما فيها من وحشية وظلم، وحرب راح في سبيلها آلاف من الأبرياء الذين لم يكن لهم ذنب إلَّا طلبهم الحرية، ورفضهم ديكتاتورية فرانكو.
“الصمت فضاء، فجوة نلجأ إليها وإن كانت لا تضمن لنا الأمان.”
عازفُ كمان، وابن عقيدٍ، وأم لا تصدق ما فعله ابنها، وتود بأي طريقة أن تعلم أن ابنها مات مدافعًا عن بلده، وتحاول بكل جهد تصديق هذا الأمر، لكن كل هذا ينهار، بعد كذبة وكذبة تخرجُ من فم خوان صينرا، المعتقل بسبب اتهامه بقتل ابن العقيد إيمار.
مع هزيمة ثالثة مكثفة فيها الحكاية والسرد، يأخذك مينديس داخل المعتقل، بعد أن عرّفك على شكل الحياة داخل إسبانيا، وصوّر لك مدى سوء الوضع في إسبانيا، ما يجعلها مكانًا لا يصلح للعيش.
هزيمة رابعة وأخيرة، حبك فيها مينديس قصة تصلح لنهاية الرواية، عن الأسرة التي تحيا والكل يعلم أن الأب ميت، إلَّا هم، يعلمون أنه حي يسكن دولابا في شقتهم، ويتوقفون عن الكلام كلما سمعوا صوت المصعد يقترب من شقتهم.
كيف يتم قتل ميت؟ هو السؤال الذي يسأله لنفسه خوان، خصوصًا بعد أن يتأجل النطق في قضيته يومًا بعد يوم، ومع استمراره في الأكاذيب رغبة في إعطاء نفسه بضعة أيام من العيش، حتى لو داخل السجن، لم يعد يطيق الأمر أكثر ويبدأ في الاعتراف بكل شيء، ولماذا قتل ابن العقيد، ولماذا كان يكذب على أمه.
“في مواجهة أمر لا تفسير له، تكون المجازفة بتقديم سبب معقول مرادفا للكذب.”
الزوج الذي قرر أن يسكن دولابا
“أبان المحترم، أنا تائه مثل أزهار عباد الشمس العمياء.”
هزيمة رابعة وأخيرة، حبك فيها مينديس قصة تصلح لنهاية الرواية، عن الأسرة التي تحيا والكل يعلم أن الأب ميت، إلَّا هم، يعلمون أنه حي يسكن دولابا في شقتهم، ويتوقفون عن الكلام كلما سمعوا صوت المصعد يقترب من شقتهم.
“لكنهم كانوا يتوجهون إلى الله عندما يختارون بين الهلاك والمجد.”
في وقت الحكم العسكري، أنت شيء من اثنين، إما مواطن صالح غير مشتبه به إلى أن يثبت العكس، أو عميلٌ تكرهُ بلدك وتريدُ الخرابَ لهُ، وكثيرٌ من الشك سوف يحوم حولك وكل من تعرفه. هذا ما حدث مع هذه الأسرة، ليس شكًا أو ملاحقة فقط من العسكر، بل من راهب يحمل سلطة دينية، لأنه رأى في سلوك الطفل أمرًا مختلفًا عن أقرانه.
ألبرتو مينديس من خلال رواية لم تتعدى المائتي صفحة، وفصول أربعة، رسم شخصيات غاية في العمق، اهتم بأكثر التفاصيل المخبأة لديهم في الذاكرة، الرواية بشكل ما معتمدة على الذاكرة
“هل من المفروض أن تكون لحظة التنازل هي التي تعرف قطف الأزهار المولودة بشجيرة الحياة الشائكة؟”
ألبرتو مينديس من خلال رواية لم تتعدى المائتي صفحة، وفصول أربعة، رسم شخصيات غاية في العمق، اهتم بأكثر التفاصيل المخبأة لديهم في الذاكرة، فالرواية بشكل ما معتمدة على الذاكرة، لأنها تروي ما حدث في الماضي. كما أن هناك ترابط كبير بين الشخصيات، حتى وإن لم يظهر هذا الترابط، فبعد الانتهاء من القراءة سوف تمسكه بيدك.
قبل هذا العمل لم يكن مينديس معروفًا بشكلٍ كبير، لكن بعد أن صدرت الرواية وتوفي، نال شهرة ضخمة وجوائز كثيرة، قد يكون تكريمًا بعد موته، لكن الشيء الأكثر قيمة أن ما كتبه قد وصل لنا، وفي ترجمة جميلة، حافظت على النص.
“سأكون عنصرا إضافيا ضمن القطيع، ذلك أنني مستقبلا سأعيش باعتباري عنصرا إضافيا بين أزهار عباد الشمس العمياء.”