“اتجار بالبشر واستغلال وتعذيب وظروف احتجاز مسيئة” هكذا بدأت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرها الذي نددت فيه الانتهاكات التي يتعرض لها المهاجرون الإثيوبيين إلى السعودية منذ لحظة وصولهم إلى اليمن وحتى دخولهم إلى حدود المملكة. وبالاستناد إلى شهادات وروايات عدد من المهاجرين، يوضح التقرير تفاصيل هذه الرحلة المأساوية التي تنتهي بالطرد والترحيل القسري، وفي أحيان أخرى بالقتل.
قبل سنوات معدودة، تناول برنامج “حراك” التلفزيوني قضية العمالة الإثيوبية في المملكة، وفي أثناء الحلقة طالب عضو مجلس الشورى السعودي السابق، عبد الوهاب آل مجثل، “بإنزال أقصى العقوبات على الإثيوبيين المخالفين”، مقترحًا “تقطيع آذانهم، كما تفعل الإمارات العربية وسلطنة عُمان” لكي يكونوا عبرة لغيرهم، وكردة فعل طبيعية على دعوته، هاجم ضيوف الحلقة هذا المقترح وانتقلت مشاعر الغضب والاستياء إلى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك أفشت كلماته عن سياسة دولة بالكامل وليس عن رأي فردي فقط. فما قصة السعودية مع الإثيوبيين؟
بداية المأساة.. ترحيل جماعي واحتجاز تعسفي
في نهاية عام 2013، بدأت المملكة مشروع “سعودة” أو “توطين” الوظائف في القطاعات الاقتصادية داخل أراضيها، كمحاولة للحد من ارتفاع معدلات البطالة وتوفير الوظائف للمواطنين السعوديين، فإلى وقت قريب، وصل عدد العاملين الأجانب إلى 9 مليون من بين 27 مليون سعودي. صاحبت هذه الخطوة حملات طرد واسعة النطاق ضد الأجانب المخالفين، إذ شددت الحكومة القيود على العاملين الأجانب وحصرتهم في نظام الكفيل الذي يسمح للكفيل (صاحب العمل) بالتحكم في المكفول (العامل الأجنبي) بصورة تتعارض مع مواثيق العمل وحقوق الإنسان الدولية، ما يفسر لنا سبب وصفه بـ”نظام الاستعباد” من قبل بعض الحقوقيين والمهتمين بالشأن الخليجي.
لحظة القبض على اثيوبيين في السعودية (المقطع يحتوي على مشاهد قاسية)
في هذه الفترة، أنشأت الدولة نقاط تفتيش لمراقبة هويات العمال الأجانب وتصاريح العمل، واستهدفت في الغالب العمال ذوي المهارات المنخفضة من اليمن والصومال وإثيوبيا، كما ركزت عملياتها تحديدًا في منطقة منفوحة في جنوب الرياض، حيث توجد أكبر جالية إثيوبية، إلى أن انتهت هذه العملية بطرد نحو 163.018 إثيوبيًا (100.688 رجل و732.53 امرأة و8.598 طفل) من المملكة، وفقًا لسجل المنظمة الدولية للهجرة. وبالإجمال، تم طرد أكثر من مليون عامل مهاجر من جميع أنحاء آسيا من المملكة كجزء من حملة التوطين والقمع.
قالت المفوضية العليا للاجئين إن الآلاف من الإثيوبين يخاطروا بحياتهم عبر العبور عن البحر الأحمر وخليج عدن لكي يصلوا إلى الأراضي السعودية، ولكن غالبًا ما ينتهي مصيرهم بالغرق، وذلك إشارة إلى ظروف الهجرة القاسية التي يمرون بها.
أثناء قمع ومطاردة العمّال الأجانب بالعصي والسيوف، توفي 3 إثيوبيين، كما أبلغ عن العديد من حالات اغتصاب وخطف لنساء إثيوبيات من العاملات في المنازل كخادمات أو جليسات أطفال، واحتجاز بعض منهم في إثنين من أسوأ سجون السعودية وهما سجن الشميسي في الرياض وبريمان في جدة. ولا داعي للذكر أن اصطفاف بعض من المواطنين إلى جانب السلطات جاء نتيجة للتحريض الإعلامي، ففي هذا الخصوص يقول جو ستورك، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “لقد أمضت السلطات السعودية شهورًا وهي تصف العمال الأجانب بالمجرمين عبر وسائل الإعلام، ما أدى إلى إثارة مشاعر العداء والكره تجاههم”.
تسبب هذه الأحداث المهينة والتجارب المروّعة بلفت انتباه المنظمات الدولية ولا سيما عندما طالبت القنصلية الفلبينية بإعادة مواطنيها، وتبعها إدانة منظمة “هيومن رايتس ووتش”لظروف الاحتجاز في معسكرات الترحيل والسجون، محذرةً السلطات السعودية من حدوث كارثة إنسانية مشؤومة على العمال المعتقلين. أما المفوضية العليا للاجئين، التابعة للأمم المتحدة، قالت إن الآلاف من الإثيوبين يخاطروا بحياتهم عبر العبور عن البحر الأحمر وخليج عدن لكي يصلوا إلى الأراضي السعودية، ولكن غالبًا ما ينتهي مصيرهم بالغرق، وذلك إشارة إلى ظروف الهجرة القاسية التي يمرون بها.
واحدة من المحتجزات الإثيوبيات قالت: “أمضيتُ 15 يومًا في السجن في جدة، دون طعام، ولا مرحاض، ولا مستشفى. فهم لا يحترمون حقوقنا الإنسانية”. مضيفةً أن أصحاب عملها لم يدفعوا أجرها لمدة عام كامل.
يضاف إلى ذلك، تعبير المنظمة الدولية للهجرة عن قلقها بشأن الحالة البدنية والعقلية للعائدين، واصفةً إياهم بأنهم “مصابون بالصدمة والقلق والمرض الشديدين”. فبحسب واحدة من الممرضات التي استقبلت العائدين من المملكة في إديس أبابا، فإن العديد من مرضاها مصابون بالتهابات الجهاز التنفسي العلوي، “لأن النساء كن محتجزات في أماكن لا يوجد بها مراحيض ولا تكييف هواء، ولهذا السبب أصبن بالسعال”. كما أشارت تقديرات الممرضة إلى أن حوالي 2٪ – 3٪ من الذين عولجوا في المركز تظهر عليهم أعراض الاكتئاب أو الذهان نتيجة للمعاملة التي تعرضوا لها.
وذلك بناءً على رواية واحدة من المحتجزات الإثيوبيات التي قالت: “أمضيتُ 15 يومًا في السجن في جدة، دون طعام، ولا مرحاض، ولا مستشفى. فهم لا يحترمون حقوقنا الإنسانية”. مضيفةً أن أصحاب عملها لم يدفعوا أجرها لمدة عام كامل. إلى جانب شهادة أخرى، تقول إن: “الزنزانات كانت ملوثة، مما تسبب في إصابة العديد منا بالأمراض. علاوة على ذلك، أرادت السلطات السعودية تجريدنا من أمتعتنا، وللأسف، سأعود إلى موطني بخفي حنين، أما الآخرون، فقد أصيب العديد منهم بالجنون جراء الظروف المأساوية التي مررنا بها”.
حقائب سفر تعود لآلاف المهاجرين الإثيوبيين الذين أعيدوا إلى وطنهم من السعودية في عام 2013
أثيرت هذه القضية مجددًا في عام 2017، حين أعلنت المملكة خطتها لطرد نحو نصف مليون إثيوبي من الذين يعيشون فيها بشكل غير قانوني، ما أدى إلى تكثيف الجهود الدبلوماسية والحقوقية لإلغاء هذه الخطوة التي سوف تعرض الآلاف للانتهاكات الخطيرة على أيدي حكومتهم في حال عودتهم، لكن السلطات السعودية أصرت على موقفها بحجة ضبط العمالة الوافدة من المخالفين لنظام الإقامة والعمل في المملكة، وذلك ضمن حملة “وطن بلا مخالف”.
وعلى ذلك، وصفت صحيفة “فيلت” الألمانية المملكة بإحدى “أخطر الوجهات بالنسبة للمهاجرين” وخاصةً الأفارقة الوافدين من إثيوبيا والصومال، وأضافت أن معاناتهم لا تتلخص بقمع السلطات السعودية لهم، وإنما بالطريقة التي يسلكونها للوصول إلى هناك، فغالبًا ما يدفعون الأموال لإحدى عصابات تهريب البشر بغية السفر إلى اليمن على متن القوارب، وانطلاقًا من اليمن، يتجه المهاجرون إلى المملكة العربية السعودية. كما ذكرت أنه خلال عام 2016، انتهت حياة 111.500 مهاجر على هذه الطريق.
وسط صمت حكومي شديد.. المزيد من الاعتداءات والتجاوزات
يوم أمس، نشرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تقريرًا بعنوان “إثيوبيون عرضة لانتهاكات على درب الهجرة الخليجي”، في محاولة إضافية منها لتسليط الضوء على مخاطر رحلة المهاجرين الذين يعبرون البحر الأحمر وخليج عدن لكي يصلوا إلى اليمن على يد شبكة من مهربي البشر الذين عادةً ما يستخدمون العنف والتهديد لابتزاز أقارب المهاجرين لدفع فدية، علاوة على تقييدهم في قوارب غير آمنة ومكتظة دون طعام أو ماء.
قال أشخاص ممن أجرت المنظمة مقابلات معهم بأن حرس الحدود السعوديين أطلقوا عليهم النار فقتلوا وأصابوا الكثيرين من العابرين معهم، ورأوا جثثًا تتعفن على الحدود، وكأن الطرق أشبه بقبور.
فوفقًا لأحد الأشخاص الذين مروا بهذه التجربة، قال: “هناك نحو 180 شخصًا في القارب، ومات 25 منّا. كان القارب في خطر، تتقاذفه الأمواج. كان مكتظًا بالركاب وعلى وشك الغرق، لكن الدلالين [الوسطاء] أمسكوا ببعض الأشخاص ورموا بهم في البحر، نحو 25 شخصًا”. يضاف إلى ذلك، وصف المهاجرون الذين قابلتهم هيومن رايتس ووتش كيف قام آسروهم بتعذيبهم لإجبارهم على الاتصال بالأقارب لطلب النقود، مثل إخراج عين رجل من محجرها بزجاجة ماء أو إحراق آذانهم أو كسر عظامهم أو وصم جلدهم بالحديد الساخن وتعريض أجسامهم للبلاستيك المذاب.
وهو ما وصفته المنظمة بـ”الاستغلال والتعذيب”، خاصةً أن الأمر ينتهي بهم إما مطرودين أو محتجزين أو مقتولين على الحدود. فلقد قال أشخاص ممن أجرت المنظمة مقابلات معهم بأن حرس الحدود السعوديين أطلقوا عليهم النار فقتل وأصاب الكثيرين من العابرين معهم، ورأوا جثثًا تتعفن على الحدود، وكأن الطرق أشبه بقبور.
بالنهاية، حذرت المنظمة السلطات في اليمن وإثيوبيا والسعودية من استمرار هذه الكارثة دون اتخاذ أي تدابير أو إجراءات جدية للحد من العنف والمحن التي تعرقل طريق المهاجرين الباحثين عن فرص عمل وعن حياة كريمة بعيدة عن الفقر وقمع الحكومة، فلطالما تعرضت إثيوبيا لانتقادات بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان، بما في ذلك ظروفها القاسية في السجون ووحشية قوات الأمن وتقييد حرية التعبير والتهجير القسري. ما يعني بكلمات أخرى أن خيارات مواطنيها محدودة للغاية وكأنهم يهربون من موت لآخر دون أمل.