لم يتقاضوا رواتبهم منذ ما يقارب عام ونصف، دخلوا في إضراب مفتوح طال مدة شهر ونصف، ومع عدم توافر حلول عاجلة لحل الأزمة المستمرة منذ خمس سنوات، أبلغت إدارة تليفزيون “المستقبل” المعبر الرسمي عن تيار المستقبل اللبناني، الأربعاء، جميع الموظفين لديها، بإيقاف كل البرامج والأخبار في التليفزيون، مؤكدة أنهم سيعملون بنظام الإعادات للبرامج القديمة، ما يعني أن الإدارة ماضية في الصراع الصفري للنهاية، أو أنها تتجه لإغلاق تليفزيون المستقبل بشكل نهائي، بعد أن أغلقت الجريدة قبل أشهر على النحو ذاته.
توقيف البرامج كافة
التصرف المفاجئ لإدارة المستقبل، لم يمنعها من إعطاء الموظفين، المزيد من الوعود الجديدة، بدفع رواتبهم المتأخرة، وتعويضهم وفق جدول زمني ـ لم يحدد ـ قالت الإدارة أنه سيتم إبلاغهم به لاحقًا، في محاولة للوصول إلى حل ينهي على الإضراب، وأسفر عن تغيب نشرات الأخبار عن الظهور بمحطة سياسية بالأساس، وربما كان ذلك سببًا في تعود أبناء “المستقبل” على غياب البث المباشر، واتخاذه مدخلاً لابتكار حل الاعتماد على إعادة المواد التي قدمت في السابق على الشاشة، وإنهاء علاقة عمل المتمردين بالتليفزيون نهائيًا.
أكثر ما يخيف المتضرريين من السياسات الإعلامية لتيار المستقبل، القوة والتحدي وربما عدم الاكتراث الذي يغلف أداء التيار وإدارته السياسية والإعلامية في هذه الأزمة
لا يأمل الموظفون في الحصول حتى على نصف المعاش الشهري الذي كانوا يحصلون عليه سابقًا، ورغم الكثير من الوعود واللجوء للإضراب العام ووقف بثّ نشرات الأخبار لتنفيذ مطالبهم، فإن الإدارة لم تتوصل إلى حل ينهي الإضراب، وبناء على ذلك رفضت الجلوس من جديد مع الموظفين، وتركتهم تمامًا، وأصبح الصمت والتجاهل، المعبر الرسمي عن التعامل مع الأزمة.
أكثر ما يخيف المتضرريين من السياسات الإعلامية لتيار المستقبل، القوة والتحدي وربما عدم الاكتراث الذي يغلف أداء التيار وإدارته السياسية والإعلامية في هذه الأزمة، الذي ظهر من خلال تعامل سعد الحريري نفسه مع المشكلة وكأنها ليست موجودة في الأساس، حيث يتابع أداء عمله السياسي، وحتى حياته الاجتماعية دون تأثر بما يجري، لدرجة أنه فضل الابتعاد عن البلاد، للاحتفال بعيد زواجه الـ21 قبل أيام.
أوغرت صدور الكثير من الإعلاميين والموظفين ضد رئيس الوزراء، بعدما كانوا يحملون الكثير من الظنون الحسنة به، ولكن سرعان ما تبين لهم أن إهمال الملف مؤسسي بعلم الإدارة السياسية، رغم الخصوصية التي يحظى بها تليفزيون المستقبل، فهو في النهاية أحد أهم إنجازات رئيس الوزراء الأسبق الراحل رفيق الحريري، وكان حتى أعوام قليلة ماضية، يحوذ ثقة واهتمام سعد الحريري نفسه.
الحريري في تليفزيون المستقبل
حتى الآن، ورغم الاعتصام، يحرص أبناء تيار المستقبل على الابتعاد عن عرض تفاصيل الأزمة على وسائل الإعلام المختلفة، إما لارتباطهم العاطفي والمهني بعلاقة مع مؤسسة ولدت عملاقة منذ تسعينيات القرن الماضي، أو لعدم إحراج رئيس الوزراء وتمكينه من أخذ الوقت الكافي لإيجاد حلول مباشرة، لكن هذا الوضع لن يبقى كثيرًا، خاصة بعدما أصبحت القضية لا تنحصر في مرتبات وأجور، وإنما في مصير المنظومة الإعلامية للتيار بشكل عام، فإنهاء المسار الإعلامي لتليفزيون المستقبل، إذا سارت المقادير على هذا النحو، لن يعني إلا قتل تجربة إعلامية بارزة في لبنان، على جميع المستويات.
في خلفية الأزمة من بعيد، تقف السعودية التي اختلت علاقتها بسعد الحريري، بعد أزمة احتجازه قبل عامين في الرياض
ويملك التيار محطة أرضية ومحطة فضائية تبث إلى العالم العربي وأوروبا والأمريكتين، ومحطة إخبارية، وفي الإعلام الإذاعي، يملك إذاعة الشرق التي تبث من بيروت وباريس، بجانب جريدة المستقبل التي كانت لها شعبية كبرى بين مؤيدي التيار واللبنانيين بشكل عام، ولم يتضح بعد ماذا سيفعل التيار في باقي تركته الإعلامية، من أسهم يمتلكها في صحف لبنانية أخرى، مثل جريدة النهار وجريدة اللواء، والعديد من المواقع العامة مثل موقعي لبنان الآن و14 آذار.
خطايا المال السياسي في الإعلام اللبناني
تدفع تجربة المستقبل ثمن انتسابها إلى تيار سياسي واضح الأركان والملامح السياسية، صحيح أن التجربة خلقت هوية متجذرة لها أيام رفيق الحريري، لكن كل شيء تغيّر بعد وفاته عام 2005، وانقسام البلاد سياسيًا وطائفيًا بسبب الحادث، ومع هذا التشرذم ضاعت هوية القناة أيضًا، وباتت تواجه صعوبة في المحافظة على الخط الموضوعي في معالجاتها، رغم هويتها المعروفة سلفًا للقاصي والداني.
أصبحت البوصلة المادية لتليفزيون المستقبل، تتوقف على مشاركته وفاعليته في الأحداث السياسية الساخنة على الأرض، وبطريقة أو بأخرى، أصبحت الشبكة الإعلامية الضخمة لا تستمد قوتها من عملها ومهنيها وتطورها، ولكن من قوة فريق الرابع عشر من آذار الذي كان يستمد قوته السياسية من ترأسه المعارضة ضد التدخل السوري في لبنان وموقفه السياسي المعارض لـ”حزب الله” وخاصة بعد وفاة الحريري الأب، ومع سياسة الابتعاد عن الأزمات التي ينتهجها الحريري الابن حاليًّا، وخاصة على المستوى الخارجي، تحول تليفزيون المستقبل إلى عبء كبير عليه، على المستوى السياسي والمهني والمادي.
في خلفية الأزمة من بعيد، تقف السعودية التي اختلت علاقتها بسعد الحريري، بعد أزمة احتجازه قبل عامين في الرياض، حيث كان التليفزيون يعتمد عليها كغيره من العديد من المحطات التي تعتمد على المال السياسي، وعلى مدار الأشهر الماضية تناثرت الشائعات عن استحواذ تليفزيون mbc السعودي، على مؤسسة المستقبل، ومع تزايد حدة الجدل، وربما السخط من المواليين لأفكار التيار، خرجت العديد من الجهات السعودية لتنفي نيتها التمدد في لبنان عن طريقة الحصول على خدمات الشاشة المتعثرة.
الإعلام اللبناني في أزمة
تستحوذ أزمة تليفزيون المستقبل على الصورة كاملة الآن، ولكنها مع ذلك ليست الوحيدة، إذ شهد لبنان في الآونة الأخيرة إغلاق عدد من الصحف العريقة في البلاد مثل صحيفة السفير والنسخة الورقية من صحيفة “المستقبل” نهاية العام الماضي، كما أغلقت صحيفة الحياة مكتبها الرئيسي في بيروت، وكذلك سرحت “النهار” عددًا كبيرًا من موظفيها.
بحسب مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية “سكايز”، فإن الأزمة في بنية الإعلام اللبناني، تكمن في عدم اعتماده على المبيعات أو الإعلانات، بل على الدعم المالي السياسي المباشر، من رجال أعمال أو قوى سياسية ومالية، أو الدول المتداخلة مع السياسة اللبنانية، التي يتوقف دعمها متى اختلفت في الأهداف والسياسات.
أزمة محطة أم أزمة الحريري؟
ومنذ عقود مضت، والإعلام اللبناني، يرتبط في الذاكرة الإعلامية العربية، بالدعم السخي من صدام حسين ومعمر القذافي، وكذلك قصور الحكم الخليجية، خاصة أن الإعلام اللبناني يملك الكثير من أدوات الريادة والمهنية العالية، ما يجعله مطمعًا للجميع، ولكن مع تبدل موازين المشهد السياسي والإعلامي وصعود قوى خليجية في المنطقة لأعلى مراتب صنع القرار العربي، كان يجب أن يقترن ذلك بظهور محطات بهوية خليجية خالصة، تفرض سيطرتها الإعلامية وتتحدث بلسان خليجي واضح، ما جعلها تستحوذ على أولويات دعم رجالات المال والحكم في الخليج، وأصبح الإعلام اللبناني في أزمة كبيرة، خاصة أنه لا يجد الدعم البديل من الدولة اللبنانية، ولا من الزعامات السياسية الأساسية التي كانت تحكم لبنان منذ التسعينيات، وعلى أساسها استمد تليفزيون المستقبل قوته.
أصبح الإغلاق هو النهاية الأفضل لدفع مستحقاتهم المتراكمة، بدلاً من انتظار اللاشيء لسنوات أخرى
تراجعت الشبكة القوية، بعد تراجع القوى السنية في البلاد منذ اغتيال رفيق الحريري وعدم قدرة نجله على تأمين دعم شعبي وسياسي شبيه بما تمتع به والده، ومع تصاعد أزمته مع السعودية والصعود القوي للقوى المرتبطة بحزب الله في المقابل، أصبحت المنظومة السياسية والإعلامية المرتبطة بالطائفة السنية في إحباطات متتالية وزهد يتراكم كل يوم، حتى عن دعم أذرعها الإعلامية مثل تليفزيون المستقبل الذي فقد التعاطف معه شيئًا فشيئًا حتى من العاملين به الذين يرون حاله حاليًّا أصعب من مجرد إيجاد حل نهائي له.
وأصبح الإغلاق هو النهاية الأفضل لدفع مستحقاتهم المتراكمة، بدلاً من انتظار اللاشيء لسنوات أخرى، فرغم ارتباط مصير المنظومة بالمستقبل السياسي لسعد الحريري، فإن تجاهله لهم لم يعد يدفعهم على تحمل فاتورة الحسابات النفسية والتاريخية للمؤسسة، فإما هم ومستقبل أبنائهم أو لا شيء!
يذكر أن نقابة محرري الصحافة اللبنانية ستنفذ يوم الثلاثاء المقبل في 20 من أغسطس/آب، اعتصامًا في ساحة الشهداء في بيروت تعبيرًا عن الاحتجاج على ما وصلت إليه أحوال الصحافة والإعلام في لبنان وأوضاع العاملين في هذا القطاع، في ظل غياب أي مبادرة من الدولة اللبنانية لإنقاذ الإعلام اللبناني.