في الساعات الأولى من صباح الثلاثاء 17 آب أغسطس 1999، قبل 20 عامًا، هز زلزال قوي منطقة مرمرة المكتظة بالسكان إلى الجنوب من إسطنبول، أكبر مدن تركيا، لمدة 45 ثانية. في غضون أيام، بلغ عدد القتلى الرسمي أكثر من 17 ألف شخص، من بينهم ألف شخص داخل العاصمة الاقتصادية للبلاد.
تسبب الزلزال الذي بلغت قوته 7.4 درجة بمقياس ريختر، وتمركز في بلدة جولجوك الصناعية على شواطئ بحر مرمرة في تشريد نحو 500 ألف شخص وتدمير مدينة إزميد التي تقع على بعد نحو 70 كيلومترًا شرقي إسطنبول، مما أثر أيضًا على أحياء إسطنبول ودوزجي وسكاريا ويالوفا.
وقد واجهت الحكومة انتقادات شديدة بسبب تأخرالاستجابة الفورية للكارثة حيث اشتكى الضحايا من بطء وصول فرق الطوارئ والتخطيط السيء لمن تركوا بلا مأوى، فهل استعدت تركيا لزلزال أكبر؟
20 عامًا على الزلزال المدمر
لم تعد بلدة جولجوك الواقعة في مركز الكارثة تشبه مدينة الأشباح التي كانت في عام 1999، ولا توجد آثار لتأثير الزلزال، باستثناء الصدمات الإنسانية المستمرة لمن فقدوا أحباءهم أو أصيبوا في الكارثة.
استعادت البلدة، موطن البحرية التركية والعديد من المصانع، نموها الاقتصادي والسكاني على مدار 20 عامًا، بعدما أودى الزلزال بحياة أكثر من 5 آلاف شخص فيها، وأصيب نفس العدد تقريبًا، ودُمرت آلاف المنازل والمحلات التجارية أو تضررت بشدة، وتم القضاء على البنية التحتية تقريبًا نتيجة الهزات القوية.
في السنوات التي تلت زلزال عام 1999، أدخلت السلطات أيضًا قوانين بناء أكثر تشددًا، ونقَّحت التخطيط الحضري وسعت لتحسين البنية التحتية العامة الرئيسية
كانت هذه الكارثة نقطة تحول بالنسبة للبلدة وتركيا من حيث الوعي بمثل هذه الكوارث الكبيرة، وشهدت المدينة انتعاشًا سريعًا للمباني، حيث هُدمت المباني التي لحقت بها أضرار شديدة، في حين تم بناء مساكن جديدة للنازحين بعد وقت قصير من وقوع الزلزال، وضمنت مجموعة من اللوائح الجديدة المنفَّذة بعد الزلزال مستقبل جولجوك في حالة حدوث زلزال آخر، وسارعت الدولة بتنفيذ مشروع التحول الحضري الطموح الذي يتضمن استبدال المباني القديمة بأخرى جديدة، ولا تزال المباني الجديدة قيد الإنشاء بعد 20 عامًا من وقوع الكارثة.
خلال هذه الفترة، وبعد 10 سنوات من زلزال عام 1999، وفي بلد تتقاطع فيه خطوط الصدع التي تسبب الهزات بشكل متكرر، تم إنشاء هيئة إدارة الكوارث والطوارئ (آفاد) للتعامل مع الكوارث الطبيعية، وقد حصلت الهيئة التابعة للحكومة التركية على المرتبة الرابعة في مستوى المساعدات اﻹغاثية الدولية لعام 2012، بين كل من أمريكا وبريطانيا واﻷمم المتحدة، ودخلت بذلك إلى مستوى العالمية في اﻹغاثة.
ومن أنشطتها على المستوى الدولي، أنشأت “آفاد” مراكز إيواء للاجئين السوريين في 10 ولايات تركية، وقدمت كل المساعدات اﻹنسانية واﻹغاثية للاجئين المتضررين منذ عام 2011، كما قامت بحملات لإغاثة كل من أصابه الجوع والفقر واﻷمراض المعدية من أهالي ميانمار، وتحركت كذلك لإغاثة ضحايا السيول التي أصابت دول البلقان ومنها البوسنة والهرسك وصربيا عام 2014.
وتعد الهيئة “خطة مواجهة الكوارث الطبيعية” بهدف الاستعداد لأي كارثة طبيعية قد تحدث، وشعارها منذ عام 2012 “ماذا يجب أن نفعل قبل حدوث الزلازل”، وليس “ماذا سنفعل اﻵن بعد حدوث الزلازل”، وقد طرحت إدارة “آفاد” شعار “تركيا مستعدة للكوارث الطبيعية” عام 2013، من أجل تجهيز الشعب التركي ماديًا ومعنويًا ﻷي كارثة طبيعية متوقع حدوثها، وتلتها عدة برامج وشعارات وإعدادات.
حي دوملوبينار في جولجوك في أعقاب الزلزال مباشرة (في الأعلى) وفي الوقت الحاضر (أدناه)
وفي السنوات التي تلت زلزال 1999، أدخلت السلطات أيضًا قوانين بناء أكثر تشددًا، ونقَّحت التخطيط الحضري وسعت لتحسين البنية التحتية العامة الرئيسية، وقامت ببعض التغييرات مثل التأكد من وجود مساحات مفتوحة وإمدادات للإسعافات الأولية بجوار المباني، لكن بعد بضع سنوات بيعت هذه المناطق من أجل التنمية.
ومنذ ذلك الحين أيضًا، تم بناء مستشفيات مقاومة للزلازل، وتركيب أنظمة لخفض خطوط الغاز، لكن الخبراء يقولون إن المشكلة الرئيسية تكمن في أن لدى إسطنبول عشرات الآلاف من المباني التي تم بناؤها بشكل سيء، حيث أظهر زلزال عام 1999 عدد المباني التي تم بناؤها باستخدام أسمنت رديء الجودة مصنوع من رمل غير مناسب تم تجريفه من البحر.
خطر المباني غير القانونية
كانت “آفاد” قد أعلنت أن 15 منطقة هي الأكثر عرضة للكوارث الطبيعية في تركيا والعالم، وقد تم تجهيز تلك المناطق بكل ما تحتاج إليه، وإنشاء 27 مركزًا للخدمات اللوجيستية ﻹمداد تلك المناطق بما تحتاجه، والهدف هو تجهيزها مع سكانها للحظة الصفر.
لكن على الرغم من هذه الإصلاحات واللوائح التي أصبحت أكثر صرامة على مدار الـ20 عامًا الماضية، اتُهمت السلطات بالفشل في اتخاذ إجراءات صارمة بشأن تشييد المباني دون المستوى المطلوب، ومعاقبة منتهكي قوانين البناء وإدارة التنمية الحضرية بشكل صحيح.
وسط هذه التحذيرات، يتوقع بعض الخبراء أن هناك احتمالًا بنسبة 50% في أن تتعرض إسطنبول لزلزال كبير في العقدين المقبلين
ومع إنزواء حدة التهديدات التي يمكن أن تمثلها الزلازل في المستقبل، إلا أن انهيار مبنى سكني من 8 طوابق في حي كارتال في إسطنبول في فبراير/شباط الماضي، الذي أدَّى إلى مقتل 21 شخصًا، جدد المخاوف بشأن صلابة البنية التحتية للمدينة، وأعاد تركيز الانتباه على مخاطر البناء غير المشروع واسع النطاق.
تم بناء الطوابق الثلاث العليا من المبنى السكني بطريقة غير مشروعة باستخدام خرسانة منخفضة الجودة، لكن المالكين سجلوا المبنى بموجب عفو حكومي مُنح العام الماضي للأشخاص المتهمين بالبناء غير القانوني، في خطوة قالت الحكومة إنها كانت ضرورية لإزالة الخلافات بين الدولة والمواطنين، وكذلك “لإضفاء الشرعية على هذه الشقوق عن طريق تسجيلها”.
استفاد نحو 1.8 مليون شخص من أصحاب العقارات من هذه المبادرة بعدما تقدم ما يقارب 10 ملايين بطلب للاستفادة من قرار العفو عن الممتلكات الذي كان من المقرر أن تنتهي صلاحيته نهاية عام 2018، لكن تم تمديده حتى يونيو/حزيران الماضي.
وحقق هذا المخطط عائدات بمليارات الدولارات، حيث دفع أصحاب العقارات لتسجيل المباني التي تخضع بعد ذلك للضرائب والرسوم المختلفة، وقال وزير البيئة والتحضر في ديسمبر/كانون الأول الماضي إن العفو جلب 16.5 مليار ليرة (3.1 مليار دولار) من الضرائب العقارية ورسوم التسجيل إلى خزائن الحكومة.
أثار الانهيار انتقادات واسعة، وسلط الضوء على مخاطر الموافقة على أعمال البناء غير المنظمة في مدينة معرضة للزلازل، “لقد قلنا إن الناس سيدفعون ثمن ذلك بحياتهم، لكنهم لم يستمعوا”، هذا ما قاله رئيس غرفة المهندسين المعماريين في إسطنبول، إسين كومين، وقت انهيار المبنى، مضيفًا أن التركيز كان على العائدات التي ستولدها بدلاً من القضايا المعمارية أو التخطيطية أو الهندسية.
أثار الانهيار انتقادات لعفو حكومي مُنح العام الماضي للأشخاص المتهمين بالبناء غير القانوني
ركز حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشدة على البناء، مما ساعد على دفع النمو الاقتصادي خلال فترة حكمه التي استمرت 16 عامًا، لكن أكثر من نصف مخزون المباني في تركيا – نحو 13 مليون مبنى – يتعارض مع قوانين الإسكان، وفقًا لبيانات وزارة البيئة والتطوير العمراني، حيث تم بناء جزء منها خلال طفرة البناء في الـ20 عامًا الماضية دون رقابة تنظيمية تُذكر.
بعد ذلك، بدأ العمل في معالجة المخاوف المتعلقة بالسلامة، لكن الخبراء يقولون إنها تتركز في الأحياء الأكثر ثراءً، بدلاً من المناطق الأكثر خطورةً، ووفقًا لأرقام مؤسسة TSKB التي توفر للمستثمرين المحليين والدوليين خدمات استشارية عقارية، فإن نحو 32% من المباني في تركيا منذ عام 2002 لم يتم بناؤها وفقًا للوائح القانونية.
هل إسطنبول مستعدة الآن للزلزال القادم؟
في إسطنبول – حيث يعيش ما يقارب 16 مليون شخص، أي خمس سكان تركيا – تزيد المخاوف من حدوث زلزال وشيك، حيث تقع المدينة بجوار صدع شمال الأناضول، وشهدت العديد من الزلازل الكارثية في تاريخها، ففي 1509، اهتزت المدينة بشدة لدرجة أن السلطات العثمانية أشارت إلى الحادث باعتباره “نهاية العالم الصغرى”.
بعد 20 عامًا من الزلزال المدمر الذي ضرب شمال غرب تركيا، يشعر العديد من السكان بالقلق بشأن الأضرار المحتملة الناجمة عن زلزال كبير آخر لا مفر منه، وهو نفس الشعور الذي عَّبر عنه أردوغان في مقابلة مع “سي إن إن ترك”، وألقى حينها باللوم في انهيار مبنى إسطنبول على البناء غير القانوني الذي “يشكل تهديدًا في جميع المدن الكبرى”، وقال عند زيارته الموقع، إن السلطات عليها أن تتعلم الدروس من الحادث، فهل فعلت ذلك؟
كانت هناك بالفعل جهود لإعادة بناء المباني “المعرضة للخطر” بأسلوب أكثر صلابةً، لكن رئيس غرفة المهندسين المدنيين في إسطنبول نصرت سونا يرى أن هناك حاجة إلى تعبئة أكبر بكثير للوصول إلى المستويات الأساسية من مقاومة الزلازل
بحسب رئيس مجلس إدارة “اتحاد غرف المهندسين و المعماريين الأتراك”، أمين كوراماز فإن تركيا فشلت في تعلم الدروس المستفادة من زلزال عام 1999، وأضاف “أكبر درس يجب أن نتعلمه هو أن المدن التي أنشئت مع تجاهل المخاطر الجغرافية والتوسع الحضري غير المخطط له وغير النظامي والهياكل التي لم تتلق الخدمات الهندسية تشكل تهديدًا كبيرًا للناس”.
ووسط هذه التحذيرات، يتوقع بعض الخبراء أن هناك احتمالًا بنسبة 50% في أن تتعرض إسطنبول لزلزال كبير في العقدين المقبلين، وفي أسوأ الحالات، يمكن أن يصل الزلزال إلى 7.7 درجة، بحسب تقديرات سوكرو إرسوي، المتخصص في جامعة يلدز التقنية بإسطنبول، ووفقًا له، فإن مثل هذا الزلزال من شأنه أن يدمر الآلاف من المباني، تاركًا عددًا “مرعبًا” من القتلى ويشل المركز الاقتصادي والسياحي في تركيا.
والسؤال الذي يطرحه علماء الزلازل ليس ما إذا كان زلزال آخر سيضرب إسطنبول أو لا، بل في معرفة متى ستحصل هذه الهزة في مدينة تقع على طول خطوط الصدع التي تشمل صفائح تكتونية المضطربة شمال الأناضول.
على الرغم من هذه التحذيرات، فإن قليل من المدن التركية يمكنها أن تكون متساهلة في الاستعداد لمثل هذه الكارثة، ويقول الخبراء إن العديد من المباني في إسطنبول غير آمنة والمدينة غير مهيأة لزلزال كبير بسبب مبانيها القديمة، ففي الأسبوع الماضي، لحقت أضرار بنحو ألف مبنى وإصابة 92 شخصًا عندما ضرب زلزال بلغت قوته 6 درجات دنيزلي، غرب تركيا.
في السياق، حذر رئيس جمعية المسعفين رجب سالجي، رئيس جمعية المسعفين (اكوت) الذي شارك في عمليات الإنقاذ بعد زلزال 1999، من دون تغييرات سريعة، أن إسطنبول تخاطر بالتعرض لخطر “فوضى حقيقية” بسبب الزلزال الخطير، وقال “لا يمكننا الحيلولة دون وقوع زلزال، لكننا نستطيع الحد من عواقبه بشكل هائل”، مستشهدًا بأمثلة من اليابان وتشيلي، وهما معرضتان بالمثل لخطر الزلازل، لكنهما اتخذتا تدابير جذرية لتخفيف تأثيرها.
في المقابل، كانت هناك بالفعل جهود لإعادة بناء المباني “المعرضة للخطر” بأسلوب أكثر صلابة، لكن رئيس غرفة المهندسين المدنيين في إسطنبول نصرت سونا يرى أن هناك حاجة إلى تعبئة أكبر بكثير للوصول إلى المستويات الأساسية من مقاومة الزلازل، ويعتقد أن الأمر سيستغرق من 15 إلى 20 عامًا لوضع إسطنبول بالكامل على أهبة الاستعداد لأي خطر قادم.
كما تعهد عمدة إسطنبول المنتخب حديثًا أكرم إمام أوغلو، بتسريع خطة الاستعدادات للمدينة، بما في ذلك الجهود المبذولة لتوفير المزيد من مواقع التجميع الجديدة التي فُقد الكثير منها بسبب التطورات الجديدة، والمساحات الخضراء – التي تفتقر إليها في المدينة – ويمكن استخدامها لجمع الناجين في حالة حدوث زلزال آخر.
ومن الناحية النظرية، يتمتع كل حي بنقطة تجميع لهذا الغرض، لكن الكثير منها فُقد تحت وطأة إنشاء مواقف السيارات الجديدة ومراكز التسوق، ومع التفكير في استعادتها، فإن مثل هذه الخطط طال انتظارها بحسب الخبراء، وهناك حاجة ماسة إليها إذا أرادت تركيا أن تصل إلى مستويات الاستعداد التي شهدتها البلدان الأخرى المعرضة للزلازل مثل اليابان.