لم يكن الشعر مقصورًا على الرجال فقط، سواء كتابته أم نطقه، فالنساء لديهن القدرة والموهبة على قوله وكتابته، يملكن اللغة وكل المقومات التي تجعلهن يكتبن شعرًا يصيغن منه هواجسهن وواقعهن وما فيه من حكايا، ورؤيتهن عن ماهية العالم ووضع تصور ما عنه.
في ثلاثة دواوين لثلاث شاعرات عربيات من دول مختلفة، تجمعهن لُغة واحدة، وكثير من الأمور المشتركة، كان الشعر سبيلاً لخروجها، ضمن سلسلة براءات للشعر التي تقدمها دار المتوسط، احتفاءً بالشعر وكاتبيه، كذلك تفعل في سلاسل أخرى للقصة القصيرة والرواية والأدب العالمي المترجم، لتُثرينا بما خفي عنا أو فقدنا القدرة على البحث عنه.
الدواوين الثلاثة هي: “اسمح لليل بالدخول” للشاعرة المصرية زيزي شوشة، و”ثقوب واسعة” للشاعرة الفلسطينية المقيمة ببلجيكا فاتنة الغرة، و”في الزمن وخارجه” للشاعرة والمترجمة التونسية المقيمة في هولندا لمياء المقدم.
كتابة الدم
تبدأ زيزي شوشة ديوانها “اسمح لليل بالدخول” بقول لنيتشه: “لا أُحبُّ إلا ما يكتبُهُ الشخصُ بدمِهِ”. داعيةً أن تكون الكتابة بالدم، حتى نكتشف الروح وما تبطنه.
البحثُ عن القصيدة أصبح وظيفة زيزي شوشة، حين قررت أن تكتب الشعر، قصيدة مِن نوعٍ خاص، تكتبها لنفسها، عنها، لا عن الغير، قصيدةً تشبهُ غربتها في ليلٍ طويل، الليل الذي تنتمي له زيزي وتخلق منه قصيدتها.
أبحثُ عن قصيدة/ تشبهُ غُربتي/ بصوتها الهارب/ وثوبها الشفاف.
الليل بالنسبة لزيزي هو أسيرها، الرفيق الذي تستند على عتبته، لتبدأ الكتابة التي تحاول جاهدة أن تكون كتابة الدم، لتخرج شفافة رغم صوتها المبحوح وغربتها الطويلة، حتى من عنوان الديوان، نجد أن الليل هو كلمة السر التي تنطلق منها زيزي، ومِن أول ديوان لها أيضًا، نجد تكرار كلمة الليل كثيرًا.
الرجل الذي يأتي كل ليلةٍ/يضع قبلتين جامدتين على وجهي/ثم يجلس إلى جواري/ينبش في ذاكرتي
زيزي تصنع قصيدتها من مكونات بسيطة جدًا، لكنها في غاية العمق والجمال، لها مدلولات خفية، ولا تحب التفاصيل، فهي لا تقف عند كتابة قصيدة تحكي فيها أو تعبر عن شعور ما، بل تتطرق لأكثر من ذلك، نجدها مثلًا في إحدى قصائدها تحكي قصة الخلق بطريقة مختلفة مشوقة، معجونة بسحر الشعر وما يفعله.
سأقفز إلى أعلى/صوب الرب/ربما خلصني من تلك اللعنة
يؤرق زيزي في ديوانها لفظة الموت، تسأل عنه كثيرًا في قصائدها، تعطيه صفة الرجل، تحاول أن تنطقه، كذلك تفعل مع القبر، عن النقيض الآخر – الحياة -، والليل الطويل الذي لا ينتهي ولا تريده أن ينتهي، عن علاقتها بالجسد الذي تريد أن تتحرر منه وتصبح لا شيء، كذلك التحرر من الوجود تمامًا.
والرب دائمًا محل سؤال عندها طوال الديوان، باحثة عن معنى خفي أو إجابة ما، مُلقيةً كل ما يدور في رأسها على الورقة، حتى نتشارك معها القصيدة.
صدقني حين أكتب إليك مع أول ضوء نهار/حيث الجرح الجديد/الكلمات العارية/والصراع مع الرب والأرض/فقط/صدقني حين أموت
يأتي الشعر حين نصمت، حين نصبح أصدقاء لليل، كما فعلت زيزي شوشة في ديوانها هذا وكتبت كما تمنت بالدم.
أرجوك ابق صامتًا/الكلمات تُنهي كل شيء
كتابة الروح
فاتنة الغرة الشاعرة الفلسطينية في ديوانها هذا (ثقوب واسعة) تصف قلبها في أول قصيدة لها أنه زنزانةٌ بحديدٍ صدئ، وتعنون أول الديوان بكتاب الروح.
قلبي الذي يشبهُ الرمّانة/ملفوفٌ بحريرٍ متين/مُلقى في زنزانةٍ، تُطلُّ على جبل
تشعر مِن أول وهلة تقرأ فيها لفاتنة أنك أمام لوحةٍ سريالية مُتقنة الصنع، تفاصيلها غايةً في الروعة، جريئة في قصيدتها، لا تداري معنى خلفها، تقول الكلمة واضحة، غير عابئة بأي تكهنات أخرى.
الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة
فاتنة ترى أيضًا أن في الصمت يخرج الشعر، وأن فيه كل الكلام الذي ممكن أن يقال، هي انساقت إلى الكلمة، انجذبت للعالم الواسع الذي يتكون من حرف جوار آخر، هذا النسيج العملاق الذي ممكن أن ترى فيه حياتك، مكتوبة، أو تكتبها أنت، أيضًا دائمًا ما يبدأ الشعر بحكاية، مثل فاتنة، فهي من المخزون القوي لديها، حكايات أمها، النصوص التي التهمتها قراءة وفهم، فخرج لنا بتلقائية قصيدة فاتنة، وهذا واضح جدًا حين تقرأ لها.
ضجيجُ كائنات في رأسي/صمتٌ فيه كُلُّ الكلام/صوتي يصرخ هناك/بلُغة مفهومة
بقول الشعر، تُثبت فاتنة أنها موجودة، حية، لا لغرض رسالة ما، فقط لغرض أسئلة تحتاج لها إجابة، لتعرف نفسها، لتوصل لنفسها شيء ما لا لغيرها، لتتضح الصورة.
روحي قلقةٌ/كومةُ شوكٍ مُبلّلةٍ/تسدُّ النافذة من احتراقِ الأرض/لتدخل منها الحياةُ كاملة
فاتنة في ديوانها (ثقوب واسعة) مهتمة بالسؤال عن الشوارع، المدن، المقابر والموت، عن قلبها الذي أطفأت عنه المصابيح التي تقود إليه، تكتب عن الحبيب المفقود والجسد والرغبة والوحدة في هجرتها.
“أزيز الباب الخشبيّ، هكذا صوتي”
فاتنة هنا تصنع علاقة بين الروح والجسد من خلال الشعر، مثلما سمت الكتاب الأول في الديوان بكتاب الروح، سمت الثاني بكتاب الروح والجسد.
“وريقاتٌ صغيرة نبتت في يدي الميتة”
نص فاتنة الذي بين يديّ فيه كثير من الموسيقي المحببة، توازن كبير بين الشعر والنثر، وعوالم متخيلة غريبة، غير مألوفة، رغم أن الواقع مُسيطر عليها، تراه في كل كلمة، خلطة بين أشياء كثيرة تبدو متناقضة، مهمومة بالبحث عن إجابة لها.
“أمشي في المدينةِ وحدي/حافيةً أمشي في الشوارعِ/المقابرُ تُحاذيني/وأنا أمشي حافيةً في الشوارعِ وحدي/الإسفلتُ ينخرُ قدميّ/لا ندوب أو دماء تسيل/هدْهدةٌ صغيرةٌ لطيفةٌ فقط/تشبهُ الدغدغة”
في الزمن وخارجه
وإذا مت كتبوا على قبرك: ولد كالريحِ في قريةٍ منسيةٍ ونائية/ومات كحجرٍ بارد/في يدِ غريق
هذا أول ما كتبته لمياء المقدم الشاعرة التونسية المقيمة في هولندا، في ديوانها (في الزمن وخارجه)، في تجربتها الثالثة الذي تبنيه على ثنائية الجسد والحب، وتنقل تجربتها، أو قل تكتبها في القصيدة، خارجة عفوية، غير مقيدة بخوف، بل تُكتب بجرأة كبيرة.
لا تذهب، ولو ليومٍ واحدٍ، ولو لدقيقةٍ واحدةٍ، ولو للحظة/ ليس من دوني، ليس معي/لا في الزمنِ، ولا خارجه/لا في المكانِ ولا خارجه/لا تذهب
الشاعرة التونسية لمياء المقدم
لمياء المقدم في ديوانها، تشغلها علاقة الجسد والروح والحب، لا تفكر في القارئ في أثناء الكتابة، تكتب قصيدة النثر من أجل أن تكون حرة، هذا واضح جدًا في ديوانها، فهي كقصيدة النثر تمامًا تهتم بالمعني والدلالة أكثر من الصورة.
“لأن الحجر الذي كان خفيفًا في قلبي/هوى إلى القاع/ ساحبًا كل شيء معه”
أكثر ما يميز ديوان لمياء المقدم، هو بساطة كتابته، اختياراتها للمفردات الشعرية بسيطة جدًا وجميلة وتهتم بالتفاصيل الصغيرة التي تعطي للنص شكلاً مختلفًا عن الباقية.
“لامتلاك القدرة على قول الأشياء ببساطة خُلق الشعر”
البحث عن النفس، عن الصورة الواضحة، هو ما تفعله لمياء، وأن الكوني والإنساني دائمًا موجود في التفاصيل اليومية التي تعرض نفسها ببساطة، لذا تعرض التفاصيل الصغيرة والبسيطة في كتابتها.
حين يغدر الحب بنا، وتؤلمنا الذكريات يكون الشعر خاصة، والكتابة عامة، سبيلًا نسلك منه، حتى لا نهلك داخل ذواتنا.
“خلف كل حب موت مختلف/هذا ما يبقى في النهاية”
تتعامل لمياء مع الجسد على أنه فكرة، وعلى هذا الأمر يجب أن يتعامل البشر معه.
“ظل الجسد غارقًا كمدينة مات سكانها”
لا تقف لمياء عند كتابة القصيدة فقط، هي تجعلها موجهة للقارئ فتخاطبه، ليشاركها هذه الحياة أو التجربة، ليكن معها في القصيدة ولا تختبأ خلف كلمة، هي جريئة فيما تكتبه، وتطلق الحرية لصوتها الداخلي في أعماقها، فتترك له مع الحرية خيالًا واسعًا ومساحة أكبر للتنقل فيها، هي لا تحاول أن تدّعي ما ليس داخلها، ليست بحاجة لذلك، فتجربتها، حياتها، كفيلة أن تعرض نفسها بكل حرية.
“عشرون عامًا، الميت حيّ، والحيّ ميت بقوة الغدر”
لمياء المقدم لا تمارس أي رقابة على ما تكتبه، فالكتابة لا تحتاج لرقابة من أي نوع، فنجدها في هذا الديوان تتكلم عن الجسد، الحب، بكل حرية، لأنهم يحتاجون للكتابة بحرية، واللغة لا تتقيد بها نهائي، هي دائمة البحث عن الأداة التي تمكنها الكتابة بعيدًا عن أي تعقيد لُغوي، يمكننا القول إن هذا الديوان عبارة عن سيرة تسرد فيها لمياء علاقة الجسد والحب، سواء في الزمن أم خارجه.
“وعندما ينكسر جناحي/لا تحزن، لا بد أن ينكسر شيءٌ في النهاية”
لو نظرنا للثلاثة دواوين، لوجدنا أن هناك تشابهًا في بعض الأشياء، جعلتني مهتمًا لوضعهم في مقال واحد: فالمكان يلعب دور كبير في الثلاثة، الشوارع والمدن لها حضور مُستمر في القصيدة، كذلك يشتركن في السريالية خصوصًا فاتنة، الموت، الحب والجسد، الروح، القلب، العمدان الأساسية التي بُنيّ عليها الدواوين، والحبيب المفقود والوحدة، كان لهم حضور قوي.
الكتابة من أجل أنفسهن كانت موجودة في كل ديوان، رغبة البحث عن أجوبة لأسئلة تُجلب الحيرة والقلق أحيانًا، والتعبير بكل جرأة، وعدم الاختباء خلف أي تراكيب لُغوية، واستخدام الثلاثة الشعر كوسيلة للتعبير عن قضايا المرأة وهواجسها وأحلامها وخوفها وغضبها.