يقف سد تشرين، ثاني أكبر سد في سوريا، شامخًا على ضفاف نهر الفرات، بين محافظات حلب والرقة والحسكة، محققًا أهمية استراتيجية كونه أحد الجسور القليلة المتبقية التي تربط بين مناطق شرق الفرات وغربه. كما يتميز بقربه من عين العرب/كوباني، المدينة التي تعتبرها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) رمزًا عالميًا لتحريرها من تنظيم “داعش”، مما منح السد مكانة مقدسة في نظرها، وفي الوقت ذاته، جعله كابوسًا مرعبًا في حال خسارته.
اكتسب سد تشرين اهتمامًا إعلاميًا وسياسيًا متزايدًا، بعدما تحول إلى ورقة ضغط ومساومة في يد قسد، التي تسيطر عليه وتقاتل بشراسة للحفاظ عليه، باعتباره آخر وأهم أوراقها التفاوضية، إذ تسعى عبر الدفاع المستميت عنه إلى فرض اتفاق يخدم مصالحها ويوسّع دائرة نفوذها، في ظل انشغال دمشق بتثبيت أركان حكمها وإعادة تقديم أوراق اعتمادها إقليميًا ودوليًا، مع غياب شبه تام عن معارك سد تشرين.
تاريخ السد
بدأت التحريات لتحديد موقع سد تشرين للمرة الثانية عام 1985، من خلال تعاون مشترك بين المؤسسة العامة لسد الفرات ومعهد “هيدروبرجكت” السوفيتي، إلى أن تم اختيار الموقع الحالي للسد.
ومن المفارقات التاريخية أن هذا الموقع كان قد تم اختياره منذ عام 1966 كأحد الخيارات الأساسية لإنشاء سد الفرات، حيث تم اعتباره الموقع الأمثل بفضل وقوعه بين كتفين طبيعيين يشكلان اختناقًا في مجرى نهر الفرات، ما يجعله مثاليًا لإنشاء السد.
استغرق بناء هذه المنشأة الكهرومائية 8 سنوات، وانتهت عام 1999 بتكلفة قدرت بنحو 22 مليار ليرة سورية (1.69 مليون دولار)، ويقع السد على نهر الفرات، على بُعد 115 كيلومترًا شرق حلب، و80 كيلومترًا من الحدود التركية، و30 كيلومترًا عن مدينة منبج.
خلف هذه المنشأة السورية بحيرة ضخمة من أكبر البحيرات الصناعية بحجم تخزين يصل حوالي ملياري متر مكعب، وبمساحة 160 كيلومترًا مربعًا، وبفضل السد حجزت هذه البحيرة المركز الثاني كأكبر محطة كهرومائية لتوليد الطاقة في البلاد، إضافة إلى توفيرها مياه الريّ للأراضي الزراعية المحيطة، واعتبارها مصدرًا مهمًّا لصيد الأسماك في المنطقة، وواجهة جذب سياحي طبيعية.
تحتوي المحطة الكهرومائية لسد تشرين على 6 مجموعات توليد من نوع كابلان، تبلغ استطاعة كل واحدة منها 105 ميغاواط، مما يجعل الاستطاعة الإجمالية للمحطة تصل إلى 630 ميغاواط. ويعد هذا الإنتاج مصدرًا مهمًا لتزويد المنطقة الشمالية من سوريا بالكهرباء، ما يعزز دور السد في البنية التحتية للطاقة في البلاد.
سلطات متعاقبة
عاش سد تشرين بالقرب من قرية يوسف باشا لأكثر من ستة وعشرين عامًا، لكنه واجه أصعب محطاته خلال الثورة السورية، حيث حفرت الحرب تجاعيدها على جدرانه وحوافه. لم يكن مجرد مشروع هندسي، بل تحول إلى ساحة صراع عسكري وتفاهمات سياسية، تعاقبت عليه أربع سلطات متباينة، وغمرت مياهه سبع قرى، فيما تعرض لضربات جوية، وأحاطت به إشاعات متكررة حول احتمال انهياره، إضافة إلى خروجه المتكرر من الخدمة، سواء كليًا أو جزئيًا.
أواخر العام 2012 انتزع الجيش السوري الحر سد تشرين والأبنية المحيطة به من قبضة قوات النظام المخلوع بعد حصار المنطقة هناك دام عدة أيام، لكن السد لم يلبث حتى رُفعت فوق جسره راية تنظيم الدولة (داعش) وتحديدًا في أيار/ مايو عام 2014.
استمرت سيطرة “داعش” حتى أواخر العام 2015 حين تمكنت قوات قسد بمساعدة التحالف الدولي من طرد التنظيم وإحكام سيطرتها على السد والضفة الشرقية لنهر الفرات.
الاشتباكات الدموية بين الطرفين آنذاك، أدت إلى غمر 7 قرى بريف حلب الشرقي (قره قوزاق، سهل القملق، بوراز، مزرعة تل أحمر، تل العبر، القبة، وجعدة) بعد توقف عنفات السد عن العمل نتيجة مغادرة الموظفين عملهم، ما أدى إلى وقف ضخ المياه تزامنًا مع كمية المياه المتدفقة من الجانب التركي.
يومها، ارتفعت الأصوات المحذّرة من انهيار سد تشرين، هذا المصدر الحيوي للطاقة والمياه، والمتحكم الرئيسي بالأمن الغذائي في كامل المنطقة الشرقية.
في نهاية عام 2018، توحدت أصوات النظام السوري المخلوع وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد اتفاق مشترك، عاد بموجبه النظام للسيطرة على سد تشرين ضمن ما عُرف بـ “اتفاق منبج”، والذي نص على تقاسم إدارة السد بين الطرفين.
منذ ذلك الوقت، أصبح سد تشرين تحت تحكم مشترك بين النظام وقسد، حيث يسيطران على جزء كبير من إنتاج الطاقة الكهربائية التي تغذي ريف حلب الشرقي، الذي كان سابقًا تحت سيطرة المعارضة السورية.
وبعد معركة تحرير سوريا بالكامل، تحول سد تشرين إلى خط جبهة ساخن ونقطة صراع دموية بين قسد وفصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، فقد شهد السد معارك عنيفة بعد إطلاق الفصائل معركة “فجر الحرية” مطلع كانون الأول الفائت، حيث تناوب الطرفان السيطرة عليه في مواجهات متكررة، قبل أن تتمكن قسد من إحكام قبضتها عليه حتى الآن.
عين “الوطني” لا تفارق تشرين
ليس السد بنية تحتية حيوية فقط، بل أداة سياسية واقتصادية قادرة على تغيير موازين القوى في المنطقة، لما يمكن أن يؤثر على إدارة الموارد المائية في سورية، كما أن له بعدًا استراتيجيًا في النزاعات المتعلقة بالموارد المائية مع الدول المجاورة.
أمام ذلك ما تزال المعارك الصفرية متواصلة في محاور سد تشرين في محاولة لاستنزاف قسد باعتبار أن قوات الجيش الوطني والطيران التركي هي الضاغط، فالسيطرة على السد تعني فتح بوابات معركة الجزيرة الكبرى، فهو المدخل الواسع الى مناطق “شرقي الفرات” والانتقال لعملية عسكرية كبيرة ضد قسد بمحورين.
المحور الأول: نحو الرقة والثاني: مدينة عين العرب/ كوباني بريف حلب، فضلاً عن تفعيل الجيش الوطني لقواته المستنفرة في جيب تل أبيض ورأس العين، وبالتالي نقل القتال إلى قلب مناطق سيطرة قسد الحقيقية وعلى رأسها محافظة الرقة ذات الأغلبية العربية الحالمة بالوقوف تحت عباءة دمشق.
تفتقر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى أي مظاهر للتحصين في منطقة سد تشرين، حيث لا مبانٍ ولا تضاريس طبيعية ولا وجود مدني يحميها، مما جعلها في وضع عسكري مكشوف.
ولتفادي تقدم الجيش الوطني السوري أو الاستهدافات التركية، لجأت قسد إلى نقل قوافل بشرية من موظفين ومعلمين من مناطق سيطرتها إلى السد قسرًا، لاستخدامهم كـ”دروع بشرية“، في محاولة لحماية مواقعها الاستراتيجية.
وفي ظل انعدام التحصينات الطبيعية، لا تمتلك قسد سوى بضعة أنفاق في المنطقة، مما يجعلها في مواجهة حرب استنزاف طويلة، خاصةً وأن القوات التي تدافع عن السد تضم عناصر النخبة في قسد، وهم الفصيل الذي تسعى تركيا للتخلص منه.
رغم وجود جبهات تماس طويلة بين الجيش الوطني وقسد في الحسكة والرقة (رأس العين- تل أبيض) ورغم وجود مدن مهمة جداً لقسد على طول الشريط الحدودي، لا سيما عين العرب، المالكية والقامشلي وعامودا وغيرها، لكن الإصرار واضح على عبور الفرات لمناطق قسد من نقطة سد تشرين للسيطرة على المنطقة المحصورة ما بين تل أبيض وعين عيسى وسد تشرين وشمالاً جرابلس، وبالتالي ربط منطقة نبع السلام بجرابلس.
ولن يكون إجبار قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على الانسحاب من سد تشرين بعد خسارة مئات المقاتلين مجرد هزيمة عسكرية، بل ضربة معنوية كبيرة قد تؤدي إلى تزايد الانشقاقات في صفوفها، مما يضعف بنيتها الداخلية ويهز ثقة مقاتليها بقيادتها.
إلى جانب ذلك، فإن نزع السيطرة على السد من يد قسد يعني سحب ورقة ضغط أساسية كانت تستخدمها ضد حكومة دمشق، حيث يغذي السد مدينة حلب بالكهرباء وبالتالي الضغط على حكومة دمشق التي تسابق الزمن لتشقّ طريق الاعتراف الدولي والمحلي بها بأظافر حديدية.
تمترس “قسد” بالسد
تشكل خسارة السد بالنسبة لقسد ضربة كبيرة لمشروعها هذا إن لم تكن القاصمة الحاسمة، وخاصة أن العين التركية على عين العرب/ كوباني المدينة التي ترهن قسد سقوطها بسقوط سد تشرين باعتبار أنها تربط شرق الفرات بغربه من جهة، ومن جهة أخرى أنها المدينة التي تشكل أهمية مفصلية في الوجدان الكردي فهي إلى جانب المنطقة المحيطة بها تقع في صلب المشروع الانفصالي لقسد.
تولي قوات سوريا الديمقراطية، ومن خلفها حزب العمال الكردستاني (PKK)، أهمية كبيرة لسد تشرين، إذ يُعد خط الدفاع الأخير في مناطق نفوذها، فضلًا عن قيمته الاستراتيجية في تأمين إمدادات الكهرباء للمناطق الشاسعة التي تسيطر عليها، حيث توفر المحطة الكهرومائية طاقة سنوية ضخمة، مما يسهم في تلبية احتياجات المنطقة، ويمنح السد دورًا مهمًا في تعزيز استقلال سوريا في مجال الطاقة، فضلًا عن مساهمته في دعم التنمية الاقتصادية محليًا ووطنيًا.
إلى جانب إنتاج الطاقة، يُعتبر السد مصدرًا حيويًا للمياه، حيث يسهم في استدامة وتوسيع الأنشطة الزراعية، التي تعد العمود الفقري للاقتصاد المحلي في المنطقة. توفر المياه المخزنة احتياجات الري، ما يساعد في تعزيز الإنتاج الزراعي، ويدعم المزارعين المحليين، مما يجعل الحفاظ على السد أولوية قصوى بالنسبة لقسد وحزب العمال الكردستاني.
ويزداد المشهد العسكري دموية، فقسد تستخدم تقنيات جديدة بضرب آليات وعناصر الجيش الوطني عبر مسيرات “بروسك” ردًا على الهجمات العنيفة التي يشنها الجيش الوطني المدعوم بالطيران التركي، وهو ما خلّف قتلى وجرحى كثيرة بين الطرفين.
مؤخراً رفضت قسد العرض التركي بإنشاء قاعدة عسكرية، وجلب أسلحة ثقيلة، ومساحة أكبر مما هو منصوص عليه في اتفاقات سابقة بين البلدين في شأن مرقد “سليمان شاه” (جد عثمان الأول، مؤسس الدولة العثمانية) في موقعه السابق قرب جسر “قرة قوزاق” الجسر الملاصق لسد تشرين.
وجاء رفض قسد بسبب عين العرب/ كوباني والتي ستصبح بناء على مطالب تركيا في حصار مطبق، وبذلك تكون قد انفصلت وانعزلت حتى خط عين عيسى.
سيبقى السد وخوف قسد من عبور الجيش الوطني للنهر غربًا هاجسًا مرعبًا بالنسبة إليها، فهي الساعية لجعل نهر الفرات حصناً منيعًا وحدودًا طبيعية لحكمها الذاتي، ولا سيما بعد انسحابها من مدن دير الزور والميادين والبوكمال إلى ما وراء النهر وتسلميها لقوات إدارة العمليات العسكرية بعد أن كانت دخلتها مباشرة بعد انهيار قوات النظام المخلوع والميليشيات الإيرانية.
ومع هذا الهاجس المرعب، يمكن القول إن التأخر في حسم ملف سد تشرين لهو مدعاة لقسد في تقوية موقفها وظهورها كفاعل ومركز ثقل، وقد يكون لهذا التأخر تبعات لا تحمد عقباها على سوريا والسوريين مستقبلاً، في ظل المتغيرات الدولية المتسارعة.