43 يومًا قضتها ناقلة النفط “غريس1” في قبضة سلطات جبل طارق، وها هي اليوم تستعد للإبحار مجددًا في البحر المتوسط، بعد قرار الإفراج عنها، الخميس الماضي، مع رفع علم إيران بدلاً من علم بنما، وذلك بعد ساعات قليلة من إطلاق سراح طاقمها، الأمر الذي فُسر بأنه تجاوز واضح للضغوط الأمريكية الممارسة لتمديد احتجازها.
واشنطن بدورها أصدرت قرارًا باحتجاز الناقلة بدعوى أنها تستخدم في تجارة “غير مشروعة” باتجاه سوريا، ينظمها الحرس الثوري الإيراني الذي أدرجته واشنطن على لائحتها “للمنظمات الإرهابية الأجنبية”، وهو ما لم تعلق عليه السلطات البريطانية حتى كتابة هذه السطور.
ولا يعرف أحد ما إذا كانت الإدارة الأمريكية طلبت تنفيذ مذكرة مصادرة السفينة من حكومة جبل طارق، إلا أن بيانات رفينيتيف أشارت إلى أن وضع الناقلة كان قد تغير إلى “بدء التحرك”، لكنها قالت إنه بحلول الساعة 1200 بتوقيت غرينتش من أمس السبت، كانت الناقلة لا تزال راسية.
ردود فعل متباينة بشأن ما يحمله هذا القرار من دلالات وما يبعثه من رسائل، بعضها ربما يحمل هزيمة سياسية للولايات المتحدة في إطار صراعها الممتد مع طهران في المنطقة منذ تولي دونالد ترامب مقاليد الأمور في البيت الأبيض، لكن يبقى السؤال الأبرز: هل تقابل إيران الخطوة البريطانية بالمثل وتطلق سراح الناقلة البريطانية “ستينا إمبيرو”؟
لا صفقات مبرمة
التعليق المقتضب للمؤسسة العسكرية الإيرانية على الإفراج عن الناقلة الذي جاء على لسان الجنرال علي فدوي نائب القائد العام للحرس الثوري بأن “جميع المستكبرين في العالم سيرضخون – مما لا شك فيه – أمام صمود جبهة الحق وسوف يستسلمون لها”، فند وبشكل كبير ما أثير بشأن صفقة أبرمت بين الجانبين، البريطاني والإيراني، لإنهاء أزمة الناقلات.
هذا التعليق عززته الخارجية الإيرانية في بيان لها نفت من خلاله من تردد من نظيرتها البريطانية بشأن ضمانات قدمتها طهران لحكومة جبل طارق بعدم ذهاب الناقلة إلى سوريا، حيث نشر وزير الخارجية محمد جواد ظريف، رسالة سبق أن قدمتها سفارة بلاده إلى لندن تؤكد أن وجهة الناقلة “غريس1” لم تكن جهات خاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي ولن تكون، وأن القوانين الدولية لا تسمح للاتحاد بتطبيق عقوباته المفروضة على جهة ما، على أطراف ثالثة.
ظريف دعم رسالته بتغريدة أخرى على حسابه على “تويتر” نشرها باللغتين الفارسية والإنجليزية قال فيها: “لا يستطيع أحد أن يغير الحقيقة، وهي أن توقيف (غريس1) لم يكن قانونيًا 100%”، وهو ما أكده كذلك السفير الإيراني لدی لندن حميد بعيدي نجاد الذي أوضح أن بلاده لم تقدم أي تعهدات أو ضمانات مكتوبة بشأن الإفراج عن الناقلة أو وجهتها، مضيفًا “إننا منذ البداية أكدنا أن “غريس1″ لم تكن متوجهة إلى سوريا”.
Our London Embassy note to UKFCO:
-Protested the illegal detention of Grace1;
-Repeated public statements about destination; &
-Made it crystal clear that EU sanctions do NOT apply to Iran—a position shared by most Europeans.Nothing changes the fact: detention was 100% unlawful pic.twitter.com/lwJ2gYKpf6
— Javad Zarif (@JZarif) August 15, 2019
الأمر ذاته أكده مساعد الشؤون البحرية في منظمة الموانئ والملاحة الإيرانية جليل إسلامي الذي نفى عقد صفقة لمقايضة ناقلتي “غريس1″ الإيرانية و”ستينا إمبيرو” البريطانية، وتحدث عن عزم بلاده مقاضاة بريطانيا بسبب الأضرار التي لحقت بها جراء توقيفها ناقلة النفط العملاقة لفترة تجاوزت الأربعين يومًا، فضلاً عن الأعباء الاقتصادية التي فرضت على الجهة المستوردة والشركة المالكة لـ”غريس1″.
سلامي كشف أن وجهة الناقلة الجديدة بعد الإفراج عنها ستكون “موانئ في البحر الأبيض المتوسط” دون تحديد الدولة المتجهة إليها، بيد أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية تحدثت عن المغرب باعتبارها المقصد النهائي للناقلة، وهو ما لم يتم إعلانه بشكل رسمي حتى الآن.
وصف مساعد الشؤون البحرية في منظمة الموانئ والملاحة الإيرانية هذه الخطوة بأنها “جاءت تلبية لأوامر أمريكية للضغط أكثر على الجمهورية الإسلامية”
ضغوط أمريكية
ذهبت معظم التفسيرات إلى أن احتجاز الناقلة منذ البداية يأتي في إطار الضغوط السياسية الأمريكية الممارسة على طهران، وهو ما ألمحت إليه الأصوات الإيرانية الرسمية طيلة الأيام الـ40 الماضية، حيث وصف مساعد الشؤون البحرية في منظمة الموانئ والملاحة الإيرانية هذه الخطوة بأنها “جاءت تلبية لأوامر أمريكية للضغط أكثر على الجمهورية الإسلامية”.
أما السفير الإيراني لدى لندن فتحدث عما وصفه بـ”الجهود المستميتة” التي بذلتها أمريكا لمنع الإفراج عن الناقلة، لكنها منيت “بهزيمة نكراء” على حد قوله، لافتًا إلى أن قرار الاحتجاز مخالفًا للقانون الدولي، الأمر الذي دفع سلطات جبل طارق للإفراج عنها رغم الضغوط الأمريكية.
في المقابل، قال رئيس وزراء جبل طارق، فابيان بيكاردو، في أول تصريح بعد القرار الأمريكي، إن الناقلة الإيرانية بإمكانها المغادرة عندما تكون جاهزة لوجستيًا لذلك، فيما لم يصدر أي رد فعل عن المملكة المتحدة على المذكرة الأمريكية، ولكن أي أمر باحتجاز السفينة يجب أن يصدر عن محكمة جبل طارق العليا، وحتى الآن لم يحدث ذلك، والناقلة لا تزال حرة في الإبحار.
وكانت وزارة العدل الأمريكية في بيان لها الجمعة أشارت إلى أن ناقلة النفط تستخدم في تجارة “غير مشروعة” باتجاه سوريا، فيما اتهم وزير العدل “غريس1” بالضلوع في مخطط “للوصول بطريقة غير قانونية إلى النظام المالي الأمريكي بهدف دعم شحنات غير شرعية من إيران إلى سوريا يرسلها الحرس الثوري الإيراني”.
وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف
انتصار سياسي
لم يكن قرار الإفراج عن الناقلة فشلاً للضغوط السياسية الأمريكية على السلطات البريطانية فحسب، بل إعلان رسمي بانتصار القوة الإيرانية على الغطرسة، الأمريكية والبريطانية على حد سواء، حسبما اعتبر الدبلوماسي الإيراني السابق هادي أفقهي الذي يرى أن الإفراج عن الناقلة انتصارًا سياسيًا وحقوقيًا لبلاده.
أفقهي شدد على أن عملية الإفراج تظهر أن ما قامت به بريطانيا من قرصنة ناقلة نفط إيرانية، مخالف لقوانين الملاحة الدولية، مطالبًا في حديث نقلته “الجزيرة” بالتحرك لإدانة لندن في الأوساط القانونية الدولية، ومطالبتها بتعويضات مالية لاحتجازها ناقلة نفط عملاقة بشكل غير قانوني، مشددًا على ضرورة اعتذار لندن للشعب الإيراني لارتكابها “إرهابًا بحريًا” وعملية “سرقة”، على حد تعبيره.
السؤال الأكثر حضورًا على ألسنة الكثيرين الآن: هل يمهد الإفراج عن “غريس1” الطريق أمام عملية إيرانية مماثلة لإطلاق سراح الناقلة البريطانية “ستينا إمبيرو”؟
من جهته ثمن الكاتب فارس بن حزام في مقال له في “الحياة” اللندنية تحت عنوان “هل هُزمت بريطانيا وركعت أمام إيران؟” الجهود البريطانية في إدارة هذه الأزمة، معتبرًا أنهم عالجوا الملف “بهدوء شديد، فهم يمتلكون مهارات دبلوماسية عالية، وهم آباء إيران في مدد الصبر”، مضيفًا “فتيل الحرب مع إيران في المنطقة لم ينزع حتى الآن، وفرص اندلاعها قائمة إلى يومنا هذا، رغم هدوء مضيق هرمز منذ اختطاف السفينة البريطانية قبل أربعة أسابيع”.
ويرى الكاتب أيضًا أن “بطء حركة تشكيل الحلف الأمني والعسكري لحماية الناقلات يعكس ترددًا كبيرًا يُعيق واشنطن. ذلك ما تظهره، لكنها تبطن القلق الكبير من قيام الحلف. أما تأخره فلحاجة لوقت كاف لاستكمال المفاوضات والحسابات والمقايضات السياسية والاقتصادية”، وتابع “أما عن لندن، وإن أبرمت صفقة تحرر فيها سفينتها مقابل سفينة طهران في جبل طارق، فربما يكون تحريرًا من ضغوط سياسية داخل بريطانيا، ووقودًا إضافيًا لمعركة حصار إيران. اختطاف الناقلة ساعد في تحسين موقف رئيس الوزراء الجديد أمام ألمانيا وفرنسا”.
الناقلة البريطانية “ستينا إمبيرو”
الرد بالمثل
السؤال الأكثر حضورًا على ألسنة الكثيرين الآن: هل يمهد الإفراج عن “غريس1” الطريق أمام عملية إيرانية مماثلة لإطلاق سراح الناقلة البريطانية “ستينا إمبيرو”؟.. ورغم ما تحمله التصريحات الرسمية الإيرانية من نفي لعملية مقايضة من هذا القبيل، إلا أن مراقبين ذهبوا إلى أن هذا ربما يكون الرد المتوقع.
أصوات إيرانية داخلية على شبكات التواصل الاجتماعي رفضت هذا الطرح، مطالبة بضرورة أن تتحفظ حكومة بلادها على الناقلة البريطانية لنفس الفترة الزمنية التي احتجزت فيها ناقلتهم النفطية، ما يعني استمرار الاحتجاز لمدة أسبوعين إضافيين، هذا في الوقت الذي اعتبر فيه نشطاء أن الإفراج عن “غريس1” جاء بفعل الصمود والتحدي.
مراقبون كشفوا أن مسألة السماح للناقلة “ستينا إمبيرو” بمغادرة المياه الإيرانية مسألة وقت، في ظل تجنب طهران التصعيد، خاصة بعدما حققته من انتصار سياسي واضح على الضغوط الأمريكية، وهو التحرك الذي يجعل الإفراج عن الناقلة البريطانية تعزيزًا للحضور الإيراني دوليًا.