حسم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الجدل بشأن مقترح التهجير الذي طرحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أيام وأسماه “تطهير غزة”، داعيًا كل من مصر والأردن باستقبال عدد من فلسطيني القطاع، مؤكدًا على أن “ترحيل وتهجير الشعب الفلسطيني ظلم لا يمكن أن نشارك فيه”.
وأكد السيسي خلال كلمته على هامش المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس الكيني “ويليام روتو” في قصر الاتحادية، الأربعاء 29/1/2025، أن ثوابت الموقف المصري التاريخي تجاه القضية الفلسطينية هي أسس لا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال، وأن هذه الثوابت جزء أساسي من السياسة المصرية التي لا تتغير، مشددًا على أنه “لا يمكن أبدًا التساهل أو السماح بهذا التهجير لما له من تأثير مباشر على الأمن القومي المصري”.
وكان موقع “أكسيوس” الأمريكي، قد نقل صباح الثلاثاء 28/1/2025 عن ترامب أنه هاتف الرئيس المصري بشأن نقل عدد من الفلسطينيين من غزة إلى مصر، وذلك بعد يومين من اتصال سابق مع ملك الأردن عبد الله الثاني، إلا أن الجانب المصري نفى هذا الاتصال كما نقلت قناة “القاهرة الإخبارية” عن مصدر مسؤول دون الكشف عن اسمه، مما أثار الجدل داخل الشارع المصري حول الموقف الرسمي إزاء هذا المقترح الذي اكتفت القاهرة بالرد عليه ببيان نشرته وزارة الخارجية على صفحتها على مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما أغضب البعض ممن اعتبره غير كاف، مطالبين برد على مستوى رأس هرم السلطة في مصر.
الرئيس #السيسي: تهجير الشعب الفلسطيني ظلم يرفضه الرأي العام المصري.. ولا يمكن أن نشارك فيه#ON pic.twitter.com/VGDDVBQSjp
— ON (@ONTVEgy) January 29, 2025
إصرار على مخطط التهجير
بات من الواضح أن هناك إصرار من قبل ترامب على تنفيذ مخطط التهجير لسكان القطاع رغم الرفض المصري الأردني المعلن والواضح، وهو ما جاء على لسان مبعوثه لشؤون الرهائن، آدم بوهلر، مساء الأربعاء 29/1/2025، بعد ساعات قليلة من كلمة الرئيس المصري الذي أعلن فيها رفض بلاده لهذا المقترح، حيث نقلت عنه القناة 12 العبرية قوله إنه “يعتقد أن على مصر والأردن تقديم بديل بعد رفضهما فكرة استقبال الفلسطينيين”، مضيفًا أن ترامب عرض خيارًا يراه مناسبًا للبلدين العربيين، لكنه منفتح على خيارات أخرى.
وفي سياق المضي قدمًا في دعم هذا المخطط، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية، نقلًا عن مصدر رفيع في هيئة الأركان الإسرائيلية، تأييد جيش الاحتلال لخطة ترامب تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة، ونقل أكثر من مليون فلسطيني إلى دول مجاورة، مشيرًا إلى أن هذه الخطة تخدم المصالح الإسرائيلية.
وبحسب المصدر فإن حماس لم تُهزم بعد، لا من الناحية العسكرية ولا الإدارية، وهو ما اتضح أثناء عمليات تسليم الأسرى، وعليه لابد من البحث آليات أخرى بعدما بات وضع الاحتلال بقطاع غزة أكثر تعقيدًا، منوهًا إلى أن هناك انطباعًا في الداخل الإسرائيلي بأن تصريحات ترامب لم تكن ارتجالية، كما يروج البعض، بل تعكس نوايا جدية من الولايات المتحدة في هذا الاتجاه.
التصريحات وحدها لا تكفي.. ما الخيارات؟
لا شك أن الموقف الواضح والمعلن صراحة لكل من مصر والأردن بشأن رفض مقترح التهجير هو خطوة مهمة في مسار إجهاض هذا المخطط، لكنه عمليًا لا يتجاوز حاجز التصريحات وفقط، الأمر الذي يحتاج إلى ترجمة واقعية لهذا الموقف إلى إجراءات وقرارات وتحركات على الأرض من شأنها أن تنسف مثل تلك المؤامرات من جذورها يمكن تلخيصها في 3 مسارات رئيسية:
أولًا: السرعة في إعادة الإعمار
الخطوة الأهم حاليًا ودون أي تأخير تتمثل في إعادة الإعمار والسرعة في توفير مقومات الحياة لسكان القطاع، عبر إدخال شاحنات المساعدات بالصورة الكافية ودون توقف، وتوفير الخيام والكرفانات وبأسعار معقولة وفي استطاعة الفلسطينيين، بعيدًا عن استراتيجية الاستثمار في الأزمة التي تتبناها بعض الشركات المخول لها إدخال المساعدات للقطاع وفي المقدمة منها شركة أبناء سيناء المملوكة لرجل الأعمال المقرب من النظام، إبراهيم العرجاني وابنه، هذا بجانب المرونة في إدخال معدات إزالة ورفع مخلفات الحرب وتعبيد الطريق نحو البناء مجددًا.
وتقع تلك المهمة على عاتق جميع البلدان العربية والإسلامية، لاسيما ذات القدرات الاقتصادية الجيدة كالدول الخليجية وغيرها، فضلًا عن الانخراط سريعًا في إدارة تلك العملية من القوى ذات الثقل العربي والإقليمي، كمصر وقطر بصفتهما وسيطا الاتفاق، والسعودية وتركيا على رأس القوى الشرق أوسطية.
وتُجهض السرعة في إعادة الإعمار كافة المخططات الأمريكية والإسرائيلية لتهجير الغزيين من القطاع، طواعية، بعد تحويله إلى أرض قاحلة لا وجود فيها لأي من مقومات الحياة، حسبما نقلت بعض التقارير الصحفية بشأن الوعود التي قدمها مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، للحكومة العبرية برئاسة نتنياهو، بتعطيل جهود إعادة الإعمار على أمل إجبار الفلسطينيين على الهجرة والرحيل.
ويتطلب هذا التحرك التكثيف من الضغوط الواجب ممارستها على الكيان المحتل لإكمال مراحل اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع، خاصة في ظل التسريبات التي تخرج بين الحين والأخر، بشأن معاودة الحرب عقب إطلاق سراح الأسرى، وهي المهمة التي تقع في المقام الأول على عاتق الوسطاء، مصر وقطر والولايات المتحدة.
ثانيًا: حسم ملف إدارة القطاع في أسرع وقت
من أبرز الخطوات التي يمكن من خلالها القضاء نهائيًا على مخطط التهجير، الانتهاء من ترتيبات اليوم التالي للحرب، والتوصل إلى اتفاق نهائي بشأن السلطة التي ستدير القطاع خلال المرحلة المقبلة، وهي المسألة التي أثارت الكثير من الجدل، لدى طرفي الأزمة، فلسطين والكيان المحتل، ولدى الوسطاء والمجتمع الدولي كذلك.
وقدمت حماس الكثير من المرونة في هذا الشأن، فتخلت عن شرط تمسكها بإدارة القطاع مستقبلا، شريط أن يتم التوافق على ذلك وفق تراتبية معينة، تخدم القضية الفلسطينية وتصب في صالح الشعب الفلسطيني في القطاع، ولا تُمكن الاحتلال من بسط هيمنته ونفوذه في غزة، كما أن عرضت المشاركة ضمن فريق موسع إذا ما طُلب منها ذلك.
وهنا على القرار العربي أن يكون حاضرًا عبر لجنة إسناد مجتمعي وسياسي، مشكلة من بعض التيارات السياسية الفلسطينية ولها تمثيل إقليمي من بعض الدول العربية، وذلك لإدارة القطاع خلال المرحلة الانتقالية الراهنة لحين عودة الحياة مجددًا وملائمة الأجواء لإجراء انتخابات عامة في البلاد تُنتخب فيها سلطة موحدة تدير الدولة الفلسطينية بشقيها، الضفة وغزة.
ثالثًا: تدشين حلف إقليمي دولي لدعم حق الشعب الفلسطيني
بالتوازي مع جهود إعادة الإعمار والتفاهمات بشأن اليوم التالي للحرب لابد من تدشين تحالف عروبي دولي يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن القضية الفلسطينية على المستوى الدولي، وتكثيف الدبلوماسية العربية من حراكها لوضع القضية على طاولة النقاش الدولي وفوق المنصات الأممية، والتسويق لمسألة الحلحلة عبر خيار حل الدولتين.
ولاشك أن مثل هذا الحراك سيستفيد حتمًا من الزخم الذي أحدثته عملية الطوفان ومن بعدها حرب غزة والرأي العام العالمي الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني والمندد بجرائم وانتهاكات الكيان المحتل، تلك الحالة التي كانت تفتقدها الدبلوماسية الفلسطينية والعربية على مدار سنوات، لكنها اليوم تحيا أوج قمتها لتتصدر فلسطين وقضيتها قائمة اهتمامات الجميع، حكومات وشعوب.
وتحتاج تلك المهمة بطبيعة الحال إلى توظيف أوراق الضغط العربية لتحقيق إنجازات ملموسة، وهي الأوراق المتعددة والتي تشمل الكثير من المجالات، الاقتصادية والسياسية والأمنية، والتي يُمكنها أن تٌحدث الفارق إذا ما تم استخدامها، كلها أو بعضها، شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية والوطنية لذلك.
مثل تلك المهمة لا يمكن أن تحقق صداها المنشود بمعزل عن الشارع العربي واستنهاض دعمه الذي تعرض لضغوط قاسية لإخفاءه وإبقاءه حبيس الصدور والحناجر منذ بداية حرب غزة، بعدما فُرضت عليه تضييقات خانقة، غير أن اليوم الصورة مختلفة تمامًا، ولابد من منح الضوء الأخضر للصوت الشعبي العربي للتعبير عن دعمه للقضية ولحقوق الشعب الفلسطيني، وهو الصوت الذي من المؤكد أن يحمل رسالة قوية للداخل والخارج، سيكون لها تأثيرها.
الفلسطينيون قالوا كلمتهم
بعيدًا عن الموقفين، المصري والأردني، وإصرار ترامب والكيان المحتل على تنفيذ مقترح التهجير، إلا أن الكرة اليوم، وكما كانت في السابق، في ملعب الفلسطينيين، فهم وحدهم من يقررون أي مخطط يمر وأي مؤامرة تفشل، ولعل مشهدية العودة منذ صباح الاثنين 27 كانون الثاني/يناير 2025، والمستمرة حتى كتابة تلك السطور، تجيب عن الكثير من التساؤلات إزاء هذا الملف.
وثق الفلسطينيون العائدون إلى شمال القطاع، حيث مسيرات الزحف المقدس، والطوفان البشري غير المستوعب، بعد حرب دامت قرابة 470 يومًا، ردهم علميًا على مقترح ترامب، موجهين رسالة مباشرة لا غموض فيها بأن الأرض أرضهم، وأن أي مخططات لتهجيرهم ستتحطم حتمًا على صخور صمودهم وتحديهم وثباتهم، وإن كلفهم ذلك حياتهم وأموالهم.
تلك المشهدية التي تعززت رمزيتها أكثر بدلالات عملية تسليم الأسرى وما بها من تفاصيل دقيقة ورسائل معمقة، دفعت رئيس مكتب الشرق الأوسط في صحيفة” لوس أنجلوس تايمز”، نبيه بولس، المقرب من دوائر صنع القرار الأمريكية، للتأكيد على أن خطة ترامب ليست منطقية، وأن هناك قناعة لدى تيار كبير من الأمريكيين بهذا التوجه.
وفي رده على سؤال وجهته له شبكة “سي إن إن” عن مقترح ترامب، قال بولس “سيكون من الصعب للغاية إخراج الناس مرة أخرى الآن بعد عودتهم. أعني، نحن نتحدث عن مئات الآلاف الذين عادوا وبدأوا بالفعل في إقامة مخيمات في أجزاء مختلفة من شمال قطاع غزة. وهكذا مرة أخرى”، لافتا أن مخطط تهجير الغزيين لم يكن حكرًا على ترامب، إذ تبناه قبله جو بايدن لكنه رُفض في حينها.
ويرى المحلل المختص بشئون الشرق الأوسط أن تطبيق هذا المقترح سيكون صعبًا للغاية على الأردن وبنسبة أقل على مصر، مضيفا أن “مصر بالطبع، بلد أكبر بكثير وهناك بعض المساحات في منطقة سيناء. ولكن بالنسبة للأردن، سيكون هذا أمرًا غير مقبول حقًا لأن الحقيقة هي أن الأردن لديه بالفعل عدد كبير من السكان الفلسطينيين منذ البداية”.
ويتخوف قطاع كبير من المحللين الأمريكيين والإسرائيليين من تداعيات هذا المقترح حال الضغط لأجل تنفيذه على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط من جانب وعلى مستقبل اتفاقيات التطبيع المعروفة بـ “أبراهام” من جانب أخر، إذ أن الإصرار على مثل هذه الخطط من شأنه أن يعرقل أو يجمد مساعي التطبيع بين السعودية والكيان المحتل وهو ما لا تريده إدارة ترامب.
بالمحصلة، تبقى غزة وستظل شوكة في حلق الاحتلال، وخنجرًا مغروسًا في ظهر مخططات التوسيع والضم، وعليه فلن يتوانى المحتل، وحليفه الأمريكي، في التخطيط ليل نهار لتركيعها وإخراجها عن مشهد المقاومة بالكلية، الأمر الذي يفرض تحديًا سياسيًا وأمنيًا على الجميع وفي المقدمة منهم الحكومات العربية للتصدي لمثل تلك المخططات التي لا تقتصر عند حدود القطاع وفقط، بل تنسحب نحو شرق أوسط جديد، يُراد هندسته على المقاس الإسرائيلي، تتحول فيه دول المنطقة إلى تروس في عجلة الكيان المحتل.