تُقبل تونس مرة أخرى على امتحان سياسي هو الرابع من نوعه منذ ثورة الـ14 من يناير 2011، وتأتي الانتخابات الرئاسية لـ2019 والسابقة لأوانها إثر رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي، استكمالاً لمسار التحول الديمقراطي، خاصة أن تونس تُعد النموذج الوحيد في العالم العربي التي أصبح ينتقل فيها الحكم بطريقة سلسة ووفق مبدأ التداول السلمي للسلطة، وتتبع الرئاسيات انتخابات برلمانية ستُجرى في الـ6 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
ورافق عملية تقديم الترشيحات جدل واسع بشأن هوية الشخصيات الطامحة لكرسي قرطاج، إضافة إلى تزايد عدد صفحات موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” التي تروج لبعض المرشحين وتنتقد وتحط من قيمة منافسيهم، ما دفع بالمراقبين إلى التساؤل عن دور السوشيال ميديا في التحكم بمسار الانتخابات التونسية، خاصة بعد حملة المناشدة الإلكترونية التي قادتها صفحات “مجهولة” موالية لوزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي للترشح للانتخابات الرئاسية.
ويتم عادة توجيه الرأي العام عن طريق الدعاية “Propaganda” وهي نشر معلومات كاذبة أو متلاعب بها عن طريق حسابات وهمية، إضافة إلى اعتماد تدفق عدد كبير من الإعلانات المرعية والمدفوعة من الأحزاب كأحد أساليب التضليل في المحتوى السياسي على فيسبوك.
وكانت شركة “فيسبوك” التي تدير شبكة التواصل الاجتماعي الشهيرة قد أعلنت في شهر مايو أن شركة إسرائيلية استخدمت 256 حسابًا مزيفًا لاستهداف انتخابات في دول إفريقية من بينها تونس، وقالت إن هذه الحسابات والمجموعات والصفحات تقدم نفسها باعتبارها حسابات محلية في الدولة التي ترغب في التأثير على انتخاباتها، حيث يتم بث أخبار ومواد سياسية.
أكّد عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنيس الجربوعي، أن الهيئة سترسل إشعارات للمترشحين للانتخابات الرئاسية الذين تم قبول ملفاتهم بصفة أولية ويمتلكون صفحات مدعومة وممولة على مواقع التواصل الاجتماعي
وأضافت فيسبوك أن هذه الحسابات والصفحات والمجموعات استقطبت نحو 2.8 مليون متابع، في حين اشترك ما يقارب 5500 حساب في واحدة من هذه المجموعات على الأقل، وأن نحو 920 شخصًا تابعوا حسابًا أو أكثر من حسابات “إنستغرام” التي تقرر حذفها.
من جانبه، أكّد عضو الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنيس الجربوعي، أن الهيئة سترسل إشعارات للمترشحين للانتخابات الرئاسية الذين تم قبول ملفاتهم بصفة أولية ويمتلكون صفحات مدعومة وممولة على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرًا أن هذه الصفحات تدخل في إطار التمويل الأجنبي الذي يمنعه القانون الانتخابي.
ودعت هيئة الانتخابات المترشحين إلى احترام سقف تمويل الحملة الانتخابية وفق تصريح رئيسها خلال ندوة صحفية، وشدد نبيل بفون على أن الهيئة لن تتسامح مع كل مترشح يعمد إلى استعمال واستغلال التمويل الأجنبي في الحملات الانتخابية.
ويمنع الفصل 57 من القانون الانتخابي التونسي الإشهار السياسي خلال الفترة الانتخابية الرئاسية أو البرلمانية مهما كانت الوسيلة، فيما تضمن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) وفق الفصل 65 الحق في النفاذ إلى وسائل الاتصال السمعي والبصري لكل المجموعات السياسية خلال مرحلة ما قبل الحملة الانتخابية.
قال الإعلامي التونسي كمال بن يونس: “فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي قد تكون أكبر سلاح إستراتيجي يستخدمه المتنافسون في الانتخابات الرئاسية التونسية وصناع القرار الذين يدعمونهم من إعلاميين ورجال أعمال و لوبيات مالية وسياسة”
ورغم تحذيرات الهيئة للمرشحين، فإن الصفحات الممولة والموالية لبعض المرشحين واصلت الظهور على مواقع التواصل الاجتماعي في خرق واضح للقانون الانتخابي، ومن بينها صفحات تابعة لأحزاب تحيا تونس (رئيس الحكومة يوسف الشاهد) وحزب قلب تونس (نبيل القروي) وحزب آفاق تونس وائتلاف تحرك وعدد من الشخصيات المرشحة للرئاسية مثل عمر منصور ومحسن مرزوق ووزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي.
الغرف المظلمة
وفي تصريح لـ”نون بوست” قال الإعلامي التونسي كمال بن يونس: “فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي قد تكون أكبر سلاح إستراتيجي يستخدمه المتنافسون في الانتخابات الرئاسية التونسية وصناع القرار الذين يدعمونهم من إعلاميين ورجال أعمال ولوبيات مالية وسياسة”.
كتبت الصحفية التونسية شيراز خنيسي على الفيسبوك: “غرف مظلمة تدار فيها صفحات مشبوهة لتزييف الوعي الانتخابي وتوجيه الرأي العام. تصرف عليها ملايين طائلة! هي حرب بين لوبيات وعصابات ليس للشعب ولا لتونس أي مصلحة فيها”
مضيفًا “هناك غرف مظلمة توجه الرأي العام التونسي والناخبين عبر حملات إعلامية وسياسة لتوجيه الناخبين عبر نشر سلسلة من الإشاعات واستحضار لقطات من الفيديوهات والتصريحات الصوتية والمكتوبة القديمة وبثها قصد التشهير ببعض المنافسين أو دعمًا لبعض المرشحين”، متابعًا “بحكم امتلاك أكثر من ثلاثة أرباع من التونسيين والتونسيات لمواقع تواصل اجتماعي وصفحات فيسبوك واستخدامهم اليومي لتطبيقات أخرى كـ”ماسنجر” و”واتسآب” و”تويتر”، فإن الحملة الانتخابية ستجري أساسًا عبر هذه المنصات وليس عبر الإذاعة والقنوات التلفزية”.
وفي ذات السياق كتبت الصحفية التونسية شيراز خنيسي على الفيسبوك: “غرف مظلمة تدار فيها صفحات مشبوهة لتزييف الوعي الانتخابي وتوجيه الرأي العام. تصرف عليها ملايين طائلة! هي حرب بين لوبيات وعصابات ليس للشعب ولا لتونس أي مصلحة فيها”، وتساءلت الصحفية “كيف تمكن نخبة ومسؤولو هذا البلد الجلوس مدة 8 سنوات لمراقبة كل هذا الكم من الخراب؟“ مضيفةً “هو اعتراف بقوة السيستام (المنظومة القديمة) والانخراط في الماكينة بوعي أو دون وعي”.
فيسبوك
إلى ذلك، كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 بمثابة دعوة للاستيقاظ بسبب حملة التضليل التي تخللتها، خاصة بعد توثيق تقرير المستشار الخاص الأمريكي روبرت مولر حقيقة أن الجهات الفاعلة الروسية مثل وكالة أبحاث الإنترنت (IRA) أساءت استخدام المنبر الاجتماعي لنشر المعلومات المضللة بغرض التأثير على الرأي العام تجاه مرشحهم المفضل دونالد ترامب.
قال رئيس الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري النوري اللجمي، إنّ شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها وبدرجة أولى الفيسبوك تُشكل تهديدًا لسير العملية الانتخابية في تونس وتمثل عائقًا أمام إنجاح الاستحقاق الرئاسي
تدخل فيسبوك أو توجيه الصفحات المشبوهة للرأي العام في الانتخابات لم يقتصر على ما كشفه تقارير “مولر”، حيث أعلنت الشركة في مايو/أيار حذف 23 حسابًا إيطاليًا يتابعهم أكثر من 2.46 مليون شخص كانت تنشر “معلومات كاذبة وتضم محتويات مثيرة للانقسام”، وذلك قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، فيما أعلنت مجموعة آفاز أن أكثر من نصف مليون حساب تم حذفهم كانوا يدعمون إما “حركة 5 نجوم” أو الرابطة وهما الحزبان المشاركان في الائتلاف الحاكم في روما.
وتساءل باحثون وأكاديميون تونسيون لماذا لم تتحرك الهيئة المستقلة للانتخابات للبحث مع شركة فيسبوك عن حلول للظاهرة التي قد تُهدد مسار الانتخابات وتؤثر في نتائجها، خاصة أن المثال الأوروبي المذكور يبيّن أن الشركة يمكن أن تتعاون مع السلطات العمومية للحد من التداعيات.
وفي تصريح خاص لـ”نون بوست” قال رئيس الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري النوري اللجمي، إن شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها وبدرجة أولى الفيسبوك تُشكل تهديدًا لسير العملية الانتخابية في تونس وتمثل عائقًا أمام إنجاح الاستحقاق الرئاسي، عن طريق خوارزميات (algorithm) لبث أخبار معينة أو معلومات تمكن من توجيه الناخبين بطريقة غير مباشرة.
رئيس الهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري النوري اللجمي
وأشار اللجمي إلى أنّ الصفحات الممولة عن طريق فيسبوك تبث أخبارًا زائفة (fake news)، وتعمل على بث الفتنة للتأثير على الناخبين وتوجيه الرأي العام، متابعًا: “الأخطر من التوجيه هو الترويج لأخبار وأحداث قد تُضعف نسب الإقبال على الانتخابات ومنها على سبيل المثال نشر معلومات مغلوطة أو صور قديمة لعمليات إرهابية قصد تخويف الناخبين”.
وقال اللجمي إن “الهايكا” (هيئة دستورية) تواصلت مع ممثل شركة فيسبوك في المغرب العربي من أجل بحث حلول لمنع التدخل في الانتخابات عبر الصفحات الممولة إضافة إلى مكافحة الأخبار الكاذبة والإشاعات، مضيفًا أن الأخير تعهد بالتعاون مع “الهايكا”، من خلال إقامة ورشات مع طاقم التقني للهيئة بشأن كيفية التعامل مع الإشكاليات، مشيرًا أن الهيئة أعدت برنامجًا تدريبيًا للصحفيين قصد إعدادهم للتعامل مع عملية توجيه الرأي العام وتكوين فريق لمراقبة التجاوزات ومحاولة تضليل الناخبين والتأثير على مسار الاستحقاق الرئاسي.
أخيرًا: تبقى القوانين والإجراءات محدودة الفعالية نظرًا لعدة عوامل أهمها قصر التجربة الديمقراطية التي تعرفها تونس ونقص الإمكانات، إضافة إلى تغلغل بعض القوى الإقليمية التي تمد قوى الثورة المضادة بكل الوسائل اللوجستية والمادية لإفشال مساعي إرساء الدولة الحديثة وإنجاح مسار الربيع العربي، غير أن المواطن التونسي مطالب بدرجة أولى بالإدراك أنه يتحمل المسؤولية التاريخية في اختيار من يمثله ومن هو قادر على ضمان علوية الدستور وتكريس ديمقراطية حقيقية، لذلك وجب عليه فحص جميع المعلومات المتدفقة بناءً على منهج فكري ونقدي، وأن لا يسمح باستخدامه كأداة للتلاعب بنتائج الاستحقاق الانتخابي.