في أواخر الشهر الماضي، أوضحت الحكومة السنغالية أنها لن تخضع للضغط من أجل مراجعة عقود الطاقة الحكومية التي ستكسب فيها الدولة ما لا يقل عن 63% من الأرباح، وفقًا لمامادو فال كين، نائب السكرتير الدائم لـCOS-Petrogaz، اللجنة الحكومية المشرفة على سياسات النفط والغاز، وتتألف من رئيس الوزراء والوزير المسؤول عن الطاقة ووزير الصناعة والمناجم وممثلي مؤسسات الجمهورية بالإضافة إلى الهياكل الأخرى المشاركة في هذا القطاع.
كان هذا رغم الاحتجاجات المستمرة منذ أسابيع ودعوات المعارضة السياسية والمجتمع المدني في البلاد إلى اتخاذ إجراءات ضد الكسب غير المشروع في أعقاب فضيحة فساد كبيرة واتهامات بسوء إدارة ثروة الغاز الجديدة في البلاد، التي من المتوقع أن تحول السنغال إلى دولة مصدرة للهيدروكربون في السنوات القادمة.
صفقات التعدين.. الطريق الأقرب لاستعمار إفريقيا
في يونيو/حزيران، أصدرت هيئة الإذاعة البريطانية “BBC” فيلمًا وثائقيًا يكشف وجود مخالفات مالية من جانب أليو سال، الشقيق الأصغر للرئيس السنغالي ماكي سال، فيما يتعلق بصفقة طاقة “مشبوهة” بمليارات الدولار مع شركة الطاقة Petro-Timis المجهولة والمملوكة لرجل الأعمال الروماني الأسترالي المقيم في لندن فرانك تيميس، مقابل السماح لصاحب الشركة المجهولة باستغلال حقلي غاز بحريين كبيرين.
وفقًا لتقرير صادر عن وزارة الخارجية الهولندية عام 2017، قد تمتلك السنغال ما يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز و 1.2 مليار برميل من النفط قبالة سواحلها
تعود ملكية الامتيازين الخارجيّين، وهما Saint Louis وCayar، حاليًّا إلى شركتي BP Plc وKosmos Energy Ltd، وذكرت “BBC” أن عملاق الطاقة البريطاني بريتش بتروليوم (BP) وافقت عام 2017 على دفع رسوم لشركة Timis Corp، وهي شركة أخرى مملوكة لتيميس المتورط في عقد نفط مثير للجدل، مقابل حصة في الترخيصين، علاوة على مدفوعات امتياز بنحو 10 مليارات دولار على مدار عقود.
وفقًا للتحقيق الذي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية، تلقى شقيق الرئيس، المدير السابق لشركة Petro-Timis في السنغال، مدفوعات مشكوك فيها قدرها 250 ألف دولار ومبلغًا شهريًا قدره 25 ألف دولار على مدى 5 سنوات من تيميس، وبحسب الهيئة، حوَّلت شركة نفط فرنسية في وقت سابق الضرائب المستحقة عليها لدولة السنغال إلى شركة خاصة مملوكة لشقيق الرئيس السنغالى أليو سال.
مع ذلك، نفت حكومة سال ارتكاب أي مخالفات ودافعت عن سجلها في إدارة المواد الهيدروكربونية، التي لا تزال غير مستكشفة إلى حد كبير، كما نفى رجل الأعمال تيميس ارتكاب أي مخالفات، وقال أليو سال، وهو رئيس بلدية إحدى ضواحي العاصمة داكار، إنه استقال من منصبه في هيئة مرتبطة بالخزانة العامة، لكنه نفى حصوله على أي أموال من تيميس، وقال إنه ضحية حملة تشويه.
المتظاهرون يحملون لافتة كتب عليها “ماكي اللص الناشئ” خلال احتجاج في داكار، السنغال، في 21 يونيو/حزيران الماضي
“بصراحة، إنها قصة مثيرة وغير دقيقة وغير مسؤولة من جانب هيئة الإذاعة البريطانية، بما في ذلك الأرقام غير الدقيقة إلى حد كبير والوثائق التي وردت من شركة بريتيش بتروليوم والتي لم يتم تقديمها”، قال الرئيس التنفيذي لشركة BP، بوب دادلي، معتبرًا أن “الشيء المخيب للآمال حقًا هو أنه يديم فكرة أن الشركات الأوروبية والبريطانية لا يمكنها ولا ينبغي لها القيام بأعمال تجارية في إفريقيا”.
رغم نفي كل هذه الأطراف، أثارت هذه الادعاءات نداءات من سياسيين معارضين طالبوا بإعادة التفاوض على النموذج البوليفي لتعزيز مشاركة الدولة في العقود، وفقًا لتقرير صادر عن وزارة الخارجية الهولندية عام 2017، قد تمتلك السنغال ما يصل إلى 60 تريليون قدم مكعب من الغاز و1.2 مليار برميل من النفط قبالة سواحلها.
قبل أكثر من عقد من الزمن، أعاد الرئيس البوليفي إيفو موراليس صياغة عقود الغاز بقوة مع شركات مثل Petroleo Brasileiro SA لزيادة حصة الدولة من الإيرادات كجزء من عمليات تأميم الموارد في أمريكا الجنوبية التي قادها الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، حيث تركت سنوات من سوء الإدارة الاقتصاد الفنزويلي في حالة يرثى لها، مما أدى إلى فرار مئات الآلاف من الناس من الفقر.
فساد الأفارقة.. السر في إستراتيجية تيميس وليس لعنة الموارد
يشير المثال السابق إلى أن الأمر يتعلق بالتعامل مع الرؤساء الأفارقة الفاسدين وعائلاتهم للفوز بمناقصات غير مواتية بالنسبة للبلدان الإفريقية، ففي السنوات الأخيرة، أصبح غرب إفريقيا أرض مينيس المفضلة، وبحسب ما ورد تم ربط قطب التعدين المثير للجدل فرانك تيميس بصفقات تعدين “قذرة” في كوت ديفوار ونيجيريا وبوركينا فاسو.
بالإضافة إلى ذلك، اُتهمت شركة برايس ووتر كوبرز (PWC)، عملاق المحاسبة وأحد مراجعي الحسابات الأربع الكبرى ببريطانيا، في معركة قضائية في المحكمة العليا بلندن، بالتآمر لخداع الاستشاريين بما لا يقل عن 75 مليون جنيه إسترليني (138 مليون دولار) في صفقة مع تيميس بشأن ثروات طبيعية في سيراليون، وسط مزاعم بأن مسؤولي شركة PwC باعوا منجم مارامبا لتيميس بشروط تعني انتهاك حقوقها في خام الحديد.
تدعم الدول الغنية بالموارد في كثير من الأحيان الاقتصادات التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على عملية استخراج الموارد الطبيعية من الأرض للبيع في السوق العالمية
هذه الأمثلة – مثل قصص الفساد الأخرى في إفريقيا – غالبًا ما تُعتبر كنتيجة طبيعية لـ”لعنة الموارد” وجشع النخب الفكرية والسياسية المسؤولة عن إنتاج الفقر وإبقاء الشعوب الإفريقية في ظروف العبودية التي لا يمكن تصورها، ولكن ما يكمن تحتها هو حقيقة أكثر قتامة، فما يمكّن الناس مثل تيميس من الاستفادة من الإفلات من العقاب هو شعور بالضيق منذ قرون من الزمان أصاب القارة منذ أن بدأت القوى الأوروبية في استعمارها.
النظرية الشائعة المتمثلة في “لعنة الموارد” – وهي أن الموارد الطبيعية قد تكون نقمة اقتصادية أكثر من كونها نعمة – تُستخدم بشكل شائع في الخطاب الأكاديمي والسياسي لتوضيح المفارقة القائلة إن البلدان الغنية بالموارد تميل إلى أن يكون لديها نمو اقتصادي وإنمائي بل وديمقراطي أقل من البلدان التي لديها موارد طبيعية أقل.
ومع ذلك، فإن هذه النظرية تقلل من الاختلالات الهيكلية العالمية وتتجاهل الآثار الضارة للرأسمالية المفترسة على البلدان الغنية بالموارد ذات الاقتصادات الموجهة نحو التصدير، أمَّا الفساد فهو ليس بعض الفيروسات التي تصيب البعض وتتجنب الآخرين من أصحاب المناعة الأقوى، فالأفارقة ليسوا أكثر فسادًا من الآخرين.
في الواقع، لا يوجد شيء اسمه “لعنة الموارد”، وبحسب أستاذة العلاقات الدولية في جامعة ويتواترسراند في جنوب إفريقيا آمي نيانغ، فقط ثمة ما تسميه “خيارات السياسة المفلسة”، حيث تدعم الدول الغنية بالموارد في كثير من الأحيان الاقتصادات التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على عملية استخراج الموارد الطبيعية من الأرض للبيع في السوق العالمية، وهو نموذج اقتصادي يشجع على رعاية الأجانب والسلوكيات الريعية التي تؤدي بطبيعة الحال إلى الفساد.
تيميس وسط بعص العمال الأفارقة في الكاميرون
تم إرساء أسس هذا النموذج في أثناء الاستعمار، عندما اكتسبت القوى الإمبريالية، صلاحيات سيادية من فرض الضرائب والرسوم الجمركية على توقيع المعاهدات، كانت البنية التحتية لاستخراج الموارد الطبيعية آلية مكتملة من شركات مستأجرة مثل شركة شرق إفريقيا البريطانية التي ضمنت مشاركة نخبة سهلة الانقياد ومدربة في المدارس الاستعمارية على الولاء المستمر للقوى الاستعمارية القديمة بدلاً من إنهاء الاستعمار الحقيقي.
ويعتمد الأمر بشكل كبير أيضًا على الافتراضات بشأن النظر إلى إفريقيا بعين الجشع، ففي الماضي لم تكن القارة موضع اهتمام كبير، وها هي اليوم أصبحت تعني المستقبل، ووفقًا للمستشار الاقتصادي غي غويث، فإن 3 دول من 5 في العالم تتبنى إستراتيجية إفريقية، وفي عام 2020 سيكون هناك 80% من الدول غير الإفريقية في العالم لديها إستراتيجية إفريقية.
تبقى صفقات التعدين واستخراج الموارد الطبيعية النموذج الاقتصادي الأكثر ديمومة في إفريقيا، وهذا النموذج لا يستنزف الموارد فحسب، بل إنه يحول دون قدرة إفريقيا على الإنتاج والتطوير، ويجعلها تنزف على حساب سكانها الذين يعانون بالفعل من الفقر المدقع.
الاستعمار باق ويتمدد
في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، طورت فرنسا أيضًا مثل هذه البنية التحتية لاستخراج الموارد من كوت ديفوار إلى النيجر، ومن الغابون إلى الكونغو، ونشرت ترسانة جيوسياسية تستند إلى اتفاقات الدفاع السرية، حتى خلَّف الاستعمار الفرنسي موته “المزيف” في “شراكات” أدت إلى إزاحة شبهة “التسييس” عن معاملات ما بعد الاستعمار.
في الواقع، لا يزال الميثاق الاستعماري يحكم المعاملات الفرنسية الإفريقية، حيث تحافظ هذه الاتفاقية على اعتماد الدول الإفريقية على فرنسا من خلال فرض نظام يوفر فيه الأول الموارد الطبيعية والواردات بشكل حصري تقريبًا لصالح فرنسا الكبرى، مقابل الحصول على المنتجات المصنعة من الأخيرة، وهذا التكوين مدعوم بآليات اقتصادية وعسكرية وسياسية لا تخضع لأي سيطرة ديمقراطية.
حتى يومنا هذا، تواصل فرنسا بذل كل ما في وسعها، بما في ذلك نشر قواتها العسكرية، لحماية رجال إفريقيا الفاسدين وتسهيل وصولها إلى موارد القارة
أحد أهم رموز الإمبريالية الدائمة في إفريقيا الناطقة بالفرنسية هو تعاون الفرنك الإفريقي، الذي ما زالت 14 دولة إفريقية تتداوله، وقد بدأ مربوطًا بالفرنك الفرنسي فترة من الزمن ليصبح الآن مربوطًا باليورو بتأطير من الخزينة الفرنسية، وهو ترتيب يتطلب من أعضائه في غرب ووسط إفريقيا إيداع 50% من فوائض النقد الأجنبي في حساب العمليات الفرنسية في مقابل استقرار العملة، ودون فكِّ الارتباط بين الفرنك الإفريقي واليورو والتخلص نهائيًّا من الوصاية الفرنسية، فإن اقتصادات دول غرب ووسط إفريقيا ستظل في تبعية مستمرة.
ويعزز من هذه التبعية أن فرنسا تعتبر المحافظة على القادة الفاسدين دائمًا شرطًا لاستمرار العمل لصالح القوى الاستعمارية في إفريقيا، وحتى يومنا هذا، تواصل فرنسا بذل كل ما في وسعها، بما في ذلك نشر قواتها العسكرية، لحماية رجال إفريقيا الفاسدين وتسهيل وصولها إلى موارد القارة.
في العقود القليلة الماضية، اتخذت فرنسا بعض الخطوات غير المسبوقة لحماية مصالحها في إفريقيا، بما في ذلك نشر قوات خاصة لحماية عمليات التعدين الخاصة بشركة فرنسية خاصة في النيجر، ومنذ عام 1960، تدخل الجيش الفرنسي أكثر من 40 مرة في إفريقيا، وكانت أحدث التدخلات مثل عملية برخان العسكرية في مالي ومهمة إنقاذ الرئيس التشادي من انقلاب، وتلك شهادات على أن فرنسا لا تزال تتصرف كقوة استعمارية في إفريقيا.
وفي السنغال، تدير الشركات الفرنسية جميع خدمات البنية التحتية تقريبًا، من ميناء داكار (Bolloré) إلى الطرق السريعة (Eiffage)، ومن نظام القطار (SNCF وRATP وAlstom) إلى التنقيب عن النفط (Total)، فحوَّل ماكي سال السنغال مع هذه الخدمات إلى جنة استثمارية للشركات الفرنسية، وفي هذه العملية، أصبح حارسًا قويًا للنظام الفرنسي الجديد.
هذه البنية التحتية الاستعمارية والسياسة المنفتحة تجعل من السهل على رجال الأعمال المفترسين مثل تيميس استغلال موارد السنغال، فهو قادر بسهولة على القيام بأعمال تجارية تتنقل عبر شبكات من المسؤولين الفاسدين الذين كانوا مشروطين بالفعل لتقديم تنازلات للأجانب مقابل الربح الشخصي.