بشكل شبه رسمي، وباحتفالات صاخبة للآلاف في الشوارع، انتهت أزمة السودان السياسية، بعد أن توصل الجيش وقوى الحرية والتغيير إلى عدة اتفاقات توضح تفاصيل ترتيب تقاسم السلطة وبناء علاقة عمل يرسم حدودها إعلان دستوري مهد الطريق لتشكيل حكومة انتقالية، ويبقى الأمل في حسن النوايا لإيصال هذه الاتفاقات لبر الأمان ورسم مسار قوي لاقتصاد ينزف منذ عقود ويحتاج تدخلات بجراحات عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وعمل بنية اقتصادية تعبر عن السودان الجديد.
تضع قوى الحرية والتغيير جُل اهتمامها على مشكلة الاقتصاد الذي يعاني من أمراض مستوطنة، من استشراء للفساد والمحسوبية إلى ثقافة التغول على المال العام والترهل الإداري، الأمر الذي جعل السودان واحدًا من أفقر 20 دولة في العالم، يعيش فيه نحو ثلثي سكانه على خط الفقر أو تحته، وخاصة بعد انفصال جنوب السودان وإهدار نحو ثلاثة أرباع احتياطي البلاد النفطية، وانعكاسات ذلك على النقص الشديد في العملات الأجنبية والسيولة.
برنامج إسعافات وخطوات استباقية
في خطاب تاريخي للأمة السودانية والعالم اجمع، أشار تجمع المهنيين السودانيين الذي يقود قوى الحرية والتغيير إلى معضلات أزمة الاقصاد، خلال كلمة نشرها التجمع على حساباته بالسوشيال ميديا، وقال فيها إن الروح الجديدة التي ضختها الثورة تضع جُل اهتمامها لحل مشكلة الاقتصاد الذي يعترض طريقه استشراء الفساد والمحسوبية والتغوُّل على المال العام والترهل الإداري والصرف البذخي على دواوين الحكومة، وهي خطايا تمثل حجر عثرةٍ في طريق الانعاش الاقتصادي وحل المشكلات التي تعاني منها القطاعات العظمى من طبقات الشعب.
تعول قوى الحرية والتغيير على الإرادة الثورية والروح الوطنية الجديدة، للتغلب على المصاعب الاقتصادية، تراهن على توافر المصادر البديلة والخبرات البشرية اللازمة للعبور نحو التقدم والنماء، ولا تقف كثيرًا عن انفصال الجنوب الذي أصبح من الماضي ولن يفيد معه البكاء على اللبن المسكوب، في ظل وجود ثروات باطنية بديلة تعوض الثروة النفطية الكبيرة التي ذهبت للجنوب، فهناك اليورانيوم والحديد والذهب والغاز الطبيعي، وهي كنوز لا تحتاج إلا لاستخراجها واستثمارها، كما أن الزراعة التي يعمل بها نحو 80% من السكان، تعتبر إحدى أهم صادرات السودان وعلى رأسها قصب السكر والقطن.
يملك السودان بالفعل برامج إسعافية للاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية، يقودها القطاع الخاص ووزارة المالية والتخطيط الاقتصادي في البلاد التي أعدت سياسات مالية جديدة تغطي فترة الحكم الانتقالي، تبدأ من نهاية أغسطس الحاليّ وتستمر حتى الشهر نفسه من عام 2022، ويبدو أن القطاع الخاص السوداني سيستحوذ على نصيب الأسد، وفقًا لمبادرته للإصلاح الاقتصادي التي دشنها في الخرطوم بداية الشهر الحاليّ، وتشمل الانتقال التدريجي في المعالجات والاعتماد على الذات والموارد الطبيعية التي تحظى بها البلاد.
مصادر حكومية سودانية تحدثت لوسائل إعلام عربية، عن السياسات المالية الجديدة، وقالت إنها ستتضمن جميع المعالجات للأزمات الراهنة
وزارة المالية، كانت على قدر كبير من الوضوح، وهي تشير إلى المشكلة الاقتصادية المعقدة في البلاد، فتركت سياسة الوعود السريعة التي كان يستخدمها رموز الثورات العربية في البلدان المجاورة بعد تفجر الربيع العربي في 2011، وأكدت أن العوار الاقتصادي لا يمكن حله بين ليلة وضحاها، وذكرت أن سياساتها المالية الجديدة تتضمن أفكارًا كثيرة وخططًا يمكن تطبيقها لإسعاف الاقتصاد المتدهور باستخدام الموارد الذاتية والبشرية في البلاد.
مصادر حكومية سودانية تحدثت لوسائل إعلام عربية، عن السياسات المالية الجديدة وقالت إنها ستتضمن جميع المعالجات للأزمات الراهنة، في ظل تحديات كبيرة أشدها تعقيدًا خروج ما يقرب من 50% من الأنشطة التجارية والخدمية في البلاد خارج حسابات الرقابة تمامًا، بجانب الاختلالات الكبيرة في معظم قطاعات الاقتصاد، سواء بسبب التردي البنيوي أم العزلة الدولية المفروضة على البلاد، من جراء سياسات البشير على مدار العقود الماضية، بجانب غياب الحكومة التنفيذية طيلة الأشهر الثماني الماضية، ما أدى إلى تكون أسواق سوداء عشوائية للسلع والتجارة، انعكست سلبًا على حياة المواطنين ومعاشهم وزادت معاناتهم.
ثمن الإصلاح.. سنوات من الكفاح
القطاع الخاص وبدعم فني من الاتحاد العالمي لأصحاب العمل والبنك الدولي، قدم خططًا لدمج السودان في الاقتصاد العالمي وانسياب التحويلات المالية بين السودان وبنوك العالم المتوقف منذ 1997، لإنجاح الأهداف الاقتصادية للثورة، كما قدم رؤية استرشادية للحكومة الانتقالية المقبلة، تقف على أسس علمية، تتضمن برامج للسير بخطى ثابتة من 5 إلى 10 سنوات، تقضي خلالها على فساد النظام السابق وتنظم التجارة الداخلية والخارجية.
بحسب المبادرات المطروحة، الأولوية ستكون لمشاريع البنية الصناعية وتحويل المواد الخام الزراعية والصناعية التي يزخر بها السودان (200 مليون فدان أراضٍ خصبة، واحتياطي بحجم 500 طن ذهب، ومليارا برميل نفط) إلى سلاسل القيمة المضافة، ثم تليها مرحلة تصنيع كل مدخلات الإنتاج، من ناحية توفر البلاد عشرات الآلاف من فرص العمل وتشغيل المصانع المتوقفة ويتجاوز عددها ما يقرب من 1200 مصنع.
ولكن أولى المخاطر التي تهدد هذه الطموحات، عدم دفع الضرائب، وهي ثقافة شبه ممنهجة في السودان حتى اليوم، وتثبتها إحصاءات رسمية تؤكد أن نسبة الإيرادات الضريبية مقابل الناتج الإجمالي المحلي ما زالت منخفضة للغاية، حيث لم تتجاوز هذه النسبة 6%، في الوقت الذي يبلغ متوسط عائدات الضرائب مقابل الناتج الإجمالي المحلي 34% في بلدان مجاورة حسب منظمات التعاون الاقتصادي.
هناك أيضًا أزمة أخرى لا تقل أهمية عن عدم دفع الضرائب، وهي قضايا التهريب والتهرب الضريبي التي تنعكس سلبًا على شح السلع الإستراتيجية، فتخلف هذه السلوكيات آثارًا مدمرة، من تضخم وارتفاع الأسعار وتعطل المصالح والأنشطة التجارية، وهي أحد أسباب اندلاع الصراعات المسلحة بالسودان، بجانب أنها لو استمرت على هذا النحو قد تهدد برامج العدالة الاجتماعية الطموح لقوى الحرية والتغيير التي تريد تمكين كل السودانيين من التمتع بمزايا التعليم والصحة والعلاج.
بحسب الدكتور عبد الله الرمادي الخبير الاقتصادي السوداني، خلفت قضية التهريب والتهرب الضريبي طوال الحقبة الماضية أضرارًا بالغة بالاقتصاد، وكانت أحد أخطر عوامل نزيفه خلال الـ30 عامًا الماضية، وأحدثت عجزًا في ميزان المدفوعات المترهل، وكلها نقاط يجب أن يضعها في الحسبان من سيتولى مقاليد الأمور في البلاد مستقبلاً، حفاظاً على الموارد والخيرات ووقف النزيف.
وحتى يحدث ذلك، يجب إنصاف العاملين في مجال الضرائب أولاً وتحصينهم بالمزايا، من رواتب مجزية وحوافز لتشجيعهم حتى لا يكونوا عرضة للإغراءات، مع إحكام التدقيق والمراجعة والمتابعة لكشف حالات التجاوز في الضرائب لضمان وضع السودان في مصاف الدول التي تحترم القوانين وتعف الأيادي، ومساعدة الخزينة العامة للبلاد بالمبالغ التي يتم تسريبها إلى الحسابات الخاصة بالفساد، فتحرم المواطن في النهاية من خدمات كان يمكن توفيرها بتلك الأموال، وتعجز الدولة عن إقامة مشروعات الصحة والتعليم والطرق والخدمات كافة.
تبقى أزمة سيطرة عدة عائلات، تضم عددًا لايستهان به من القطط السمان، وتحتمي بقادة داخل الجيش والحكومة، أحد أخطر العقبات التي ستواجه عمليات الإصلاح الاقتصادي المنتظرة
كما سيحتاج السودان إلى حزمة تشريعات وتشديد العقوبات على التهرب الضريبي والجرائم الجمركية وتحفيز الموظفين والمواطنيين الذين يكشفون عمليات التهريب، بمنحهم نسبة من قيمة المهربات، كما يحدث في كل البرامج الدولية لمكافحة الفساد، فضلاً عن البحث عن مرجعية وهوية قانونية للدولة في شكلها الجديد التي تعظم القانون وتحترم كرامة الإنسان، وقد لا يكون مناسب معها الاستمرار في الاعتماد على الكيان القانوني للصين المعمول به في البلاد حتى الآن، حيث يواجه المدان بالتهرب الضريبي عقوبة الإعدام.
وتبقى أزمة سيطرة عدة عائلات، تضم عددًا لا يستهان به من القطط السمان، وتحتمي بقادة داخل الجيش والحكومة، أحد أخطر العقبات التي ستواجه عمليات الإصلاح الاقتصادي المنتظرة، وخطورتها يكشفها حوار مع القناة الألمانية الأولى في القاهرة “ARD” أجرته مع أحد رجال الأعمال العاملين في قطاع البناء وتجارة الحديد، الذي رفض كشف هويته، وقال خلاله إنه كان يضطر لدفع رشاوى إلى عصابات المافيا في عهد البشير ليستطيع ممارسة عمله، ما يؤكد قوة ونفوذ عصابات المافيا وتغلغلها في مفاصل الدولة على جميع المستويات.
ما سبق يكشف التحديات الضخمة التي تواجه الثورات، ولم يعرفها الثوار الأوائل في المنطقة الذين دفعوا ثمن عدم وجود قيادة منظمة والجهل الواضح من النخب من مختلف المرجعيات السياسية والفكرية بعمليات التحول الإستراتيجي، فالإطاحة برأس الأنظمة ومع كل التضحيات التي تبذل في سبيل هذ الخطوة، هي أسهل خطوة في رحلة ترسيخ أقدام الدولة المدنية، ولكن غول الفساد وشبكات المافيا والجذور الضاربة للدول العميقة، أقوى وأشرس مما يتخيلها أحد، ومواجهتها تحتاج إلى قيادة من نوع خاص ونزاهة وتناغم سياسي وفكري وضمائر حرة.