“بكل آيات الشموخ والكبرياء والافتخار، وبعد استكمال كل الإجراءات اللازمة والتعامل مع كل المحاذير الأمنية التي تفرضها ظروف المعركة والميدان، وبعد إجراء التحقق اللازم واتخاذ كافة التدابير ذات الصلة، نزف إلى أبناء شعبنا العظيم استشهاد ثلة من المجاهدين الكبار (..) على رأسهم شهيد الأمة القائد محمد الضيف قائد هيئة أركان كتائب القسام”.. بهذه الكلمات أعلن الناطق العسكري باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، في كلمة مصورة له مساء الخميس، إسدال الستار على واحدة من أنصع صفحات التاريخ المناضل، وأكثرها إشراقًا، ناعيًا قائد الظل الذي دوًخ الاحتلال لأكثر من 30 عامًا.
من المسرح حيث أسس أول فرقة فنية إسلامية في فلسطين (العائدون) إلى درب النضال والمقاومة، تاريخ يمتد قرابة ثلاثة عقود ويزيد، كان فيها الضيف كابوسًا يؤرق مضاجع الاحتلال، وهدفًا جيشت إسرائيل لأجل اصطياده كافة استخبارات العالم، فهو على شهرته الواسعة كان مجهول الملامح، وعلى قدر قوته وعنفوانه وشراسته كان نحيل الجسد، لكنه كان العلم الذي لا يجهله طارق، والمنارة التي يهتدي بها الحائرون في صحاري الصمود والتحدي.
"هذا ما يليقُ بقائدنا محمد الضــيف، الذي أرهق الاحتلال لأكثر من 30 عاماً"..
كلماتُ الناطق باسم القســـام "أبو عبيدة" في نعي القائد الشــــهيد محمد الضيف ورفاقه القادة الكبار. pic.twitter.com/WPAUHwhGv2
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) January 30, 2025
ارتبط اسمه بالغموض، فعلى مدار أكثر من عقدين لم يظهر سوى ثلاث مرات فقط، بصورة معتمة، فهو بالنسبة للكثيرين أسطورة من وحي الخيال، تتناقل الغالبية أخباره عن طريق السمع، إلا من بعض النخبة من قادة المقاومة، لكنه مع ذلك كان أيقونة النضال ورمز الصمود والنبع الذي ينهل منه الأطفال والشباب في الداخل الفلسطيني كؤوس الإباء والعزة.
كان أخر ما طل به على العامة، ظهوره ضمن وثائقي “ما خفي أعظم” الذي بثته قناة “الجزيرة” مساء الجمعة 24 يناير/كانون الثاني الجاري، وهو يضع اللمسات الأخيرة على التحضيرات لعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك من داخل غرفة عمليات كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
حينها ردد كلمات لخصت مسيرته وهو يشير إلى خريطة فلسطين، جاء فيها: كما أنتِ هنا مزروعٌ أنا.. ولِي في هذه الأرض آلافُ البُذُور، ومهما حاوَل الطُّغاةُ قلعَنَا ستُنبِتُ البُذُور.. أنا هنا في أرضِي الحبيبة الكثيرة العطاء، ومثلُها عطاؤُنا نواصِلُ الطَّريق لا نوقفُ المَسير.
مهندس الطوفان
عُرف محمد دياب إبراهيم المصري -وشهرته محمد الضيف- بأنه مهندس عملية “طوفان الأقصى” ففي صبيحة السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أعلن القائد العام لكتائب عز الدين القسام ومن خلال رسالة صوتية بدء عملية عسكرية ضد الكيان المحتل باسم “طوفان الأقصى” وإطلاق آلاف الصواريخ باتجاهها.
وأضاف أن الضربة الأولى لتلك العملية استهدفت مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية إسرائيلية، وإنه تم إطلاق 5 آلاف صاروخ وقذيفة خلال الدقائق العشرين الأولى من العملية، منوهًا أن تلك العملية تأتي ردًا على الجرائم الإسرائيلية المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني وتنكّر الاحتلال للقوانين الدولية وفي ظل الدعم الأميركي والغربي والصمت الدولي.
الضيف أوضح في رسالته أن قيادة القسام “قررت وضع حد لكل جرائم الاحتلال، وانتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب”، وفق تعبيره، داعيًا الشباب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وداخل إسرائيل إلى الانتفاض نصرة للأقصى، وقال “اليوم، كل من عنده بندقية فليخرجها فقد آن أوانها”، وتابع “أدعو إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”.
رسالة الضيف أربكت حسابات الاحتلال، الذي جُن جنونه جراء المفاجأة التي أحدثتها تلك الضربة، والتي هزًت أركانه وأحدثت شروخات غائرة في جسد الجيش الذي لا يقهر، فكان الإيقاع به هدفا قوميًا للداخل الإسرائيلي، لتبدأ مرحلة جديدة من السُعار واللهث ترقبًا لخطواته وتحركاته المُبهمة على أمل استهدافه.
أيقونة الشباب.. حي الشيخ جراح شاهدًا
في مايو/أيار 2021 حاول الاحتلال الغاشم طرد عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح بالقرب من الحرس القدسي بهدف تسليمه إلى مستوطنين إسرائيليين في ظل سياسة التوسع الاستيطاني التي تبناها المحتل مدفوعا بضغوط اليمين المتطرف والتيارات المتشددة في الداخل الإسرائيلي.
حينها خرج الضيف محذرًا من تلك الهمجية الإسرائيلية قائلا “إن لم يتوقف العدوان على أهالي حي الشيخ جراح في القدس المحتلة في الحال فإن كتائب القسام لن تقف مكتوفة الأيدي وسيدفع الاحتلال الثمن غاليا”، لافتا أن قيادة المقاومة تراقب ما يحدث في القدس عن كثب، قبل أن تتحرك فعليا ردا على استمرار العدوان الإسرائيلي في القدس.
هذا الحضور القوي والخطاب الذي تكسوه لغة الإباء والعزة والشرف أسر قلوب وعقول النشء من الصغار، الذين كانوا ينظرون للضيف بأعين جاحظة، إجلالا وتعظيمًا، فخرجوا عن بكرة أبيهم في مظاهرات حاشدة جابت شوارع القدس، مرددين هتافهم الخالد “حط السيف قبال السيف.. إحنا رجال محمد ضيف”.
أصابت تلك الهتافات الاحتلال في سويداء قلبه، إذ كيف لهذا الشبح، مجهول الملامح، أن يحظى بهذا التقديس لدى شباب لم يعرف عنه سوى بعض الكلمات التي تلقاها عبر مسامعه، فكيف بهم الحال إذا ما رأوه، وعايشوه، ونهلوا منه وجها لوجه، وهو ما دفعهم للاعتداء على تلك التظاهرات، لا لشيء إلا لمنع ترديد اسمه الذي أينما ذُكر حل الرعب في نفوس الإسرائيليين.
ثلاثة عقود من النضال
من قدر الضيف أنه جاء إلى الدنيا مع إرهاصات التحرير، إيذانا ببدء مرحلة جديدة من الصمود والتحدي، فولد عام 1965 لأسرة فلسطينية لاجئة في بلدة “القبيبة” داخل فلسطين المحتلة، قبل أن تُجبر على مغادرتها لاحقا، لتستقر في إحدى مخيمات اللاجئين ومنها إلى خان يونس جنوب قطاع غزة.
كغيره من غالبية شباب الشتات والمخيمات، نشأ الضيف نشأة فقيرة، متأرجحا صعودا وهبوطا في مسار التعليم، فتركه تارة ثم عاد إليه مرة أخرى، ليستقر به الحال في الجامعة الإسلامية في غزة، حيث اكتشف نفسه كناشط سياسي من الطراز الأول، واستطاع أن يترك بصمته المؤثرة في التيار الإسلامي بالجامعة حتى حصل على درجة البكالوريوس في العلوم عام 1988.
وفي السنة الأخيرة من الجامعة انضم الضيف إلى حركة حماس، كان يتمتع بالهدوء والرزينة، أميل للتفكر والتدبر والحيطة، ما عُرف عنه التسرع ولا العجلة، أخلاقه كانت عنوانه الأوضح، ونبوغه المبكر كان جواز سفره نحو تقلد العديد من المناصب داخل الحركة، وهو ما أثار حفيظة الاحتلال الذي كان يراقبه عن كثب.
وفي عام 1989 كانت الخطوة الأولى للمناضل الشاب مع مشوار الاعتقال، حيث اعتقله المحتل لمدة عام ونصف تقريبًا بتهمة الانضمام إلى الجناح العسكري للحركة الذي كان الشيخ صلاح شحادة (استشهد في صيف 2002) قد أسسه آنذاك، وكان يحمل اسم “حماس المجاهدين”، وداخل السجن تعرف الشاب المفعم بالحماسة والإباء على عدد من قادة حماس، من بينهم عضو المكتب السياسي للحركة حاليًا، غازي حمد، الذي وصفه بأنه كان وطنيًا طول الوقت، وكان يحب الدعابة لإضفاء البسمة على شفاه المعتقلين داخل سجون الاحتلال.
"لن أرى في حياتي رجل مثله"..
أم زوجة محمد الضيف تنعاه بعد إعلان القـ سـ ام استشـ ـهاده pic.twitter.com/rrrTBpK91O— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 30, 2025
بعد خروجه من السجن عام 1991 التحق بالمجموعات الأولى لكتائب القسام التي أعيد تشكيل الجهاز العسكري من خلالها، وذلك من خلال مجموعة خان يونس، والذين استشهد معظمهم مثل ياسر النمروطي وجميل وادي، هشام عامر، وعبد الرحمن حمدان، ومحمد عاشور، والأسير حسن سلامة وغيرهم من المقاومين، ثم انتقل إلى الضفة وهناك أسس فرع كتائب القسام مع عدد من كبار قادة الحركة.
وعقب استشهاد القيادي عماد عقل عام 1993 بزغ نجم الضيف الذي أوكل إليه الإشراف على عدد من العمليات الحساسة، من بينها أسر الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان عام 1994، ثم زادت وتيرة العمليات الفدائية التي أشرف عليها بعد ذلك وأوقعت العشرات من القتلى والجرحى في صفوف المحتل عقب اغتيال القيادي يحيى عياش في يناير/كانون الثاني 1996.
في مايو/أيار 2000 كانت تجربة اعتقاله الثانية، لكنها لم تدم طويلا حيث استطاع الفرار مع بداية انتفاضة الأقصى، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته كقيادي بارز في صفوف القسام، إذ تولى قيادة الحركة إثر اغتيال قائدها العام صلاح شحادة في 22 يوليو/تموز 2002، وطوًر بشكل كبير من نشاطها رأسيًا وأفقيًا وهو ما أغاظ الاحتلال بصورة دفعتهم لأن يوضع على قوائم الاغتيال كهدف استراتيجي.
وأثار نشاط الضيف واستبساله وتخطيطه وإدارته للقسام حالة رعب في نفوس الإسرائيليين، مما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز، ورئيس شعبة المخابرات العسكرية موشيه يعالون، للطلب من رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات بالتحرك ضده محذرين من مخططاته، غير أن عرفات تجاهل هذا التحذير، حسبما نشرت صحيفة هآرتس في عددها الصادر في 20 أغسطس/آب 2014.
هدفا دائمًا للاغتيال
الدور الذي لعبه الضيف في تكبيد الاحتلال الخسائر الفادحة على مدار سنوات طويلة، ومسؤوليته عن تطوير شبكة أنفاق الحركة في باطن القطاع، وتطوير منظومة صناعة القنابل التي استخدمتها المقاومة في عملياتها المختلفة، جعله على قوائم الاستهداف الإسرائيلية والأمريكية لعقود مستمرة، إذ تعرض لأكثر من محاولة اغتيال بعدما اتهمته إسرائيل التي كانت تسميه “رأس الأفعى” و “ابن الموت” بالوقوف وراء العديد من عمليات المقاومة ضد أهداف استراتيجية خاصة بها
في عام 2001 كانت محاولة الاغتيال الأولى بعد أن وضعته الولايات المتحدة ضمن لوائح الإرهاب، حيث استُهدف بصاروخ في بلدة “جحر الديك” وكان برفقة عدنان الغول (استشهد في 22 تشرين أول/ أكتوبر 2004) خبير المتفجرات في كتائب القسام ونجله بلال، لكنه نجا من تلك المحاولة، لتُعاد مرة أخرى في العام التالي مباشرة، عندما أطلقت مروحية “أباتشي” إسرائيلية صاروخين نحو سيارته، مما تسبب في إصابته بجروح يرجع الفضل في علاجها للشهيد عبدالعزيز الرنتيسي الذي اغتيل عام 2004.
كانت المحاولة الثالثة في 2003، حين استهدف صاروخ إسرائيلي تجمعا له وبعض قادة حماس، وفي عام 2006 كانت المحاولة الرابعة حين أصاب صاروخ المنزل الذي كان يعقد فيه اجتماعا مع عدد من قادة كتائب القسام، وهي العملية التي زعمت إسرائيل وقتها أنها أصابته بإصابات بالغة جعلته مقعدًا، وهي المزاعم التي فندها وثائقي الجزيرة الأخيرة الذي كشفه واقفًا على أقدامه.
في أغسطس/آب 2023 استهدف المحتل منزله في حي الشيخ رضوان بغزة مما تسبب في استشهاد زوجته وابنه البالغ من العمر 7 أشهر، وفي 13 يوليو/تموز 2024 أكد الاحتلال استهدافه شخصيًا إثر سلسلة غارات مكثفة على منطقة المواصي بخان يونس، فيما نفت حماس أن تكون الغارة قد استهدفت الضيف، فيما انقطع الاتصال نسبيًا بين القيادة السياسية للحركة وقيادتها الميدانية للتأكد من صحة مثل تلك الأنباء.
في 20 مايو/أيار 2024 أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان تقديمه طلبا للمحكمة لاستصدار أمر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت ومن جهة أخرى القادة في حركة حماس يحيى السنوار ومحمد الضيف وإسماعيل هنية بتهم ارتكابهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية عقب أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2023.
تتميز حماس بأنها حركة ولادة للقيادات،فمنذ استشهاد مؤسسها وزعيمها الشيخ احمد ياسين وحتى القائد محمد الضيف وثلة القادة معه لم يلحظ أحد فراغا في القيادة أو تراجعا في الأداء،وربما تكون حركة التحرير الوحيدة في العالم التي تتميز بذلك لأسباب كثيرة،على رأسها صلابة المنهج ووحدة الصف،وقوة… pic.twitter.com/GvwdiyTN2H
— A Mansour أحمد منصور (@amansouraja) January 30, 2025
كانت سمعة الضيف تسبق خطواته، ومكانته في قلوب الفلسطينيين تزداد يومًا بعد يوم، فكان يحتل مساحة مقدسة من التقدير والاحترام والإعجاب من الجميع، أبناء غزة والضفة معًا، فكان دائم التنقل والترحال بين بيوت الضفة تفاديًا للملاحقة الإسرائيلية، فاستقبلته تلك البيوت ورحبت به واحتضنته، وأخفته عن عيون العدو وعن أشعة الشمس الحارقة، نصرته وأوته ومن هنا سُمي بـ”الضيف”، هذا اللقب الذي عٌرف به وشُهر.
أعاد الضيف بشموخه وتواضعه وعزته وكبريائه الأذهان والخيالات لعصور الصحابة الأوائل، حيث البذل والعطاء دفاعا عن القضية وتقديم الروح والجسد لأجل الغاية العليا، فكان القدوة للأجيال والمٌرعب للأعداء، كان النموذج واجب الاقتداء والتجربة الثرية التي تدعو للفخر والإباء، فحق له أن تكون خاتمته بهذا الشرف، فمن عاش لأجل وطنه، مدافعا عن أرضه وعرضه، مستحيل أن تكون نهايته غير تلك التي كان عليها الضيف ورفاقه.
يتوهم المحتل أن باغتيال الضيف ستُمحى سيرته من الذاكرة الفلسطينية، فالرجل وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود نجح في تربية أجيال قادرة على حمل الراية، تهتف باسمه وتردد كلماته، تقتدي بمسيرته وتنتهج شجاعته، فإن ذهب ضيف فمن بين ثنايا تراب غزة الطاهر سينبت ألف ضيف وضيف.
الحق دوما ما شهدت به الأعداء.. ولعل ما كتبه الكاتب الإسرائيلي حاييم ليفنسون ، في مقال له بصحيفة هآرتس الإسرائيلية يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بعد يوم واحد فقط من طوفان الأقصى، عن تأثير العملية ومهندسها على الكيان المحتل، كاشف وبشكل كبير عن حجم الجرح الذي تركه الضيف في نفوس الإسرائيليين، حيث وصف ما حدث بالكارثة و”العار الذي لا يزول”، مضيفًا أنه “حتى لو عثرت إسرائيل على محمد الضيف في مخبئه وقدمته للمحاكمة فلن يكون لذلك أي معنى، إذ اكتملت الخسارة مع الصفعة الأولى”..