قبل أيام، أُعيد انتخاب ألكسندر لوكاشينكو لولاية جديدة رئيسًا لبيلاروسيا، في مشهد يعكس استمرارية حكمه الممتد منذ ثلاثة عقود، وسط اتهامات بالتزوير وقمع المعارضة، فيما يواصل ترسيخ سلطته وسعيه لإحياء النفوذ السوفياتي في بيلاروسيا.
وُلد لوكاششينكو في قرية كوبيس بمقاطعة فيتيبسك، شمال شرق ما كان يُعرف آنذاك بجمهورية بيلاروس الاشتراكية السوفياتية، نهاية شهر أغسطس/آب 1954. تربّى وترعرع في كنف والدته التي عملت “لَبَّانة”، وحمل كنيتها. لم يكن محبًا للدراسة، وكان مشاغبًا، ما جعله يتردد على أقسام الشرطة أكثر من أقسام المدرسة.
رغم إكماله دراسته وحصوله على شهادة جامعية كمدرّس للتاريخ والدراسات الاجتماعية، فإنه اختار الالتحاق بالجيش السوفياتي والخدمة في قوات المخابرات السوفياتية المعروفة باسم “كي جي بي”، المعنية بمراقبة الحدود.
هناك، ازداد شغفه بالفكر السوفياتي، فتم إدراجه مدرسًا في القسم السياسي للوحدة العسكرية بمنطقة الحدود الغربية في بريست. ومع بلوغه سن العشرين، انضم إلى لجنة اتحاد الشباب الشيوعي “كومسومول” التابعة لقسم تجارة الأغذية، وبسرعة أصبح سكرتيرًا لها. وفي سنة 1979، انضم رسميًا إلى الحزب الشيوعي السوفياتي.
تفكك الاتحاد السوفياتي
لم يكن طموح ألكسندر لوكاشينكو مجرد عضوية رمزية في الحزب الشيوعي السوفياتي، بل كان طموحه أكبر؛ حيث استغل عمله في التدريس للتقرّب أكثر إلى قادة الحزب وأنصاره، ومنحه عمله السياسي في الوحدات العسكرية أفضلية إضافية.
أول منصب مهم في حياة لوكاشينكو حصل عليه سنة 1990، وهو في السادسة والثلاثين من عمره، حيث تم انتخابه نائبًا للشعب في مجلس السوفيات الأعلى لجمهورية بيلاروسيا “البرلمان”، وترأس لجنة دراسة أنشطة المؤسسات والشركات التجارية، كما ترأس في 1993 لجنة مكافحة الفساد النيابية.
في الأثناء، أسس جماعة سياسية تُسمى “الشيوعيون من أجل الديمقراطية”، تدافع عن “اتحاد سوفياتي ديمقراطي” يقوم على مبادئ الشيوعية. وخلال وجوده في البرلمان، صوّت لوكاشينكو ضد المصادقة على اتفاق ديسمبر/كانون الأول 1991 بشأن تفكك الاتحاد السوفياتي وإنشاء رابطة الدول المستقلة، فكان بذلك العضو الوحيد الذي صوّت ضد الاتفاق.
لم يكن من السهل على لوكاشينكو، الذي تربّى في أحضان الاتحاد السوفياتي والفكر الشيوعي، أن يرى تفكك الاتحاد أمامه وانتهاء الوجود القانوني لدولة اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية، فقرر العودة إلى العمل في مزارع الدولة.
رئاسة مدى الحياة
في عمله الجديد، حارب لوكاشينكو الفساد والامتيازات التي تحظى بها نخبة الحزب الشيوعي، فذاع صيته بين الناس، ما دفعه للترشح في الانتخابات الرئاسية الأولى في بيلاروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، والتي أقيمت سنة 1994.
فاجأ السياسي الفتي الجميع – حتى نفسه – وفاز في الانتخابات بأغلبية ساحقة، وساعده في ذلك اتهامه كبار المسؤولين في البلاد، بما فيهم رئيس البرلمان آنذاك ستانيسلاف شوشكييفيتش، بالفساد واختلاس أموال الدولة لفائدتهم الشخصية.
جلس لوكاشينكو على كرسي الحكم وهو في العقد الرابع من عمره، فبادر بالاتصال مباشرة بالروس لدعمه في ظل محيط رأسمالي يحيط به، وما هي إلا سنتان حتى طالب أغلبية أعضاء البرلمان بعزل الرئيس الجديد للبلاد لانتهاكه الدستور.
بدأت النزعة الاستبدادية تظهر شيئًا فشيئًا، فعوضًا عن الاستجابة لمطالب النواب، نظم الرئيس استفتاءً شعبيًا مدّد من خلاله فترة ولايته من أربع إلى سبع سنوات، وزاد صلاحياته، بما في ذلك إمكانية إغلاق البرلمان.
عقب انتهاء الاستفتاء، تم اقتحام البرلمان وسجن 89 نائبًا بتهم تتعلق بالخيانة، وتعيين برلمان جديد موالٍ للرئيس، كما تم حظر العديد من المؤسسات الإعلامية ومنعها من الحديث عن أي نشاط للمعارضة، حتى أصبح الكل يسبح في فلك الرئيس.
ترشح لوكاشينكو لفترة رئاسية ثانية سنة 2001، فحصل على نسبة 75.6% من الأصوات، وسط تنديد داخلي ودولي واتهامات له بالتزوير، وتكرر الأمر نفسه سنة 2006، حيث أُعيد انتخابه مجددًا بنسبة تقارب 83%، في انتخابات قالت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا إنها “لا تتفق مع المعايير الدولية”.
بعدها بأربع سنوات، نُظّمت انتخابات رئاسية جديدة في بيلاروسيا، وكانت كالمعتاد دون مفاجآت، حيث فاز الرئيس ألكسندر لوكاشينكو بولاية رابعة، فسارع المجتمع الدولي للتشكيك في النتائج وإقرار سلسلة من العقوبات الاقتصادية ضد النظام، ومنها تجميد الأصول المالية وحظر التأشيرات الأوروبية والأمريكية الشمالية على لوكاشينكو والعديد من معاونيه.
لم تمنع هذه العقوبات لوكاشينكو من مواصلة الحكم والترشح لولاية رئاسية خامسة سنة 2015، وتم انتخابه مجددًا على رأس الدولة بنسبة 80% من الأصوات في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول من تلك السنة.
ضمن الرئيس البيلاروسي سنة 2020 فترة رئاسية جديدة، حيث فاز في الانتخابات بنسبة مماثلة لما عرفته انتخابات 2015، وتكرر الأمر قبل أيام قليلة، حيث فاز للمرة السابعة بالانتخابات وحصل على 86.8% من أصوات الناخبين في الانتخابات.
يظهر من هنا أن الرئيس البيلاروسي، البالغ من العمر 70 سنة، لا ينوي التنحي عن منصبه، الذي يجلس عليه منذ 30 سنة، ليكون بذلك الدكتاتور الأطول حكمًا في القارة الأوروبية، التي ينادي قادتها بالتداول السلمي على السلطة واحترام حقوق الإنسان وإرادة الشعوب.
تعزيز للسلطات عبر قمع المعارضة
لم يكن بقاء لوكاشينكو في الحكم لهذه المدة الطويلة أمرًا سهلًا عليه وعلى سكان بيلاروسيا في الآن ذاته، فرغم اعتماده بعض الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية لتبرير بقائه في السلطة، إلا أن ذلك لوحده لم يكن كافيًا.
منذ فترة رئاسته الأولى، اعتمد ألكسندر لوكاشينكو سياسة الحديد والنار تجاه جميع المعارضين والمواطنين، حيث أضعف مؤسسات دولة بيلاروسيا، وغيّر دستورها، وطوّعها لخدمة مشروعه الشخصي.
قمع لوكاشينكو أي معارضة في البلاد، واعتقل الآلاف، وأصدر ضدهم أحكامًا بالسجن لمدد طويلة. ووفقًا لمجموعة فياسنا الحقوقية، يوجد في بيلاروسيا حاليًا 1,245 سجينًا سياسيًا، فيما اضطر عشرات الآلاف للفرار من البلاد خلال عامي 2020 و2021، معظمهم إلى بولندا وليتوانيا، نتيجة القمع الممنهج الذي تمارسه السلطة.
حتى يتمكن من فرض سيطرته على الفضاء العام، زاد لوكاشينكو من صلاحيات لجنة أمن الدولة (علمًا بأن روسيا البيضاء هي الدولة الوحيدة في الاتحاد السوفيتي السابق التي احتفظت بهذا الاسم)، وهي وكالة المخابرات الوطنية في بيلاروسيا.
نتيجة لهذا القمع، رفضت سفياتلانا تسيخانوسكايا، وهي ناشطة حقوقية وسياسية بيلاروسية رشحت نفسها في الانتخابات الرئاسية البيلاروسية 2020، الدعوة إلى الاحتجاجات العامة بعد الانتخابات الأخيرة خوفًا على حياة الأهالي.
علاقات متذبذبة مع الغرب
خلال إدلائه بصوته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، هاجم لوكاشينكو الاتحاد الأوروبي والغرب ككل، مؤكدًا أن بلاده لا تحتاج إلى موافقة من الخارج على الانتخابات الرئاسية، ولا يعنيه ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يعترف بها أم لا.
هذا التصريح جاء استباقًا لوصف مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، الانتخابات الرئاسية الأخيرة في بيلاروسيا بـ”المهزلة”، كما أكد الاتحاد الأوروبي عزمه مواصلة فرض العقوبات على نظام لوكاشينكو وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات.
ومنذ وصوله إلى الحكم سنة 1994، عرفت العلاقات بين بيلاروسيا والغرب تذبذبًا، واتسمت في البداية بالعداء. ففي سنة 1998، اتهم لوكاشينكو حكومات أجنبية بالتآمر ضده، وقام حينها بطرد سفراء الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وإيطاليا، واليابان.
عقب ذلك، تحسنت العلاقات بين الطرفين، وعاد السفراء إلى عملهم، في محاولة من الغرب لاحتواء بيلاروسيا وضمها إلى صفهم في حربهم ضد المعسكر الشرقي. لكن الوضع تغير سنة 2020، بالتزامن مع الاحتجاجات التي شهدتها البلاد عقب الانتخابات الرئاسية آنذاك.
اتهمت دول الاتحاد الأوروبي لوكاشينكو بانتهاك حقوق الإنسان، وقمع المواطنين، والتسبب في أزمة هجرة على حدود الاتحاد، فضلًا عن دعمه لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا. ومنذ ذلك الوقت، ظلت العلاقات بين الطرفين متوترة، حتى أن الاتحاد الأوروبي استبق نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة وقرر عدم الاعتراف بها قبل إجرائها.
إعادة بناء الاتحاد السوفيتي
في الوقت الذي توترت فيه علاقات لوكاشينكو مع الغرب، نمت علاقاته مع الحليف التاريخي، روسيا، ليصبح الحليف المقرب لموسكو والرئيس فلاديمير بوتين، خاصة بعد سنة 2020.
شارك لوكاشينكو روسيا في قمع المعارضة حتى يستقر حكمه، ويحافظ على التعاون بينهما، كما سمح في الحرب الروسية ضد أوكرانيا باستخدام بيلاروسيا كنقطة انطلاق للضربات العسكرية الروسية على أوكرانيا.
وفي هذه الحرب أيضًا، سمح لوكاشينكو لموسكو بنشر الأسلحة النووية التكتيكية الروسية على أراضيه، ما اعتبره الأوروبيون تهديدًا مباشرًا لهم.
وظهر التعاون بين الطرفين جليًا سنة 2023، حيث نجح الرئيس البيلاروسي حينها في إخماد نار الأزمة بين موسكو ومجموعة فاغنر، كما استضاف زعيم مجموعة فاغنر ومقاتليه في بلاده.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقّع البلدان اتفاقية الضمانات الأمنية المتبادلة، التي تنظم كيفية التصرف في حال نشوب تهديد جدي لسيادة أحد البلدين أو كليهما، وكذلك المسائل المتعلقة بنشر الأسلحة النووية التكتيكية الروسية على الأراضي البيلاروسية. وقبلها بربع قرن، وقّعت روسيا وبيلاروسيا اتفاقية إنشاء دولة اتحادية.
ويأتي هذا التقارب البيلاروسي مع الكرملين في إطار سعي لوكاشينكو إلى إعادة إحياء مجد الاتحاد السوفياتي، وتوحيد الجمهوريات السوفياتية السابقة، فهو حتى الآن لم يتقبل فكرة تفكيك الاتحاد، الذي تربى على دعمه ونشر أفكاره.
بالمحصلة، يمكن اعتبار لوكاشينكو، الذي يُعد أحد أطول الزعماء السياسيين بقاءً في السلطة في العالم، بأنه “آخر الزعماء السوفيات”، الحالم بالعودة إلى الوراء وإحياء الاتحاد السوفياتي مهما كلفه الأمر.
وإن اقتضى ذلك تهجير المواطنين، وغلق الفضاء العام والافتراضي، واستغلال عدم قدرة الغرب على إيقافه، بسبب حاجتهم إليه، ورغبتهم في التقرب من نظامه.