ترجمة وتحرير: نون بوست
تدعوكم صحيفة لاكروا لتجربة سيل من العواطف المختلفة في خمس حلقات، حيث يتعلق الجزء الأول بالغضب. وبعد أن عرفت المنفى منذ الطفولة، انخرطت الأكاديمية بسمة قضماني في معارضة نظام بشار الأسد خلال التمرد في سنة 2011. في المقابل، تعود أصول سخطها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
لاكروا: بما أنك أكاديمية ومختصة في السياسة الدولية، كرست حياتك المهنية للعالم العربي، وهي منطقة تعاني من اضطرابات دائمة، وأنت ملتزمة لصالح مسألة إرساء الديمقراطية في هذه البلدان. فيم تمثل دافعك لذلك؟
بسمة قضماني: طيلة حياتي، كان هناك مصدران رئيسيان للغضب يوجهان التزاماتي، يتمثل الأول في القضية الفلسطينية، بينما يتمحور الثاني حول وضع الشعب السوري. ولقد حدد هذان المصدران على التوالي مسيرة 35 سنة من عمري، فضلا عن تركيزي بشكل خاص على ثورات الربيع العربي في سنة 2011.
كيف تعبرين عن هذا الغضب؟
لا يمكن رؤية تجلي هذا الغضب. أنا لا أرفع نبرة صوتي، إذ أنه أمر نادر الحدوث. وبسرعة شديدة، لاحظت أنه لا يُستحسن التعبير عن الغضب بطريقة مباشرة وأولية. أنا أتحكم في هذا الشعور، أقوم بتشكيله بحيث يصبح دافعا. وكان الغضب سبب جميع مبادراتي وكل جهودي. وعموما، هناك حشود وناشطون ومتظاهرون للتعبير عن الثورة. إن دوري يتمثل في معرفة ما يجب القيام به حينما يعتريني هذا الشعور. وعلى أية حال، أنا أمنع نفسي من حياة هادئة وروتينية والاستمتاع بالأشياء البسيطة في الحياة. إن العالم غير عادل بشكل كبير، والوضع ملح للغاية.
من أين يتأتى غضبك؟
من حقيقة أنه على امتداد ثلاثة أجيال، التي تتعلق بوالدي وبي وبأبنائي، خسرنا بلدا. ومنذ أكثر من 50 سنة، سُجن والدي في دمشق، على إثر تصريحات اعتُبرت وقحة تتعلق بحرب 1967 التي خسرتها إسرائيل. علاوة على ذلك، فُصل والدي الذي كان يشغل منصب سفير سابق ورحلنا مفلسين حينما كان عمري لا يتجاوز العشرة سنوات.
أنا من الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع حرب حزيران / يونيو سنة 1967 وتولّد لدي غضب منذ ذلك التاريخ
إثر ذلك، لم يرغب أبي مطلقًا في امتلاك أي شيء في سوريا وطلب صراحة أن يدفن في فرنسا. لقد كان الأمر مؤلمًا للغاية، لأنه كانت لعائلتي والدي ووالدتي مسؤوليات سياسية مهمة للغاية منذ نصف قرن. وفي الواقع، تزيد هذه الذاكرة العائلية من حدة الشعور بالطرد حيث أن أولئك الذين يحكمون هذا البلد قاموا بحل الأماكن العامة. ولم يعد هناك أي أثر للمواطن.
علاوة على ذلك، أنا من الجيل الذي تشكل وعيه السياسي مع حرب حزيران / يونيو سنة 1967 وتولّد لدي غضب منذ ذلك التاريخ. لقد قضيت تلك الأيام الستة تحت تهديد القنابل في دمشق. حينها، أدركت الطفلة اللامبالية ضعفها، وضعف المحيطين بها. كما أدركت أول كذبة مريعة، نظرا لأن الراديو أخبرنا أننا كنا منتصرين في الوقت الذي كنا فيه بصدد فقدان كل شيء. لقد كان ذلك بمثابة صحوة فجئية، أثارها العدوان الإسرائيلي فضلا عن عدم مسؤولية وغرور ونفاق قادتنا.
في سنة 2011، حين انتشرت الثورة في سوريا، شاركت في إنشاء المجلس الوطني السوري، الذي كان أول محاولة لهيكلة المعارضة. فهل كان لديك أمل في التغيير؟
لقد كان في الغالب شعورا بأن الوضع ملح. وعندما سقط أول المتظاهرين في دمشق، في الأحياء التي أعرفها، انتابني سخط عميق، واعتبرت أن القمع أمر غير مقبول. بعد ذلك، تضخم غضبي بسبب القصف الجوي الذي استهدف قرى وأحياء بأسرها. واعتقدت أن الغرب سيتخذون موقفا، كما فعلوا في ليبيا. ولكن بسرعة فائقة، بدت رسالة الدبلوماسيين واضحة ووحشية: لن يكون هناك تدخل لحماية السكان المدنيين؛ نعم، ستكون هناك عمليات قتل جماعي، لكننا لن نفعل أي شيء إزاء ذلك.
كيف كان رد فعلك إذن أمام محاوريك؟
لقد تملكتني الرغبة في الصراخ، لكنني أنهيت المحادثة. لقد رفضت الاستسلام وشعرت في الوقت نفسه بالإحباط. في الحقيقة، أتخلص من كل ما من شأنه أن يعرقلني أو يعيقني، من أجل أن أكون قادرة على القيام حتى بالمستحيل، لأنني أدين بذلك لأولئك الذين يعيشون المعاناة. ومنذ الأشهر الأولى، كرّست كل وقتي لسوريا. لقد تركت عملي تقريبا، ومسؤولياتي، وعائلتي. لقد طلبت من ابنيّ الأكبر سنا رعاية شقيقهما الأصغر البالغ من العمر 13 سنة. حينها|، فهما أنه ينبغي على جميع أفراد الأسرة التجنّد من خلال مساندتي، ومساعدتي والعمل معي.
كان التحدي الكبير الذي يواجهنا في المجلس الوطني السوري متمثلا في شرح من كنا، ولماذا أردنا استعادة هذا البلد الذي فقدناه، وفيما كنا قادرين تمامًا على إدراجه ضمن العالم المتحضر، في الوقت الذي كان يحكمه همجيون وكان على هامش التاريخ. كل هذا كان أمرا ملحا للغاية وسبب سخطنا.
سرعان ما أصبحت الثورة في سوريا عنيفة. هل كان من الضروري حمل السلاح؟
لقد كان ذلك أمرا شرعيا، وأسوق لكم ذلك بكل حذر. أعرف شبابا طرحوا على أنفسهم، على امتداد أشهر عديدة، السؤال التالي: هل كان يتعين عليهم الدفاع عن أحيائهم ؟ لقد دخلوا في حوار معنا. كنا نأمل أن يظلوا سلميين. ولكن في مواجهة الهمجية، لم يكن من الممكن تجنب العنف خاصة وأن السلطة كانت ترغب في هذه المواجهة. وما أثار أسفي العميق هو أن الزعماء السياسيين للمعارضة لم يعرفوا كيفية تأطير العسكرة ووضع قواعد وتجنب جرائم الحرب.
بعد ثماني سنوات، هل يجب عليك الاستسلام للفشل؟
بالطبع لا، ومن المؤكد أنه حين يحين وقت المحاسبة، لدي انطباع بأنه لم يفتح أي باب من الأبواب العديدة التي طرقتها، ولم تفلح أية محاولة من محاولاتنا. وقد اتخذ الصراع منعطفًا أقل دموية. لكن، هناك دائمًا النظام ذاته، الحقود والمتباهي بانتصاره؛ والبرجوازية الموالية، والصامتة، والمستسلمة والراضية ذاتها؛ والمجتمع الدولي نفسه غير النشط.
نحن أجيال عاشت منذ عقود في كذبة شاملة، كما أن الأرقام التي يقدمونها لنا خاطئة. ولا يتحدث السياسيون عن الواقع
بطبيعة الحال، ستدفعني عقلانيتي إلى البحث عن تسوية سياسية، حين سيكون ذلك أمرا ممكنًا. أنا أعطي الانطباع بأني شخص معتدل للغاية وذو تفكير منطقي، حيث يرتبط ذلك بطبيعتي ومزاجي. لكنني ما زلت ملتزمة بالقضية بشدة. وفي هذا الإطار، إن ما يحدث في سوريا يعد بمثابة انتحار جماعي. ونحن نخشى حدوث تجزئة أو تقسيم مثل ما حدث في يوغوسلافيا. لذلك، يجب علينا، أنا وآخرون، القول إن هناك مستقبلا سياسيا لسوريا موحدة.
على نطاق أوسع، حرّك شعور الاستياء العميق العالم العربي منذ سنوات عديدة. لماذا؟
نحن أجيال عاشت منذ عقود في كذبة شاملة، كما أن الأرقام التي يقدمونها لنا خاطئة. ولا يتحدث السياسيون عن الواقع. لقد أدركت الشعوب ذلك، وحين يطالبون بكرامتهم، فهم ينادون أساسا بالحصول على الحقيقة والاحترام. في الحقيقة، أضحى حتى هذا الطلب ممنوعا.
هل عشت طوال الوقت في ثورة؟
إن الغضب هو نهر طويل وسام يعبر كل محطات حياتي. وينتابني هذا الشعور في مواجهة اللامسؤولية، والغياب التام للمبادئ، ووقاحة من يحكمون هذه البلدان، ولكن أيضًا في مواجهة أولئك الذين يوفرون لهم قاعدة اجتماعية والذين يتعاونون معهم على الرغم من أنه لا يمكن التعامل مع هؤلاء القادة. وفي الحقيقة، يدفعني ذلك إلى التفكير بمصير أقربائي، الذين لم تنفك وضعيتهم عن التدهور. أنا أطور هذا الشعور، إنه ضروري ومفيد، وربما يساعدني على الارتقاء من خلال منعي من العيش بأنانية مفرطة.
هل يُفسح الغضب المجال للبهجة؟ للجمال؟
لقد تأثرت بحساسية وإنسانية ولطف الأشخاص الذين يعانون واللذين يجب أن يكونوا محل اهتمام. نحن شعوب الحضارة القديمة وحين يتم التعبير عن هذه المدنية، على الرغم من طبقة الهمجية التي تغطي مجتمعاتنا، أقول في نفسي إنه ربما يكون هذا هو موطن الجمال.
الصحيفة: لاكروا