عودٍ على بدء، مرة أخرى نجد أنفسنا نتحدث عن مدينة الموصل المنكوبة وما تعيشه من محنة عظيمة، كنَّا قد توقعناها وتنبأنا بحدوثها، وها نحن نعيش هذه المحنة في ظل حكم المليشيات التي سيطرت على أسباب الحياة فيها، لنعيش تجربة الموصل ما بعد داعش التي لا تختلف كثيرًا عن التجربة التي عاشتها المحافظة بفترة حكم التنظيم.
فحقيقة الأمر أن عملية التحرير من داعش، لم تكن إلا عملية استبدالها بعصابات أخرى لا تقل شرًا عنها تسمى مليشيات الحشد، بل ربما يمكننا القول إن ما بدأته داعش تُكْمِلَهَ اليوم المليشيات وبكل دقة.
من الواضح للجميع، أن مليشيات الحشد التي يتجاوز عددها الآن في مدينة الموصل الـ19 فصيلًا، تؤسس لبقائها في المدينة لأمد طويل، وبدأت تمسك بمعظم مفاصل الحياة في المحافظة، وخلال السنتين الأخيرتين من حكم المليشيات لهذه المدينة، رأينا من الجرائم بحقها ما لا يمكن أن تستوعبه مقالات ولا دراسات، لكننا مع ذلك، سنسلط الضوء على جزء منها، يتمثل بآخر ما استجدَّ من هذه الجرائم.
كان وصول محافظ جديد مقرب للمليشيات، منصور المرعيد، لمحافظة نينوى خلفًا للمحافظ سيء الصيت نوفل العاكوب، بطريقة المساومات ولغة المصالح، نذير شؤم لهذه المدينة، فقد أطلق المحافظ الجديد العنان لتلك المليشيات لتعيث في المحافظة فسادًا وتدميرًا، وصولًا للغاية المنشودة للراعي الإيراني لتلك المليشيات والأحزاب، بتحويل محافظة نينوى ومدينة الموصل إلى التشيع، لرؤية إستراتيجية إيرانية، إما من خلال دفع أهلها للتشيع بكل الوسائل المتاحة أو دفعهم للهجرة منها إلى مناطق أخرى، ليتم بعد ذلك استبدالهم بسكان من طيف آخر يتوافق مع توجهاتهم، ولأجل ذلك يقوم أفراد المليشيات اليوم بشتى الأساليب المبتكرة لنشر الرعب بين الناس، حتى أضفوا أجواءً شبيهة بالأجواء البوليسية في الدول الشيوعية.
لم تكتف المليشيات بذلك، إنما تفرض الإتاوات على أهالي الموصل بالقوة، ومن يمتنع عن الدفع، فإن الاعتقال أو القتل سيكون مصيره، الأمر الذي دفع الكثير من العوائل الموصلية لبيع بيوتهم بأبخس الأثمان والهرب إلى مدن إقليم كردستان للنجاة بأنفسهم
وبعد ما قيل في حق المكاتب الاقتصادية التابعة للمليشيات وأحزاب السلطة، وما فعلته في اقتصاد المدينة وإفقار أهلها واستنزافهم ماديًا، وما قيل بحق الوقف الشيعي وأفعاله المشينة في محاولاته للاستيلاء على أوقاف السنَّة وعقاراتها في المحافظة، لترسيخ وضع جديد في المحافظة ونشرٍ للتشيع في صفوف أبنائها، جاء الدور على نوع آخر ربما يكون هو الأخطر في مسلسل محاربتهم لأهالي تلك المحافظة.
سجون تكتظ بشباب الموصل
في هذا الصدد، يتحدث أحد وجهاء مدينة الموصل عن معاناة أهلها بالقول: “مدينة الموصل اليوم تعاني بشدة مما تفعله المليشيات من انتهاكات وطغيان بلا حدود ضد أهالي المدينة، وأصبح المواطن فيها مستضعفًا ومنتهكةً حقوقه، لا يقوى على الحفاظ على ممتلكاته، وتكتظ المعتقلات بأعداد كبيرة من أهلها، غير قابلة للتصديق، حتى وصل الأمر إلى استخدام البيوت المستولى عليها من الأجهزة الأمنية والمليشيات، لتحولها إلى معتقلات لشباب هذه المدينة”، وتابع بالقول “أحد المعتقلات التابع إلى الاستخبارات ويقع في منطقة الفيصلية، يتم الزج فيه بأكثر من 120 معتقلًا بغرفٍ لا يزيد حجمها على 6×6 متر، ويستخدم معهم أشد وسائل التعذيب لغرض استخراج اعترافات منهم تدينهم وتثبت انتماءهم لعصابات داعش”.
وأضاف وهو في حالة ألم “من يقوم بعمليات التحقيق تلك، أشخاص، في حالة سكر أو في حالة تعاطي حبوب مخدرة، حتى لا تبقى في قلوبهم رحمة”، وأكد المواطن الذي رفض ذكر اسمه “من المستحيل أن يخرج معتقل من التحقيق، دون الإدلاء باعتراف، سواء كان اعترافًا كبيرًا أم صغيرًا يدينه أمام المحاكم الصورية التي يقدمون إليها التي هي الأخرى للأسف لا تنصف المظلومين، ويتعاون القضاء فيها مع الجلادين، للحكم على هؤلاء الشباب على جرائم لم يرتكبوها، ووفق اعترافات أدلوا بها بالإكراه والتعذيب اللاإنساني، رغم عِلم القضاة بحقيقة تلك الاعترافات الزائفة التي تم الحصول عليها بالقوة”.
ويستطرد المواطن الموصلي بشرحه عن حقيقة هذه السجون بالقول: “إنها لا تقتصر على سجون الاستخبارات، إنما لكل مليشيا سجونها الخاصة بها، بالإضافة إلى سجون الحشود الشعبية واستخبارات الداخلية”، مستدركًا “الأهداف التي تخطط المليشيات والأجهزة الأمنية الحكومية للوصول إليها، هي محاولة الضغط على هؤلاء الشباب وعوائلهم، لأهداف تتعلق باستنزاف عوائلهم ماديًا، من خلال مساومة أهالي المعتقلين من الميسورين حالًا بوجوب دفع الأموال ليعرفوا مصير أبنائهم، أو ربما إخلاء سبيلهم إذا كان المبلغ كبيرًا، وإلا فإن التغييب لأبنائهم هو البديل لعدم الدفع، أو الضغط عليهم لأجل تشيعهم، ومن يتشيع يصنف عندهم بما يسمى “التوابين” حسب توصيفهم، ومن لا تنجح معه كل تلك الأساليب، فسيبقى أسير تلك المعتقلات أو يغيب في المقابر المجهولة التي نكتشف كل يوم واحدة منها وتنسب إلى جرائم داعش”.
في منحى خطيرٍ آخر، تقوم به ما تسمى بالجمعيات الإنسانية والمؤسسات الثقافية التابعة لأحزاب السلطة والمليشيات الإيرانية، نوع جديد من التأثير على أهالي محافظة نينوى ومركزها الموصل
لم تكتف المليشيات بذلك، إنما تفرض الإتاوات على أهالي الموصل بالقوة، ومن يمتنع عن الدفع، فإن الاعتقال أو القتل سيكون مصيره، الأمر الذي دفع بالكثير من العوائل الموصلية لبيع بيوتهم بأبخس الأثمان والهرب إلى مدن إقليم كردستان للنجاة بأنفسهم.
مواطن آخر من أهالي مدينة الموصل “أبو أحمد” يصف حال المدينة وهي تحت حكم المليشيات، فيقول: “ليس هنالك سلطة بالموصل تعلوا على سلطة مليشيات الحشد الشعبي، أو تجرؤ على مخالفتها، لأنه سيتعرض لمحاسبة عسيرة ربما يخسر فيها حياته، ولم يعد أحد يستطيع الكلام والاعتراض على ما تفعله المليشيات، لا شيخ ولا وجه ولا كبير ولا صغير، فتُهم الإرهاب والانتماء لداعش، هي التُهم الجاهزة لكل من يعترض ويتكلم عن الانتهاكات التي تقترف بحق المواطنين هناك”.
التأثير العقائدي على شباب السنَّة
وفي منحى خطيرٍ آخر، تقوم به ما تسمى بالجمعيات الإنسانية والمؤسسات الثقافية التابعة لأحزاب السلطة والمليشيات الإيرانية، نوع جديد من التأثير على أهالي محافظة نينوى ومركزها الموصل، بالإضافة إلى أهالي الأنبار، لتغيير عقائدهم وتحويلهم للتشيع، ذلك من خلال السياسة الناعمة التي تنتهجها، كتنظيم الرحلات المجانية إلى إيران، بحجة السياحة والتعرف على ثقافات المجتمع الإيراني، لكن هذه الرحلات في حقيقة أمرها، استغلال لنزوات المراهقين من الشباب، وتوريطهم في زواج المتعة، ودفعهم بالتورط بتعاطي المخدرات، ليكونوا بعد ذلك أكثر تقبلًا للتشيع، ومعينًا جديدًا للتجنيد في المليشيات الذاهبة للقتال في سوريا واليمن، هذا ما كشفه “أبو محمد” من أهالي الموصل حينما قال: “يتم العمل الآن على استقطاب الشباب من الموصل والأنبار وعرب كركوك، وترغيبهم بالذهاب للسياحة في إيران”، وأبدى أبو محمد تخوفه الشديد من هذا الموضوع لخطورته، لأنه من الممكن أن يتم تعميم هذا البرنامج على مستوى العوائل السنيَّة في تلك المحافظات.
سهل نينوى الذي تسيطر عليه مليشيات الشبك ومليشيات بابليون المسيحية، تحول بعد السيطرة عليه إلى قطعة إيرانية بامتياز، وهذا يفسر لنا السرَّ وراء تمسك مليشيات الحشد بعدم إخلاء مواقعهم من تلك المنطقة
هذا ما أكَّده أيضًا الكاتب الأكاديمي الدكتور كاظم عبد الحسين عباس، حينما علَّق على هذا الموضوع بالقول: “الرحلات المجانية التي تُنظم لشباب محافظة نينوى، ولشباب من محافظة الأنبار لزيارة إيران، وراءها مصائب وأهداف بالغة الخطورة، بتوريطهم بزواج المتعة وتناول المخدرات، قبل تدريبهم على سبل المتاجرة بها، كون هذه التجارة لم تنتشر بشكل يرضي الإيرانيين في مناطق السنَّة، كما هو الحال في وسط وجنوب العراق”، وأضاف عباس أن إيران تبتغي من هذا، استخدام هؤلاء الشباب ككبش فداء عنها في أي حرب محتملة مع الولايات المتحدة، أو زجهم في تشكيلات (سنيَّة) ضمن ما يسمى بالحشد الشعبي.
ما يحدث في سهل نينوى أدهى وأمر
سهل نينوى الذي تسيطر عليه مليشيات الشبك ومليشيات بابليون المسيحية، تحول بعد السيطرة عليه، إلى قطعة إيرانية بامتياز، وهذا يفسر لنا السرَّ وراء تمسك مليشيات الحشد بعدم إخلاء مواقعهم من تلك المنطقة، بعد أن أمر الأمريكان عبد المهدي بإخلائها من المليشيات الإيرانية، ذلك لأن إيران، لا تسمح بأن تخسر مواقعها، لا سيما أن هذا الموقع يؤمن لها الدعم اللوجستي لكل عملياتها بالعراق وسوريا، وفي ذلك يقول أحد سكان سهل نينوى، توفيق الجبوري: “سهل نينوى عبارة عن مستودع إيراني كبير، يحوي ورشًا لتصنيع الصواريخ ومخازن أسلحة يتم توزيع السلاح منها إلى باقي الحشود، بالإضافة إلى توريدها لسوريا، كما يحتوي سهل نينوى على أكبر مخازن للمخدرات الواقعة بالتحديد في مدينة الحمدانية”.
أكد المتحدث الرسمي باسم العشائر العربية في المناطق المتنازَع عليها، “مزاحم الحويت”، وجود أكثر من خمس قواعد عسكرية كبيرة تابعة لميليشيا الحرس الثوري الإيراني في منطقة سهل نينوى، تضم ضباطًا، وخبراء تصنيع صواريخ إيرانيين وعناصر من ميليشيا حزب الله اللبناني
وأضاف الجبوري “المنطقة تضم سجونًا يتم فيها زج المعتقلين الأبرياء، وما يزيد على استيعابها يتم إرسالهم إلى سجون جرف الصخر شمال محافظة بابل المسيطر عليها بالكامل من مليشيا حزب الله العراقي، حيث تعتبر منطقة جرف الصخر المركز الأساسي للمليشيات، كما يتم فيها عقد الجلسات الدراسية المذهبية لمن يرغب من المعتقلين بالانتماء إلى المذهب الشيعي، الذين يصطلح عليهم اسم “التوابين”، ومن ثم يتم إرسال من يتأهل منهم إلى اليمن وسوريا ليكون وقودًا للمحرقة هناك”.
لم يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فقد أكد المتحدث الرسمي باسم العشائر العربية في المناطق المتنازَع عليها، مزاحم الحويت، وجود أكثر من خمس قواعد عسكرية كبيرة تابعة لميليشيا الحرس الثوري الإيراني في منطقة سهل نينوى، تضم ضباطًا وخبراء تصنيع صواريخ إيرانيين وعناصر من ميليشيا حزب الله اللبناني، وتابع الحويت بالقول: “يوجد مكتب رسمي للمرشد الإيراني علي خامنئي في سهل نينوى، يديره قيادي ميليشياتي يدعى الشيخ حسن الشبكي، ومهمة المكتب تتمثل بالإشراف على السجون السرية في سهل نينوى التي تضم الآلاف من العراقيين الأبرياء، فضلاً عن إدارة عمليات تجنيد الأطفال والشباب في صفوف الميليشيات، تحت غطاء تقديم المساعدات الإنسانية، مستغلة الأوضاع المعيشية الصعبة لسكان المنطقة”.
عجز الأصدقاء ولؤم الأعداء
بعد ذلك كله نرى أن مدينة الموصل الآن تعاني من الشدة بما يفوق ما عانت منه أيام سيطرة داعش، رغم أن المليشيات وداعش جناحان إرهابيان لجهة واحدة، يتبادلان الأدوار ويكملان عمل بعضهما البعض، في تصفية أبناء هذه المدينة ومحو إرثها التاريخي، كون الموصل من أكبر الحواضر السنيَّة في العراق والمنطقة بشكل عام.
ولم ينفع أهالي هذه المحافظة، صرخات الأتراك الذين هددوا في حينها من مغبة دخول المليشيات إلى المدينة حفاظًا على أهلها من بطش المليشيات الطائفية، وكان أهالي تلك المدينة يأملون منها جهدًا حقيقيًا لدفع شرور المليشيات عنها، عبر مشاركتها الفعلية بتحرير المدينة من عصابات داعش، لكن المليشيات دخلت الموصل ولم يُحرك الأتراك ساكنًا.
داعش لم تنته وما زالت موجودة بمناطق قريبة من حدودها، وحزب العمال وسَّع من سيطرته على مناطق جديدة في العراق وما زال يهاجم الأتراك عبر الحدود العراقية
فانحسر دورها في العراق والموصل تحديدًا لصالح إيران، ونجحت طهران بإشراك الحشد الشعبي الموالي لها بالمعركة، وكل ذلك بسبب النظرة التركية القاصرة لمجريات الأمور في العراق، حينما حددوا أهدافهم من المشاركة، بمجرد إبعاد خطر “داعش” عن حدودها، ومنع حزب العمال الكردستاني من تشكيل قواعد جديدة في سنجار وقنديل فقط، لكن الذي حدث، أن داعش لم تنته وما زالت موجودة بمناطق قريبة من حدودها، وحزب العمال وسَّع سيطرته على مناطق جديدة في العراق وما زال يهاجم الاتراك عبر الحدود العراقية، بل ويتلقى الدعم العراقي والإيراني بالضد من تركيا.
نفس الحال مع الأمريكان الذين قالوا في أكثر من مرة، إنهم ضد تدخل المليشيات في حرب تحرير الموصل وضد دخول المليشيات للمدينة، لكن تلك الدعوات الأمريكية كانت في حقيقتها مجرد هواء في شبك، لأننا رأينا كيف أن المليشيات دخلت لهذه المدينة، بدعم وإسناد أمريكي، وهي الآن تسيطر على الموصل، وتفعل ما يحلو لها فيها، ولها الكلمة الأولى والأخيرة فيما يخص شأنها، ومع ذلك كله، لم نر تحركًا أمريكيًا ولو في أقل مستوى له، لرفع الحرج عنهم.
نفس الحال بالنسبة للدول العربية التي كانت تمثل دور الميّت في هذه المسرحية الهزلية، رغم صراخهم الذي كاد يصم آذاننا في تصريحاتهم المعادية لإيران ولميليشياتها بالعراق وسوريا واليمن، لكن عندما جاء الدور لذبح مدينة الموصل، ساد الصمت في تلك الدول بما يشبه صمت القبور.
إن مدينة الموصل التي يذبح أهلها وشبابها كل يوم، لن تنفعها دموع التماسيح التي تُذرف عليها مما يسمون بالأصدقاء، وهي في حالة انهيار يومٍ تلو يوم، إلى أن يأتي اليوم الذي ستكون فيه أثرًا بعد عين، ما لم ينتفض أهلها ضد دواعش إيران بجناحيها الداعشي والمليشياتي، لأنهما وجهان لعملة واحدة، أما من يسمون أنفسهم بالأصدقاء، فاليوم هو الوقت المناسب لتصحيح توجهاتهم ورجوعهم لجادة الصواب، من خلال مد يد العون لإخوانكم في الدين والعقيدة في العراق، وإلا فإن الأيام دول، وسيأتي اليوم الذي تتحرر فيه الموصل ويتحرر العراق من هذا الضيم الذي يعيشه، حين ذلك لن يكون لكم فضلٌ على أهله، وسوف تستجدون عفوهِ عنكم وعن دوركم في خرابه، بسكوتكم عن الجرائم التي تقترف بحق أهله.