من بين جميع الطرق المسدودة، كانت تركيا الدولة الوحيدة التي استقبلت اللاجئين السوريين بأذرعٍ مفتوحة، دون شروط أو قيود، فلقد فتحت حدودها لأعداد هائلة من الفارين على مبدأ الأخوة الإسلامية ونصرة المظلوم، حتى لأولئك الذين لم يمتلكوا وثائق رسمية أو أوراق ثبوتية. إذ ركزت في المقابل بشكل أساسي على إنقاذهم من جرائم ووحشية نظام الأسد – كما صرحت سابقًا بشكل متكرر وثابت – وابتعدت عن أساليب المراوغة التي انتهجتها حكومات الدول الأخرى.
لكن بعد استضافة نحو 3.6 مليون لاجئ سوري – أكبر عدد من اللاجئين في أي بلد آخر – تحت قانون “الحماية المؤقتة”، اتبعت السلطات التركية مسارًا معاكسًا ومفاجئًا لسياسة الترحيب المرنة التي تبنتها طيلة سنوات الأزمة، وذلك ضمن حملة تنظيم الهجرة غير الشرعية التي أجرتها الشهر الماضي وما شملته من عمليات ترحيل لبعض اللاجئين، رغم امتلاك عدد منهم للوثائق القانونية المطلوبة.
تبع هذه الإجراءات، بيان صادر من مكتب حاكم ولاية إسطنبول يقضي بإجبار اللاجئين السوريين غير الشرعيين أو المسجلين في مدن تركية أخرى غير إسطنبول بالعودة إلى تلك المدن بحلول تاريخ 20 من أغسطس/آب من الشهر الحاليّ، وإلا سيتم ترحيلهم قسرًا، ومنذ ذاك الحين، قضى اللاجئون السوريون هذه الفترة في حالة ذعر مستمرة، باحثين عن وجهة جديدة وملجأ آخر، وكأن شيئًا لم يتغير أو يتبدل منذ 8 سنوات.
كيف قضى اللاجئون السوريون هذه المهلة؟
تدريجيًا ومنذ بداية العام الحاليّ، بدأت أخبار وقصص الترحيل تتناقل بين أفراد المجتمع السوري في تركيا، وكانت الحكومة بدورها تقدم تفسيرات مختلفة لهذه الإجراءات، مثل عودة البعض طواعية إلى البلاد من تلقاء أنفسهم أو بسبب خرقهم لقوانين البلد وإثارة أعمال الشغب أو تورطهم بعمليات تهريب وأعمال مشبوهة. لكن خلال شهور قليلة لوحظ انتشار دوريات الشرطة ونقاط التفتيش بكثافة في الميادين الكبرى ومحطات المواصلات ومداخل الطرق الرئيسية، وخاصةً داخل المناطق التي تشهد انتشارًا كبيرًا للاجئين مثل أكسراي واسنيورت وغيرها.
ودون سابق إنذار، رحلت هذه الدوريات مئات المخالفين الذين لا يحملون بطاقة الحماية المؤقتة أو يعملون دون تصاريح العمل، ولذلك شملت هذه الحملة مداهمة المطاعم والمصانع وورش العمل الصغيرة، ما أدى إلى إغلاق عدد لا بأس به من المحال التجارية، وبعدما أعلن والي إسطنبول عن مهلة ترحيل المخالفين، بدأت مرحلة جديدة من التوترات داخل البلاد.
توقع البعض تقديم بعض الاستثناءات والحلول الخاصة للطلاب والعوائل والمرضى ورجال الأعمال والإعلاميين الذي أسسوا حياتهم داخل إسطنبول لكنهم لا يملكون بطاقة الإقامة بإسطنبول ولا يمكنهم البداية من الصفر مجددًا في مكان آخر
فمع وجود نحو 150 ألف لاجئ سوري غير مسجل في إسطنبول، عم الخوف شوارع المدينة وتوقف اللاجئون السوريون عن ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي، حيث شهدت مناطق وجودهم الرئيسية حالة من الهدوء المريب، أقرب إلى الشلل المميت، إذ توقف الكثيرون عن التوجه إلى أماكن عملهم أو استخدام المواصلات خوفًا من مواجهة دوريات الشرطة التي توزعت في كل زاوية من المدينة.
وبالتزامن مع ذلك، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات بيع ممتلكات ومقتنيات المخالفين الذين أدركوا أن إسطنبول لم تعد تحتويهم وعليهم مغادرتها قبل أن يتم ترحيلهم قسرًا إلى سوريا. إلى جانب ذلك، توالت التساؤلات عما إذا كان هناك تمديد لهذه المهلة وهو ما تم نفيه من مراقبي الوضع في الداخل التركي على اعتبار أن السلطات التركية ترغب في تسوية الأوضاع قبل بداية العام الدراسي الجديد.
ومع ذلك، توقع البعض تقديم بعض الاستثناءات والحلول الخاصة للطلاب والعوائل والمرضى ورجال الأعمال والإعلاميين الذي أسسوا حياتهم داخل إسطنبول لكنهم لا يملكون بطاقة الإقامة بإسطنبول ولا يمكنهم البداية من الصفر مجددًا في مكان آخر.
ما الذي ينتظر اللاجئين السوريين إذا رُحلوا؟
بحسب وسائل الإعلام التركية، تم ترحيل أكثر من ألفي و500 سوري، وبالنسبة لإحصائية معبر الهوى الحدودي يُقدر عدد المرحلين بنحو 7 آلاف، وغالبًا ما يتم ترحيلهم من هذا المنفذ إلى إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ولا تزال مستهدفة من قوات النظام الروسي والقوات الروسية في سوريا.
وفيما يتعلق بمناطق الترحيل، تعارضت تصاريح الحكومة التركية، فلقد أدلت بعدة تصريحات متضاربة، ومنها ما قاله صويلو حين أفاد بأن “عمليات الترحيل ستطال من لا يحملون بطاقة حماية مؤقتة إلى الأراضي السورية”، ثم تراجع في الأسبوع الذي يليه، وقال: “لا ترحيل إلى داخل سوريا لأي سوري كان”، مضيفًا بأنه سيتم إعادته إلى المدينة المسجل بها أو إلى المخيمات في ولاية هاتاي الحدودية.
أثبتت التجارب السابقة أن بعض العائدين واجهوا التجنيد القسري في جيش النظام، بينما اعتقل أكثر من 200 ألف شخص دون محاكمة، وأي حالات عودة أخرى تعني المزيد من المعتقلين والمعذبين والمجندين
في هذا الخصوص، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” التي أدانت التطورات الأخيرة إن العديد من السوريين تم ترحيلهم إلى أحياء في شمال حلب وإدلب، وهي مناطق ليست آمنة ولا تزال عرضة للقصف الجوي من النظام الروسي والسوري، فوفقًا للإحصاءات المتوافرة، عانت إدلب منذ أواخر شهر أبريل/نيسان الحاليّ من حملة قصف جوي مكثفة خلفت أكثر من 700 قتيل و300 ألف مشرد.
وذلك فضلاً عن عمليات اعتقال وخطف المسعفين والصحفيين والناشطين الحقوقيين التي ما زالت مستمرة، يضاف إلى ذلك ما أشارت إليه منظمة “إنقاذ الطفل” التي أفادت بأن عدد الأطفال الذين لقوا حتفهم في إدلب في شهر يوليو/تموز الماضي أكبر من عدد الذين توفوا جميعًا عام 2018.
حذرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من العودة الجماعية للسوريين، ليس فقط من منطلق حقن الدماء وإنما بسبب انتهاك عملية الإعادة للقوانين الدولية التي تحمي طالبي اللجوء والحماية الدولية من الإعادة القسرية إلى وطنهم الأم
وبناءً على هذه الحقائق المروعة والأوضاع المقلقة، يرى بعض المهددين بالترحيل أن مستقبلهم محصور بين التورط مع قوات النظام أو المعارضة، فبحسب صحيفة “تسايت” الألمانية، هناك نحو 3 ملايين سوري على قوائم المطلوبين، وإذا عادوا سيتعرضون للكثير من الاستجواب والمضايقات والاضطهادات، إذ أثبتت التجارب السابقة أن بعض العائدين واجهوا التجنيد القسري في جيش النظام، بينما اعتقل أكثر من 200 ألف شخص دون محاكمة، وأي حالات عودة أخرى تعني المزيد من المعتقلين والمعذبين والمجندين، لا سيما أن الأجهزة الأمنية السورية تشتبه في كل شخص تقريبًا غادر البلاد.
عدا عن أن جزءًا آخر من المشكلة يتمثل في أن مساحات واسعة من القرى والأحياء في سوريا تدمرت بالكامل، ولا يوجد فيها ماء ولا كهرباء ولا مدارس أو حتى مستشفيات، ما يعني أنها غير صالحة للحياة، وذلك ما أكدته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التي حذرت بشكل مستمر من العودة الجماعية للسوريين، ليس فقط من منطلق حقن الدماء وإنما بسبب انتهاكها للقوانين الدولية التي تحمي طالبي اللجوء والحماية الدولية من الإعادة القسرية إلى وطنهم الأم التي يمكن أن تعرض حياتهم وحريتهم للخطر.
وعلى إثر هذه الأحداث وعدم يقين اللاجئين السوريين من سياسات الحكومة التركية، قال أحد الشبان السوريين في واحدة من المقابلات الصحفية بأن أوروبا البديل الجديد، حتى إن كان الوصول إليها عبر قوارب الموت التي قلما تصل إلى الجزر اليونانية، ورغم جميع القصص والتفاصيل الإنسانية التي تتسم بها هذه الحالة، فإن التغيرات الأخيرة في الخطاب السياسي التركي والوضع الاقتصادي بشأن قضية اللاجئين السوريين حولت الأزمة إلى مشكلة سياسية بحتة، خالية من أي اعتبارات أو أبعاد إنسانية.
ففي البداية، اعتقد اللاجئون السوريون أن مشكلتهم حُلت جزئيًا على يد الحكومة التركية، إلا أن التطورات الأخيرة والتكهنات المتشائمة، تنذر بوقائع مختلفة عما اعتقدوه وتصرفوا على أساسه في السنوات الماضية، وعلى ذلك، ليس لهم إلا الانتظار وسط تنديدات ومناشدات منظمات المجتمع المدني والحقوقي التي تقول وتكرر بأن سوريا ليست آمنة بعد بما يكفي لإعادة السوريين إليها وأن إعادتهم قسرًا بهذا الشكل يخالف القوانين الدولية.