كشفت تفاصيل اللقاء الذي جمع الرئيسين: الفرنسي إيمانويل ماكرون، والروسي فلاديمير بوتين، أمس الإثنين، في مقر إقامة ماكرون الصيفي بقلعة بريغانسون (جنوبي فرنسا) حجم الخلافات الواضحة فيما يتعلق بعدد من الملفات الحساسة التي ألقت بظلالها على مناخ العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأخيرة.
اللقاء الذي كان يراهن عليه كثيرون في أن يساعد في تخفيف حدة التوتر بين القوتين البارزتين، لم يخرج عن السياق العام المتوقع في ظل تباين وجهتي النظر بشأن القضايا الإقليمية التي تزداد تنافرًا يومًا تلو الآخر، في ظل تشبث كل طرف بتوجهاته العامة التي يراها مسألة أمن قومي لا يمكن العدول عنها.
وأمام غياب التناغم السياسي في جل الملفات المشتركة، لم يجد الرئيسان بدًا من العزف على وتر المصالح المتبادلة، حيث تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي، في محاولة للوقوف على أرضية مشتركة قادرة على امتصاص أي توتر جديد في المسار السياسي بين البلدين.
الملف السوري يتصدر
تصدر الوضع في سوريا قائمة الملفات الخلافية بين البلدين، حيث دعا الرئيس الفرنسي إلى الالتزام بالهدنة في إدلب السورية، قائلاً “أنا أعبر عن قلقي البالغ مما يجري في إدلب. الأطفال يقتلون والمدنيون يتعرضون للقنابل. من المهم للغاية التقيد بوقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه في سوتشي”.
وفي المقابل جاء رد الرئيس الروسي بأن بلاده – التي دخلت النزاع في 2015 لدعم نظام الرئيس بشار الأسد – دعمت عمليات جيش النظام في إدلب “لوضع حد للتهديدات الإرهابية” على حد قوله، مضيفًا “لم نقل أبدًا إن الإرهابيين في إدلب سيشعرون بالراحة”، لافتًا إلى استمرار دعمه المقدم حتى إشعار آخر.
وينص الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا وتركيا في سوتشي في سبتمبر/أيلول 2018 بشأن منطقة إدلب على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومترًا تفصل بين مناطق سيطرة قوات النظام والفصائل، كما يقضي بسحب جميع الفصائل المسلحة لأسلحتها الثقيلة والمتوسطة والانسحاب من المنطقة المعنية.
ليست هذه المرة الأولى التي يوجه فيها ماكرون انتقادات لموسكو كونها الحليف الرئيسي للنظام السوري، ففي أبريل/نيسان 2018 دعا الرئيس الفرنسي نظيره الروسي إلى استخدام نفوذه وممارسة ضغوط على النظام السوري لإنهاء التصعيد العسكري ووقف تجاوزاتها بحق المدنيين.
تباين في وجهتي النظر الروسية والفرنسية بشأن الوضع في إدلب
سجال بشأن حقوق الإنسان
فرض الملف الحقوقي نفسه بقوة على جدول أعمال اللقاء بين الزعيمين، حيث شهد المؤتمر الصحفي تلاسنًا واضحًا بين الصحفيين والرئيس الروسي على وجه التحديد، تعلق بالانتهاكات التي تمارسها السلطات الروسية ضد المعارضة السياسية والمتظاهريين السلميين.
وردًا على سؤال عن قمع السلطات الروسية التظاهرات المطالبة بالديمقراطية والاعتقالات التي طالت نحو ثلاثة آلاف متظاهر منذ منتصف يوليو/تموز، أكّد بوتين أن ما جرى في بلاده لا يختلف كثيرًا عن أعمال العنف التي رافقت احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا خلال الشتاء والربيع الماضيين.
تصريحات بوتين أثارت امتعاض نظيره الفرنسي الذي بدا عليه علامات الانزعاج من هذه المقارنة، ما دفعه للرد بقوله إنّ لا وجه للشبه إطلاقًا بين ما جرى في فرنسا وما يجري في روسيا
وأضاف الرئيس الروسي “هذه الحالات لا تحصل فقط في روسيا. أنا مدعوّ من الرئيس الفرنسي وأشعر ببعض الانزعاج في الحديث عن هذا الأمر، ولكنّنا نعرف ما حدث خلال تظاهرات السترات الصفراء حيث – بحسب إحصاءاتنا – سقط 11 قتيلاً و2500 جريح، من بينهم ألفان من عناصر الشرطة. لا نريد أن تقع مثل هذه الأحداث في العاصمة الروسية”.
اللافت للنظر أن الحصيلة التي أوردها بوتين بشأن ضحايا التظاهرات الفرنسية تتعارض بشكل كبير مع البيانات الرسمية الصادرة عن باريس التي تقول إنّ قتيلة واحدة فقط هي مسنة ثمانينية سقطت نتيجة قنبلة مسيلة للدموع بينما كانت تقف على شرفة منزلها، في حين قتل عشرة أشخاص في حوادث تسبّبت بها حواجز نصبها متظاهرون على الطرقات.
تصريحات بوتين أثارت امتعاض نظيره الفرنسي الذي بدا عليه علامات الانزعاج من هذه المقارنة، ما دفعه للرد بقوله إن لا وجه للشبه إطلاقًا بين ما جرى في فرنسا وما يجري في روسيا، مضيفًا “في كل مكان في بلادنا تجري تظاهرات، لكن المهم أننا عندما نوقع معاهدات فإننا نحترمها”.
أوكرانيا.. نقطة خلاف متجددة
اختلف الرئيسان أيضًا بشأن الوضع في أوكرانيا، إذ دعا ماكرون إلى عقد قمة رباعية تجمع فرنسا وروسيا وألمانيا وأوكرانيا “خلال الأسابيع المقبلة” بشأن هذا النزاع الذي يسمم العلاقات الروسية الأوروبية، فيما اكتفى بوتين بالإعراب عن “تفاؤل حذر” بشأن هذا الملف وإبداء استعداده لمناقشته.
الرئيس الفرنسي قال: “خيارات الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي تعتبر تغيرًا فعليًا للوضع”، فيما أشار بوتين أن المحادثات الهاتفية مع الرئيس الأوكراني لا تبعث على تفاؤل كبير، لكنه عبر عن ثقته بأن أي اجتماع يهدف إلى حل الأزمة الأوكرانية ستكون له نتائج ملموسة.
ورغم ذلك أبلغ بوتين نظيره الفرنسي بأنه لا يرى بديلاً لمحادثات ما تسمى “صيغة نورماندي” على مستوى رؤساء الدول بشأن أزمة أوكرانيا، لكنه أحجم عن الموافقة على المشاركة في قمة جديدة بخصوص الأزمة، مشيرًا “أنا أعتقد دائمًا، وحتى الآن، أن أي اجتماع، بما في ذلك الاجتماع بـ”صيغة نورماندي”، ينبغي أن يؤدي إلى نتائج ملموسة. من وجهة نظري، نحن بحاجة إلى تحقيق ما اتفقنا عليه من قبل، وبطبيعة الحال، لتحقيق، الوصول نحو هذا الهدف”.
وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين، صرح قبل أيام بأن باريس تحتاج إلى إقامة علاقات مع موسكو قبل أن يسبقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
وتابع ماكرون “روسيا أوروبية وبعمق… ونحن نؤمن بأوروبا التي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك”، معربًا عن رغبته بالعمل على إعادة ربط روسيا بأوروبا بعد خلافات العقود الماضية، داعيًا إلى استعادة “الثقة” في نظام دولي “في طور إعادة التشكل”.
واعتبر أنه رغم “سوء التفاهم بشأن مواضيع عدة خلال العقود الأخيرة فإن روسيا أوروبية وعلينا أن نعيد ابتكار بناء من الأمن والثقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا”، مرجحًا أن التوصل لحل في أوكرانيا قد يكون العصا السحرية لعودة روسيا لمجموعة السبع.
من جانبه أعلن المتحدث باسم الأمين العام لمجلس أوروبا دانييل هولتغن، أن مجلس أوروبا يؤيد تصريحات كل من الرئيس الروسي فلاديمير وبوتين ونظيره الفرنسي وإيمانويل ماكرون، المتعلقة بإمكانية استئناف المفاوضات بـ”صيغة نورماندي” (روسيا وفرنسا وألمانيا وأوكرانيا) لحل الأزمة في أوكرانيا تأييدًا تامًا.
وكتب هولتغن على صفحته بموقع “تويتر”: “الرئيسان ماكرون وبوتين يدرسان إمكانية استئناف المفاوضات بشأن أوكرانيا في “صيغة نورماندي” في الأسابيع المقبلة”. أخبار سارة للغاية. مجلس أوروبا والأمين العام (ثوربيون ياغلاند) يدعمان العملية بالكامل”.
President #Macron and President #Putin consider restart of #Ukraine talks “within weeks” in the Normandy format. Very good news. The Council of Europe and Secretary General Jagland fully support the process. https://t.co/eVKHXAIIvC via @LExpress
— Daniel Holtgen (@CoESpokesperson) August 19, 2019
تعزيز التعاون المشترك
من الواضح أن هناك رغبة فرنسية ملحة في تعزيز العلاقات مع روسيا رغم الخلافات الحادة في الملفات سالفة الذكر، إلا أن ذلك لا يحول دون البحث عن تعزيز شراكات من نوع جديد، تدخل بالعلاقات بين البلدين إلى آفاق أخرى أكثر ثراءً، يمكن من خلالها تعويض التأثيرات السلبية المترتبة على اتساع الهوة السياسية.
وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين، صرح قبل أيام بأن باريس تحتاج إلى إقامة علاقات مع موسكو قبل أن يسبقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، محذرًا من أنه في حالة إعادة انتخابه، سيقوم الزعيم الأمريكي مرة أخرى بتوطيد العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة ولن يأخذ المصالح الأوروبية في عين الاعتبار، حسب صحيفة “لي فيغارو“.
فيدرين أوضح أهمية التعاون بين روسيا وفرنسا في المجالات العسكرية والنووية والفضائية والرقمية، وفي تخضير الاقتصاد، وكذلك في مكافحة الإرهاب. وقال “إننا بحاجة إلى استعادة سياسة الحد من الأسلحة، بدءًا من الصفر عمليًا”، موضحًا أن هدف الرئيس الفرنسي “ربط روسيا بأوروبا” مرة أخرى. لذا، وفقًا للسياسي السابق، يجب على باريس تصحيح السياسة غير المتسقة للغرب، التي “دفعت موسكو للتوجه نحو بكين”.
ويتواصل الرئيسان هاتفيًا بشكل دوري، واستقبل ماكرون بوتين في مايو/أيار 2017، مباشرة بعد انتخابه رئيسًا لفرنسا، كما لبى دعوة الرئيس الروسي إلى سانت بطرسبورغ العام الماضي، ثم التقيا خلال قمة مجموعة العشرين في أوساكا في يونيو/حزيران الماضي، مما جعل علاقتهما أفضل مما كان عليه الحال بين البلدين خلال عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند.