وصل قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” قبل اندلاع النزاع إلى مرحلة من الثراء لم يبلغها أيُّ أمير حرب في السودان، إذ كان يتحكم في إمبراطورية مالية تزداد توسعًا كل يوم؛ بدءًا من التعدين في الذهب، مرورًا بالتجارة الإلكترونية والعقارات، وليس انتهاءً بامتلاك أسهم في مصرفين على الأقل.
كانت الأموال تتدفق إلى شبكة حميدتي الأسرية المتحكمة في قوات الدعم السريع من كل صوب، فغير عائدات التجارة والذهب، تتلقى مبالغ ضخمة من الحكومة وأخرى تتحصل عليها من السعودية نظير المشاركة كمرتزقة في حرب اليمن ضمن “عاصفة الحزم”، إضافة إلى الأموال التي تتحصل عليها بطرق غير مشروعة مثل بيع السيارات المنهوبة من ليبيا.
وامتلك حميدتي نفوذًا كبيرًا داخل مؤسسات الدولة وصل إلى مرحلة إجبارها على تقنين السيارات المنهوبة من ليبيا والتي لا يزال يطلق عليها السودانيون “بوكو حرام”، وحصولها على نسبة 30% من التصنيع الحربي، كما كان يُعد رجل السلام وحقوق الإنسان، رغم أن قواته لم تتوقف عن ارتكاب الانتهاكات ضد الاحتجاجات السلمية والسكان العزل في دارفور.
وتلاشت تلك الثروات رويدًا رويدًا بعد نشوب الحرب في 15 أبريل/ نيسان 2023، فأوقفت الحكومة الميزانية المخصصة لقواته وصادرت شركاته، ثم تلقت ضربة أخرى قد تكون قاصمة للظهر بفرض الولايات المتحدة عقوبات على شركات مرتبطة بالدعم السريع في الإمارات.
ومع خسارتها لمصادر تمويلها التقليدية، خاصة بعد تأكيد الإمارات توقف دعمها للدعم السريع، اتجهت المليشيا إلى مصادر تمويل أخرى تتضمن جبي الأموال من نقاط التفتيش، وتجارة المخدرات، والنهب وفرض الأتاوات، والتعدين عن الذهب بعد انتهاء موسم هطول الأمطار.
فرار القائد الدموي موسى أمبيلو ومعه مجموعة قيادات المليشيا من الخرطوم إلى دارفور . يعتبر أمبيلو أكبر تجار المخدرات في أفريقيا وهو مسؤول تجارة المخدرات لمليشيا الدعم السريع الإرهابية بالتعاون مع المجرم عبد الرحيم دقلو، الذي يشتهر بأعماله الفاسدة والإجرامية في الجنجويد. pic.twitter.com/F4WlYq3AaB
— Makkawi Elmalik | مكاوى الملك (@Mo_elmalik) April 9, 2024
نهب ممنهج
حاولت مليشيا الدعم السريع تعويض وقف الميزانية الحكومية وأموال الشركات المحلية من خلال الأموال التي نهبتها من مصارف البنوك والشركات والذهب في المصفاة وممتلكات المدنيين، لكنها عجزت لاحقًا عن سداد رواتب القوات والمتعاونين معها.
توسعت المساحات المزروعة بنبات مخدرات البنقو في إقليم دارفور، وسط انتشار توزيعه وتسويقه في المدن التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع
وشمل نهب المليشيا كل شيء تقريبًا في ولاية الجزيرة التي سيطرت عليها في أواخر 2023، قبل أن يستقطب الجيش قائد عملياتها في الولاية أبو عاقلة كيكل الذي يرأس قوات درع السودان، وهي مليشيا أسسها في 2022، لتتمكن القوات المسلحة وحلفاؤها بمن فيهم كيكل من استعادة معظم مناطق شرق الجزيرة وعاصمتها مدينة ود مدني مطلع هذا العام.
ويظهر تأثير توقف تدفق الأموال لقوات الدعم السريع في التراجع المتسارع عن المناطق التي كانت تحت سيطرتها مثل مدينة ود مدني وأجزاء واسعة من الخرطوم بحري وأم روابة بولاية شمال كردفان، حيث لم تعد تملك إمدادًا مثل السابق، لا سيما وأنها تعتمد على كثافة النيران وسيارات الدفع الرباعي سريعة الحركة، وما يصلها من الإمارات تُوجهه إلى الفاشر.
ولا تنفصل أعمال النهب التي تُجري في الضعين بشرق دارفور وزالنجي بوسط دارفور ونيالا بجنوب دارفور ومناطق شمال وغرب الفاشر حاضرة ولاية شمال دارفور، عن توقف تدفق الأموال للدعم السريع، فالميليشيا لم تُلاحق المسؤولين عن النهب ما يؤكد أنهم عناصرها، فالجرائم والانتهاكات جزء لا يتجزأ من القوات التي تكونت من مليشيات الجنجويد.
توسع في زراعة وتجارة المخدرات
وتحدث تقرير نشرته صحيفة “دارفور24” عن توسع المساحات المزروعة بنبات المخدرات المعروف بـ “البنقو” في إقليم دارفور، وسط انتشار توزيعه وتسويقه في المدن التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع.
وخلص التقرير إلى أن توسع زراعة المخدرات وانتشار توزيعها يعزز فرضية دخولها ضمن موارد تمويل الحرب، فيما أكد تقرير آخر أن الدعم السريع أصبح يعتمد على المخدرات كمصدر رئيسي من مصادر دخله، حيث شيّد أسواقًا ترويجية في الخرطوم وأدخل 28 طنًا من المواد المخدرة إلى ولاية الجزيرة.
تُصدر قوات الدعم السريع الذهب إلى الإمارات التي تتواجد فيها شركات مرتبطة بها يسيطر عليها أقارب حميدتي، كما أن روسيا متورطة أيضًا في أنشطة التنقيب وتجارة المعدن الأصفر غير المشروعة
وقال ضابط في شرطة مكافحة المخدرات إن قادة الدعم السريع يمولون زراعة المخدرات في منطقة الردوم بولاية جنوب دارفور، الواقعة قرب الحدود مع جنوب السودان وأفريقيا الوسطى، ويقومون بتسهيل عمليات نقلها إلى مناطق التسويق، بما في ذلك بعض المواقع الواقعة تحت سيطرة الجيش.
وتعد مدينة الضعين في ولاية شرق دارفور -وهي منطقة يقطنها أغلبية من قبيلة الرزيقات، الخزان البشري للدعم السريع وينحدر منها معظم قادته-، نقطة عبور شحنات المخدرات من مناطق الإنتاج في جنوب دارفور إلى شمال وشرق السودان.
ورغم أن الذهب يجلب للدعم السريع عائدات ضخمة، إلا أنها لا تكفي لتمويل شراء الأسلحة والعتاد العسكري والذخائر والوقود والطعام وشراء الذمم، لذلك يعمل أيضًا في زراعة وتجارة المخدرات لتوفير أموال إضافية.
المعدن الأصفر
استؤنفت عمليات التعدين عن الذهب في الردوم وسنقو بجنوب دارفور في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حيث شهدت المناجم الخاضعة لسيطرة الدعم السريع تزايدًا في أعداد المعدنين الذين زاد عددهم عن 80 ألفًا، بينهم تجار وعاملون في شركات متعاقدة مسبقًا مع الحكومة قبل نشوب الحرب، إضافة إلى شركة الجنيد.
اطماع نهب ذهب السودان تُشكِّل كلمة السر في تحالُف دولة الإمارات مع قائد قوات الدعم السريع “حميدتي”، يُذكر أن الإمارات تطمع بالتحكُّم في إنتاج الذهب السوداني، ويُشار إلى أن “جبل عامر” هي منطقة إستراتيجية تقع في شمال دارفور، وقد لعبت دوراً جوهرياً في رسم الخريطة السياسية
— 🔻مدونة افتكاسات🔻 (@hesham_m_2011) December 30, 2024
وتفرض قوات الدعم السريع رسومًا على المعدنين الذين يواصلون أنشطتهم، رغم تعرضهم لانتهاكاتها وقطع إنترنت الأقمار الصناعية “ستارلينك” عنهم، بعد قصف جوي شنته الطائرات الحربية على شركة الجنيد التي تضم 11 شركة ويرأسها شقيق حميدتي ونائبه في القوات عبد الرحيم دقلو.
تُصدر قوات الدعم السريع الذهب إلى الإمارات التي تتواجد فيها شركات مرتبطة بها يسيطر عليها أقارب حميدتي، بمن فيهم شقيقه الأصغر القوني حمدان دقلو، مسؤول مشتريات المليشيا. كما أن روسيا متورطة أيضًا في أنشطة التنقيب وتجارة المعدن الأصفر غير المشروعة، حيث يتواجد روس في مجمع شركة الجنيد بمناجم سنقو.
وكانت مليشيا الدعم السريع تلجأ إلى تهريب 80% من الذهب عبر الدراجات النارية إلى تشاد، والباقي عبر جنوب السودان وأفريقيا الوسطى، لكنها تنقله الآن عبر سيارات الدفع الرباعي من المناجم إلى نيالا لنقله جوًا بعد تشغيل مطار المدينة الذي يستقبل شحنات الأسلحة أيضًا.
معظم المقاتلين الذين انضموا إلى الدعم السريع، خاصة المليشيات في كردفان ودارفور، هم مرتزقة يقاتلون من أجل المال ولن يترددوا لثوانٍ في التوقف عن المشاركة في الحرب حال انعدمت الموارد المالية
وتمنع المليشيا أي وجود للمواطنين قرب المطار الذي قصفه الجيش عدة مرات دون أن يتمكن من تعطيله، نظرًا لنشر الدعم السريع أجهزة تشويش حديثة.
وأفاد تقرير، نشرته صحيفة دارفور 24 وموقع “عاين”، بأن قوات الدعم السريع جنت مليار دولار من عائدات الذهب في المناجم التي تسيطر عليها في 2024. وأوضح التقرير أن تقريرًا سريًا قُدم إلى مجلس الأمن الدولي أشار إلى أن الدعم السريع حصلت على 860 مليون دولار من عائدات المعدن النفيس.
ويعتقد الباحث ومؤسس مركز الدراسات السودانية للشفافية وتتبع السياسات، سليمان بلدو، أن تقديرات إنتاج الذهب لقوات الدعم السريع مبالغ فيها، ويقول إن إنتاج الذهب من مناجم سنقو لم يتجاوز 600 كيلوغرام في العام السابق.
واتفق مع سليمان بلدو، حيث أن التعدين في مناجم جنوب وشمال دارفور يتم بطريقة بدائية، لكنه في النهاية يُعد مصدرًا مهمًا لتمويل الحرب.
انتهى زمن المعجزات!
وأقامت قوات الدعم السريع مئات نقاط التفتيش التي تسمى محليًا بـ “البوابات” في مناطق خاضعة لسيطرتها في دارفور وكردفان، لفرض رسوم على الأشخاص وحركة البضائع مقابل المرور، الذي يكون في بعض الأحيان غير آمن.
وتأخذ مليشيا الدعم السريع 8 ملايين جنيه مقابل حماية أي شاحنة تجارية، حيث تؤمّن القوافل الآتية من مدينة الدبة بالولاية الشمالية شمالي السودان، بدءًا من منطقة أبو زعيمة في ولاية شمال كردفان إلى بقية مناطق دارفور، خاصة نيالا التي تعتمد بشكل كبير على السلع الواردة من الدبة.
تحتاج قوات الدعم السريع إلى معجزة للحفاظ على سيطرتها على معظم إقليم دارفور، ولن يتحقق لها ذلك دون تمويل أكبر من الذي تتحصل عليه حاليًا من الذهب والمخدرات والأتاوات والنهب
وتدفع الشاحنة التجارية مبلغًا يتراوح بين 500 ألف جنيه إلى 600 ألف جنيه في كل نقطة تفتيش “بوابة”، ومع ذلك، تتعرض الشاحنات القادمة من جنوب السودان إلى نيالا للنهب في الطريق، رغم كثافة البوابات ووجود عناصر المليشيا ضمن القوافل. ويرجح أن النهب يحدث بالاتفاق مع مقاتلي الدعم السريع مقابل تقاسم الأموال.
وتفرض المليشيا رسومًا على السلع الواردة من جنوب السودان عبر معبر الرقيبات في شرق دارفور، وعلى البضائع المستوردة من تشاد عبر معبر أدري في ولاية غرب دارفور.
ورغم أن قوات الدعم السريع تحصل على أموال من مصادر متعددة، إلا أنها لا تكفي لرواتب المرتزقة الذين تستعين بهم، وتكاليف إعاشة عشرات الآلاف من المتعاونين معها، ورواتب الجنود والمليشيات المتحالفة معها. وربما لهذا السبب يتوقع انهيارها سريعًا في مواقع ظنَّ أنها ستكون في قبضتها لسنوات.
وفشلت المليشيا في الدفاع عن مدينة أم روابة ذات الموقع الاستراتيجي، بعد فترة وجيزة من تلقيها هزائم متتالية في سنار والجزيرة والخرطوم بحري، وسط توقعات بأن يستعيد الجيش جميع مناطق شمال كردفان انطلاقًا من أم روابة التي سيطر عليها في خواتيم الأسبوع الماضي.
إن معظم المقاتلين الذين انضموا إلى الدعم السريع بعد اندلاع النزاع، خاصة المليشيات في كردفان ودارفور، هم مرتزقة يقاتلون من أجل المال، وليس بدافع الولاء. ولهذا، لن يترددوا لثوانٍ في التوقف عن المشاركة في الحرب حال انعدمت الموارد المالية، وربما ينقلبون ضدها ويتحالفون مع الجيش.
واستطاعت هذه المليشيات السيطرة على مناطق واسعة في شمال وغرب كردفان باسم الدعم السريع، الذي منحها الآليات والزي والرتب العسكرية، مستغلة ضعف تواجد الجيش. لكنها لن تستطيع الدفاع عن تلك المناطق دون موارد مالية متدفقة بعد استعادة الجيش أم روابة.
وتلاشت آمال الدعم السريع في الاستيلاء على السلطة وهزيمة الجيش في الخرطوم، مما يجعلها تتجه لتحصين نفسها في دارفور وغرب كردفان. لكن ذلك ليس مضمونًا، فصراع الحرب في دارفور سيكون مختلفًا نظرًا لوجود جماعات مسلحة متحالفة مع الجيش تنظر إلى الصراع على أنه وجودي.
إزاء ذلك، تحتاج قوات الدعم السريع إلى معجزة للحفاظ على سيطرتها على معظم إقليم دارفور، ولن يتحقق لها ذلك دون تمويل أكبر من الذي تتحصل عليه حاليًا من الذهب والمخدرات والأتاوات والنهب.