بعد 30 عامًا من حكم السودان و8 أشهر من الاحتجاجات الشعبية ضد حكمه الاستبدادي و4 أشهر من الإطاحة به من قِبل الجيش، بدأت في الخرطوم، يوم أمس الإثنين، أولى محاكمات الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير في معهد التدريب القضائي بضاحية أركويت شرقي العاصمة، وسط إجراءات أمنية مشددة.
الثراء الحرام
كانت تلك التهمة الأبرز الموجهة للبشير في محاكمة تم تأجيلها أكثر من مرة بطلب من هيئة الدفاع لدواعٍ مختلفة، فجلسة السبت الماضي كانت قد تأجلت إلى يوم أمس الإثنين لتزامنها مع توقيع الاتفاق النهائي بخصوص المرحلة الانتقالية بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير التي تقود الحراك الشعبي. وكانت أول جلسة لمحاكمة البشير قد تقررت شهر يوليو/تموز الماضي، لكنها تأجلت لعدم حضوره لدواعٍ أمنية.
علنًا وعلى الهواء مباشرة، نظرت المحكمة في قضايا جنائية موجهة إلى البشير، تتعلق بالفساد والكسب غير المشروع واستغلال النفوذ وحيازة النقد الأجنبي بطريقة مخالفة للقانون وحيازة نقد سوداني يتجاوز المبلغ المسموح به وقبول الهدايا بطريقة غير رسمية، لكن في حين حضرت تهمة إعلان حالة الطوارئ، فقد غابت التهم المتعلقة بقتل المتظاهرين وقمع الاحتجاجات التي اندلعت قُبيل الإطاحة بحكمه.
البشير كشف أن الأموال التي عُثر عليها في منزله بعد عزله لا علاقة لها بالدولة، وأنها كانت جزءًا من مبلغ 25 مليون دولار مُنح له من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان
حمل أول مثول للبشير أمام محكمة بالخرطوم مفاجآت غير سارة لحلفائه الخليجيين، إذ كشف المحققون إن البشير اعترف خلال مجلسه محاكمته العلنية بتهمة الفساد، التي جرت بالأمس، بتلقيه مبلغ 90 مليون دولار نقدًا من العائلة الحاكمة بالمملكة العربية السعودية، مضيفًا أن جزءًا من الأموال كان ضمن المبالغ النقدية التي عُثر عليها في منزله.
وكان رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان قد أعلن، في أبريل/ نيسان الماضي، العثور على ما قيمته 113 مليون دولار في مقر إقامة البشير، منها ما يقرب من 7 ملايين يورو (7.8 مليون دولار)، إضافة إلى مبالغ أصغر تصل إلى 350 ألف دولار أمريكي و5 ملايين جنيه سوداني.
وبحسب تصريحات الواردة من داخل المحكمة على لسان المحقق بالشرطة العميد أحمد علي، فإن البشير كشف أن الأموال التي عُثر عليها في منزله بعد عزله لا علاقة لها بالدولة، وأنها كانت جزءًا من مبلغ 25 مليون دولار مُنح له من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتسلمها من موفدين له إلى الخرطوم وعبر مدير مكتبه طه عثمان، ليتم استخدامها خارج ميزانية الدولة.
كما أشار المحققون إلى أن البشير كشف تسلمه دفعتين سابقتين بقيمة 35 مليون دولار و30 مليون دولار من العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي توفي عام 2015، وقد تم صرفها على جهات سودانية مختلفة، وكشف أيضًا تلقيه مبلغ مليون دولار من رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، لكنه لا يعرف أين اختفى.
ونقل علي عن البشير قوله “هذا المال لم يكن جزءًا من ميزانية الدولة وكنت الشخص الذي أذن بإنفاقه”، قال الرئيس السابق للمحققين إن الأموال السعودية تم صرفها وإنفاقها، لكنه لم يتذكر كيف، وفقًا لما قاله علي، مضيفًا أن الرئيس السابق لم يكن لديه وثائق تقدم المزيد من التفاصيل.
المحكمة أعلنت عن جلسة أخرى يوم السبت المقبل لمواصلة محاكمة بدأها المجلس العسكري منذ اقتلاع نظام البشير، أمّا قوى الحرية والتغيير فتقول إن أمر المحاكمة له مستوى آخر، وهو الملف السياسي الذي سيُفتح في وقت لاحق.
محاكمة صورية
استمع البشير، الذي أُجبر على التنحي في أبريل/نيسان الماضي بعد شهور من الاحتجاجات، إلى الشهادة دون أن يعلق وهو جالس في قفص معدني مرتديًا الجلباب الأبيض والعمامة التقليديين.
تحدث في بداية الجلسة لتأكيد اسمه وعمره، وعندما سُئل عن مكان إقامته، ضحك الرجل البالغ من العمر 75 عامًا، وقال “سابقًا حي المطار، في مقر القيادة العامة للجيش، ولكن الآن سجن كوبر”، في إشارة إلى مجمع الاحتجاز حيث أرسل سابقًا الآلاف من المعارضين خلال حكمه الذي دام 30 عامًا.
وبعد جلسة الاستماع التي استمرت قرابة 3 ساعات، نفى أحمد إبراهيم الطاهر ممثل هيئة الدفاع عن البشير هذه الاتهامات، وقال إن الاتهام يتعلق فقط بمبلغ 7 ملايين يورو، وأكد أنه تبرع من دولة صديقة للسودان ولا علاقة له بميزانية الدولة.
تمثل محاكمة البشير اختبارًا لمدى جدية السلطات السودانية في محاولة محو إرث حكمه المستبد الذي استمر 30 عامًا واتسم بعنف واسع النطاق وانهيار اقتصادي وانفصال جنوب السودان
كما أثار الطاهر موجة من الانتقادات على مواقع التواصل بين السودانيين، لا سيما بعد أن أعلن أن أملاك البشير تقتصر على منزل واحد في حي كافوري، ومزرعة صغيرة في مشروع السليت شرق العاصمة الخرطوم مساحتها 8 أفدنة.
الطاهر قال للصحفيين إنه من المعتاد أن يحتفظ القادة بمبالغ من العملات الأجنبية، مضيفًا “لا توجد بيانات أو أدلة بخصوص تهمة الثراء الحرام الموجهة للبشير. أي شخص في وظيفة البشير من الطبيعي أن يكون لديه نقد أجنبي، وكان في غرفة ملحقة بمكتبه في السكن الرئاسي”.
كما ادَّعى محاميّ البشير أن التهم الموجهة إليه “غير شرعية لأنه حصل على الأموال التي عثر عليها في منزله بعد إزاحته كرئيس”، وقال فريق الدفاع التابع له إن حقيقة وجود محاكمة ضد الرئيس السابق تثبت أن القضاء مستقل، لكنهم بدوا متأكدين من أنه “سيخرج بريئًا”، كذلك الحال بالنسبة للطاهر، الذي عبَّر عن ثقته في أن القضية تسير لصالح موكِّله، فبحسب قوله ليس ثمة اتهامات أخرى غير تلك المعروضة.
هذه التصريحات جعلت الشارع السوداني يبدي الكثير من ردود الفعل تجاه المحاكمة، فقد اعتبر المحامي معاوية خضر الأمين أن جلسة محاكمة البشير كانت “إجرائية”، والتهم الموجهة له مالية فقط، ورأى أن ملف البشير يجب أن يتضمن المزيد من الاتهامات، مثل انتهاك حقوق الإنسان والتطهير العرقي والإبادة الجماعية وقتل المتظاهرين والقضايا التي تمس كرامة حقوق الشعب السوداني.
محتجون سودانيون يغطون وجوههم خلال مظاهرة مناوئة للحكومة في العاصمة الخرطوم
كما يشكك بعض السودانيين الذين يتوقعون محاكمة صورية في تأكيد المجلس العسكري – الذي يرفض تسليم الرئيس المخلوع للمحكمة الجنائية الدولية – على أن محاكمة البشير ستكون عادلة في السودان، مستشهدين في ذلك بتقرير فض اعتصام الخرطوم، الذي برأ المجلس العسكري بقياداته، وألصق التهمة لما قيل إنهما “ضابطين – لم تكن لديهما أي تعليمات أو توجيهات – قاما “بتطهير” منطقة كولومبيا”.
مراقبون يرون أن المحاكمة إذا لم تشمل قضايا دارفور وقضايا حقوق الإنسان، فإنها لن تعبر عن ثورة الشارع السوداني، الذي لن يقبل بالمحاكمة التي تجري الآن باعتبار أنها تتعلق فقط بغسل الأموال والفساد.
جرائم الماضي والحاضر
قضية محاكمة البشير هي الأهم بعد أمر توقيع الإعلان الدستوري في المشهد السوداني اليوم، حيث تمثل محاكمة البشير اختبارًا لمدى جدية السلطات السودانية في محاولة محو إرث حكمه المستبد الذي استمر 30 عامًا واتسم بعنف واسع النطاق وانهيار اقتصادي وانفصال جنوب السودان.
قبل شهرين، فتحت النيابة العامة باب التحقيق في بلاغين ضد البشير بتهم غسل الأموال وحيازة أموال ضخمة دون مسوغ قانوني، ووُجهت للبشير أيضًا في شهر مايو/أيار اتهامات بتمويل الإرهاب والتحريض على قتل المحتجين والضلوع فيه، وهي الجريمة التي تنطوي على عقوبة الإعدام في السودان.
جمع تحقيق لمنظمة العفو الدولية أدلة على الاستخدام المتكرر لما يُعتقد أنها أسلحة كيميائية تُستخدم ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال الصغار للغاية، على أيدي القوات الحكومية السودانية في واحدة من أكثر المناطق النائية في منطقة جبل مُرة بدارفور
حينها، دعا نائب مدير منظمة العفو الدولية لمنطقة شرق إفريقيا والقرن والبحيرات العظمى، سيف ماجانغو، إلى ضرورة أن يُحاكم البشير، ليس فقط على الجرائم الأخيرة، ولكن أيضًا على الجرائم التي ارتكبها بموجب القانون الدولي في أثناء وجوده بالسلطة، كما لفت إلى أن المجلس العسكري الانتقالي السوداني يتحمل مسؤولية الفشل في حماية المتظاهرين السلميين الذين أطلقت عليهم العناصر الأمنية المحسوبة على المؤسسة العسكرية الرصاص الحي.
وقبل محاكمة يوم الإثنين، قال مدير منظمة العفو الدولية لشرق إفريقيا جوان نانيوكي في بيان: “رغم أن هذه المحاكمة هي خطوة إيجابية نحو المساءلة عن بعض جرائمه المزعومة ، إلا أنه لا يزال مطلوبًا بسبب جرائم بشعة ارتكبت ضد الشعب السوداني”، وطالب السلطات السودانية بتسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية للرد على تهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
خلال الفترة التي قضاها في منصبه، قاد البشير السودان خلال عدة نزاعات، وهو مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بسبب الفظائع المُرتكبة في منطقة غرب دارفور منذ أكثر من عقد، في حرب أسفرت عن مقتل ما يقدر بنحو 300 ألف شخص وإجبار 2.7 مليون على النزوح من منازلهم.
اندلع نزاع دارفور في عام 2003 عندما حملت مجموعات الأقليات العرقية السلاح ضد حكومة البشير التي يهيمن عليها العرب، متهمة إياها بالتمييز والإهمال، وتهرب البشير بعدها من العدالة لفترة طويلة حيث إن ضحايا الجرائم المروعة لا يزالون ينتظرون العدالة والتعويضات منذ أكثر من عقد من الزمن منذ أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أول أمر بالقبض عليه.
يعد البشير آخر رجل يقود السودان الموحد قبل استقلال جنوب السودان عام 2011، وهو أحد المتهمين الأكثر إدانة في المحكمة الجنائية الدولية، حيث أصدرت المحكمة أمري اعتقال بحق الرئيس السوداني السابق؛ الأول في 4 من مارس/آذار 2009 والثاني في 12 من يوليو/تموز 2010، وهو أيضًا متهم بالمسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في أعقاب عمليات القتل والتشويه والتعذيب مئات الآلاف من الناس في إقليم دارفور السوداني.
في عام 2016، جمع تحقيق لمنظمة العفو الدولية أدلة على الاستخدام المتكرر لما يُعتقد أنها أسلحة كيميائية تُستخدم ضد المدنيين، بمن فيهم الأطفال الصغار للغاية، على أيدي القوات الحكومية السودانية في واحدة من أكثر المناطق النائية في منطقة جبل مُرة بدارفور، يشير التحقيق إلى أن 30 هجومًا كيميائيًا محتملًا على الأقل وقعت منذ يناير/كانون الثاني 2016، كان آخرها في 9 من سبتمبر/أيلول 2016، وينافس حجم هذه الهجمات، التي قد تصل إلى حد جرائم الحرب، سابقاتها التي جرى التحقيق حولها من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية.
اليوم، يواجه البشير السبعيني قضاء دولته الذي كان يتبع له مباشرة، ويسوقه إلى القفص الأسود جنوده المخلصين ورجاله الأقربون، وبينما تحتفل البلاد باتفاق العسكر والمعارضة الثائرة، يبدأ البشير مرحلة أخرى من حياته التي توزعت بين ثكنات الجيش وكرسي الرئاسة إلى قفص الاتهام، نحو مصير مشابه حتى الآن لما لاقاه الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، فهل تختلف النهايات؟