المتأمل للسياسة الخارجية السعودية تجاه الإقليم يلاحظ تغيرًا في تفاعلات الرياض مع العديد من الأحداث والتطورات الإقليمية، إذ كانت المملكة قد تبنّت عودة الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد إلى الجامعة العربية ودعته للمشاركة في قمة الرياض قبل شهر واحد من سقوطه بعد أن طبّعت معه العلاقات طاويةً قطيعة دامت 12 عامًا، غير أنّ السعودية فاجأت الجميع مرة أخرى بانتقالها إلى الجهة المعاكسة فور الإطاحة بالأسد حيث تفاعلت سريعًا مع المعارضة السورية التي أسقطت الأسد وتولت الحكم في دمشق.
فبعد أيام قليلة من سقوط الأسد استضافت السعودية اجتماعًا عربيًا دوليًا لمناقشة الوضع في سوريا، في مسعى يهدف إلى تحقيق الاستقرار بعد سقوط نظام بشار الأسد.
شارك في الاجتماع وزراء خارجية تركيا وسوريا والدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، والعراق ولبنان والأردن ومصر وبريطانيا وألمانيا، فضلًا عن مشاركة الولايات المتحدة وإيطاليا على مستوى نائب وزير الخارجية.
وفي مناسبة أخرى، قال وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان إن بلاده تستعجل رفع وتعليق كافة العقوبات المفروضة على سوريا لإتاحة الفرص لنهوض اقتصادها.
الوزير السعودي أشار، على هامش مؤتمر صحافي عقده الأسبوع الماضي في دمشق رفقة نظيره السوري أسعد الشيباني، إلى أن المملكة منخرطة في حوار فاعل مع الدول ذات العلاقة بالعقوبات سواء الولايات المتحدة أم الاتحاد الأوروبي، مشيرًا إلى أنه تلقى رسائل إيجابية ويتوقع أن ترفع العقوبات تدريجيًا حتى تنتهي بشكل كامل.
موقفان من غزة
فيما يتعلق بغزة، وبعد العدوان الإسرائيلي على القطاع نجد أنّ الموقف الرسمي للسعودية يندد بالانتهاكات الواسعة للاحتلال كما جاء في بيانات وزير الخارجية السعودي الذي وصف تصرفات “إسرائيل” باعتبارها جرائم حرب، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، كما أيّدت الحكومة السعودية اتهام جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بأن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية في غزة.
لكن في الوقت نفسه، لم تمارس السعودية أي دور في وقف إطلاق النار في غزة ولا حتى في إرسال المساعدات الإنسانية بالشكل الذي يتناسب مع مكانة المملكة وثقلها، بل على النقيض من ذلك كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- الحاكم الفعلي للمملكة يفتتح بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية بعد أيام قليلة من بداية حرب الإبادة الجماعية متجاوزًا مآسي غزة وسط تطبيل إعلامي غير مسبوق بالحدث.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه دول مجاورة إيقاف مهرجاناتها السينمائية وحفلاتها الغنائية للتعبير عن تضامنهم مع غزة، أقامت الرياض أسبوع الموضة للأزياء، واستمرت هيئة الترفيه بالترويج لافتتاح موسم الرياض ولحفلاته الصاخبة ولم يدر في خلد صناع القرار فكرة تأجيله على الأقل احترامًا لمحنة أهل غزة الذين تضامن كل العالم معهم.
إعلاميًا، اختار وسائل الإعلام السعودية الرسمية عدم الوقوف بجانب أهل غزة ومقاومتها فجاءت لغة الخطاب مطالبةً بإيقاف استهداف “المدنيين والأبرياء” من الطرفين، حيث تبنّت القنوات الرسمية سردية الاحتلال بشكل مثير للاشمئزاز.
كما امتنعت وسائل الإعلام السعودية عن استخدام وصف “شهداء” على من ارتقى من أهل غزة واستبدلهم بكلمة “ضحايا”، أما قادة المقاومة فقد وصفتهم بالإرهابيين، كما جاء في قناة (MBC) السعودية التي بثت تقريرًا وصفت فيه قياديين من حركة حماس بـ”الإرهاب”، وذلك بالتزامن مع حملة تشويه سعودية وهجوم واسع على مواقع التواصل، ضد رئيس المكتب السياسي للحركة يحيي السنوار، الذي استشهد إثر اشتباك مسلح مع الاحتلال.
وعرضت القناة السعودية التقرير تحت عنوان “ألفية الخلاص من الإرهابيين.. الشخصيات التي روعت العالم وسفكت الدماء”، ووصفت فيه الشهيد إسماعيل هنية، ونائبه الشهيد صالح العاروري، بالإضافة إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، بأنهم “إرهابيون”.
وأثار التقرير موجة غضب عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي الأمر الذي دفع القناة إلى حذفه من على حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي، في حين تصدر وسم “قاطعوا MBC” الأكثر تداولًا على منصة “إكس”.
وتزامن تقرير MBC مع عنوان لصحيفة عكاظ السعودية (حماس بلا رأس) يُظهر شماتة واضحة في استشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إذ تصادف العنوان الذي اختارته الصحيفة السعودية شبه الرسمية مع عنوان مماثل لصفحة “إسرائيل بالعربية” على الفيس بوك.
هذا بالإضافة إلى حملات جيوش الذباب الإلكتروني الذين كانوا أكثر شراسة في التشويه والشيطنة وتخوين المقاومة وتحميلها مسؤولية القتل والدمار ووصل الأمر لاتهامها علانية بالإرهاب.
زيادة على ذلك، امتنعت السلطات السعودية من مساندة أهل غزة ولو بالدعاء، فلم تخصص خطب الجمعة لدعمهم والتذكير بقضيتهم ومنعت كذلك إقامة الخطب والمحاضرات في المساجد لإدانة الاحتلال، بل وصل الأمر لعدم السماح للناس بإظهار عواطفهم تجاه فلسطين أو الدعوة لمساعدتهم ولو على مواقع التواصل، والعديد من العلماء والنشطاء يقبعون في الزنازين بلا ذنب سوى أنهم عبروا عن تعاطفهم مع المقاومة.
تحول كامل في السياسة الخارجية
بالعودة إلى الموقف السعودي من التطورات في سوريا، يمكن القول إن الحكومة السعودية تعاملت معها ببراغماتية مثيرة للإعجاب إذ سرعان ما غيرت مواقفها إلى دعم الإدارة الجديدة في سوريا رغم أنها استقبلت الرئيس المخلوع قبل شهر من سقوطه.
وفي الآونة الأخيرة، شهدت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية العديد من التحولات الإيجابية بعد أن عكفت على مراجعة مواقفها العدائية التي لم تثمر إلا عن تعرض البلاد لمجموعة كبيرة من التهديدات مثل هجمات الحوثيين على منشآت النفط عام 2019.
في تلك الفترة كانت السعودية في حالة حرب مع الحوثيين في اليمن وعلاقاتها مقطوعة مع كل من قطر وإيران وكندا، كما تدهورت روابطها مع تركيا والمغرب.
لكن وبحسب مجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية تطورت السياسة الخارجية السعودية لتتخذ شكلًا من أشكال المشاركة البناءة وبناء الجسور مع القوى الإقليمية الأخرى على مدى السنوات الماضية، بعد أن كانت تعتمد على المواجهة والمشاكسات المكلفة غير المربحة.
وترى المجلة الأمريكية أن هذا التحول الذي تمثل في إصلاح العلاقات مع قطر وتركيا وإيران وكندا حدث بعد هجمات أرامكو التي أدت إلى تعطيل أكثر من نصف إنتاج النفط في المملكة وقرار الولايات المتحدة الامتناع عن الانتقام من إيران، لافتًة إلى أن الرياض بدأت جهودها الخاصة نحو إجراء محادثات غير مباشرة مع طهران لتهدئة التوتر.
لكن السعودية اتخذت مسار الدبلوماسية وتهدئة التوتر في العديد من الملفات الأخرى منذ ذلك الحين، فدخلت في مفاوضات مع الحوثيين في اليمن، لتبدأ مرحلة جديدة مختلفة كليًا عن عقد امتلأ بالصراعات سواء كانت عسكرية أو سياسية أو اقتصادية، وفقًا للمصدر السابق.
ويرى مدير الأبحاث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى باتريك كلاوسون أن “محمد بن سلمان عندما كان في منصب وزير الدفاع السعودي أراد أن يلعب دورًا نشطًا للغاية في المنطقة وكان هذا من ضمن أسباب تدخله في اليمن في 2015 واستمر في هذه السياسة بعد توليه منصب ولي العهد قبل أن يغير استراتيجيته لاحقًا وينسحب بهدوء ويصبح أكثر حذرًا في التعامل مع الملفات المختلفة”.
بيد أنّ مدير برامج الشرق الأوسط في معهد الولايات المتحدة للسلام بالعاصمة الأميركية واشنطن، سرهنك حمه سعيد، أرجع في حديثه مع موقع “الحرة” التحول في السياسة الخارجية للمملكة إلى “الرؤية الاقتصادية الطموحة” التي وضعتها السعودية لنفسها هي السبب في تغيير استراتيجيتها الخارجية.
وقال: “السعودية وضعت ‘رؤية 2030’ التي تريد فيها أن تعتمد على الاستثمار والسياحة وتنويع الاقتصاد، لكنها وجدت نفسها في منطقة غير مستقرة وهي نفسها تشارك في حروب وأزمات، وهذا جو سلبي لن يجذب المستثمرين ولا السياح، خاصة أنها كانت تهدر مواردها في نزاعات مسلحة بدلا من البناء ويجعلها مشغولة عن تنفيذ أهدافها الطموحة. كل هذا جعلها تغير من استراتيجيتها وبناء صورة لها بأنها دولة محورية بالشرق الأوسط لها علاقات جيدة مع القوى الإقليمية الأخرى ومتواجدة في المحافل الدولية الكبرى”.
إلى حدٍ كبيرٍ يبدو حديث مدير برامج الشرق الأوسط في معهد الولايات المتحدة للسلام أقرب للصواب، فالتحول المفاجئ في الموقف السعودي من تبني الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى دعم الإدارة الجديدة ربما يمكن فهمه من باب السعي إلى لعب دور محوري في سوريا الجديدة، فضلًا عن تطلع المملكة إلى الفرص المستقبلية للاستثمار في سوريا.
أما موقف السعودية من غزة الذي سبق لنا التطرق إليه فالتفسير الأقرب هو أن القضية الفلسطينية لا تهم الحاكم الفعلي للمملكة الأمير محمد بن سلمان كما جاء في موقع “ذا أتلانتيك”.
جاء في تقرير للموقع أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أبلغ وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن، خلال لقاء جمعهما في يناير/ كانون الثاني من العام الماضي في السعودية، أن القضية الفلسطينية “لا تهمه شخصيًا”.
بحسب التقرير فقد أوضح ابن سلمان لـ بلينكن أن “هذه القضية مهمة بالفعل لشعبه، ولذلك فهو يطالب بإحراز تقدم في هذه القضية كشرط لاتفاق التطبيع مع إسرائيل”.
وأوضحت الموقع أن بلينكن حاول “إحياء جهود التطبيع مع إسرائيل، وهي الجهود التي وصلت إلى ذروتها قبل هجمات حماس مباشرة، وتوقفت منذ ذلك الحين”، وبيّن أن “بلينكن سأل ابن سلمان عما يحتاج إلى أن تفعله إسرائيل للمضي قدمًا في الصفقة، وأجاب ابن سلمان بأن الشيء الأكثر أهمية بالنسبة له هو الهدوء في غزة”.
ابن سلمان ينظر لـ”إسرائيل” كحليف
ورد أيضًا أن بلينكن سأل عما إذا كان بإمكان السعوديين الموافقة على غارات متكررة لجيش الاحتلال داخل قطاع غزة من أجل “إحباط البنية التحتية الإرهابية هناك”، فأجاب ابن سلمان: “يمكنهم العودة بعد ستة أشهر، بعد عام، لكن ليس لحظة بعد توقيعنا على شيء من هذا القبيل”.
يذكر أن ولي العهد السعودي قال في تصريحات شهيرة للموقع ذاته في مارس/آذار 2022، إن المملكة “تنظر إلى إسرائيل كحليف محتمل”، في حال قامت بحل المشاكل مع الفلسطينيين.
وقال ابن سلمان حينها: “لا ننظر إلى إسرائيل كعدو، بل كحليف محتمل في العديد من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معًا، لكن يجب أن تحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك”.
خلاصة الأمر، يمكن القول إن الأمير محمد بن سلمان الحاكم الفعلي للسعودية قاد تحولًا براغماتيًا كاملًا في السياسة الخارجية لبلاده بعد أن ثبت له فشل سياساته الأولى القائمة على افتعال المشاكل والعداوات ربما بسبب تهوره واندفاعه وافتقاده الخبرة الكافية، لكن هذه التحولات لم تشمل القضية الفلسطينية وهذا ما يفسر مواقف المملكة من غزة.
مما لا شك فيه أن ولي العهد السعودي يدرك تمامًا مكانة المملكة الدينية كموطن للحرمين ومهوى أفئدة المسلمين، وقائدة للعالم الإسلامي، كما يدرك أيضًا تاريخ ملوك السعودية ومواقفهم المشرفة في نصرة فلسطين وشعبها، خاصة الملك فيصل بن عبد العزيز الذي لم يألُ جهدًا في دعم فلسطين بكل الوسائل المتاحة وأهمها النفط.
لكن ابن سلمان اختار أن يتبنى موقفًا مترددًا ومزدوجًا بل مخزيًا من القضية الفلسطينية ظاهره التنديد بجرائم الاحتلال في غزة ودعم قضية جنوب أفريقيا ضد “إسرائيل”، بينما يسلط وسائل إعلامه لتشويه المقاومة ووصف قادتها بالإرهابيين، وفي الوقت نفسه ليس لديه مانع من التطبيع مع الكيان المحتل الذي ينظر إليه كحليف محتمل وليس كعدو.