يوم بعد آخر تشغل التكنولوجيا حيزًا جديدًا من مجالات الحياة، فلا نكاد نرى جانبًا منها إلا وقد تم أتمتته وحوسبته، وفي العقد الأخير كان للخوارزميات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي الأثر الواضح والكبير في التقدم التكنولوجي الذي نعاصره.
التطور الكبير الذي شهدناه في تقنيات الذكاء الاصطناعي كان بسبب الكميات الهائلة من البيانات التي يتركها المستخدمون، فأي جهاز نستخدمه ويكون متصلاً بالإنترنت – سواء كان حاسوبًا أم هاتفًا ذكيًا أم أجهزة إنترنت الأشياء – يُخَلِف وراءه قدرًا كبيرًا من البيانات، هذه البيانات الضخمة تتطلب مراكز لاستيعابها وتخزينها، وهي مصدر ثروة كبيرة للشركات، إذ تستفيد منها الشركات بتحليل سلوك المستخدمين والتنبؤ بحاجاتهم وتطلعاتهم.
تشمل مراكز البيانات أنواعًا مختلفة من المعدات، بما في ذلك الخوادم ووحدات التخزين الخارجية وأنظمة الشبكات
ومع استمرار تطور التكنولوجيا أكثر فأكثر، أصبحت الحاجة إلى مراكز لاستيعاب كمية البيانات الكبيرة هذه أكثر وضوحًا.
تُعرف مراكز البيانات بأنها مستودعات مركزية ضخمة توفر معدات الحوسبة، تستخدم الشركات والمؤسسات في جميع أنحاء العالم هذه المعدات لتخزين المعلومات وإدارتها ومشاركتها، ومع استمرار نمو صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، يزداد الطلب على مراكز البيانات على نطاق واسع، وتشمل مراكز البيانات أنواعًا مختلفة من المعدات، بما في ذلك الخوادم ووحدات التخزين الخارجية وأنظمة الشبكات.
إذًا المعادلة تكون كالآتي: لتحقيق تطور أكبر في المجال التكنولوجي هنالك حاجة لبيانات أكثر، والبيانات الكبيرة تحتاج لمراكز متطورة لحفظها ومعالجتها، وهذه المراكز تحتاج لبيئة مناسبة وتستهلك قدرًا كبيرًا من الطاقة، وبالتالي ستترك أثرًا سلبيًا واضحًا على التغيّر المناخي، وهذا ما سيبينه هذا التقرير.
أجهزة الكمبيوتر في مراكز البيانات تعمل بطاقاتها القصوى ودون توقف، وبسبب عملها المستمر تصبح المكونات المادية للحواسيب شديدة الحرارة، لذا يجب وضع أنظمة تبريد لضمان عدم ارتفاع درجة حرارتها واستمرارها في العمل، وتبريد هذه الكميات الوفيرة من أجهزة الكمبيوتر يتطلب استخدام كميات كبيرة من الطاقة المتولدة من حرق الوقود الأحفوري، الأمر الذي يضيف بدوره المزيد من انبعاثات الكربون إلى الجو.
عالميًا تستهلك مراكز البيانات الآن ما يصل إلى 8% من إجمالي استهلاك الطاقة العالمي، ومن المتوقع أن تصل إلى 14% بحلول عام 2020
توقع مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، أنه بحلول عام 2020، سيرتفع استهلاك الكهرباء في مركز البيانات الأمريكي إلى نحو 140 مليار كيلووات/ساعة سنويًا، وهو ما يعادل استهلاك مدينة متوسطة الحجم، وعالميًا تستهلك مراكز البيانات الآن ما يصل إلى 8% من إجمالي استهلاك الطاقة العالمي، ومن المتوقع أن تصل إلى 14% بحلول عام 2020.
يشير مقال نُشر مؤخرًا في مجلة Nature إلى أن مراكز البيانات تستخدم حاليًّا ما يقدر بنحو 200 تيراواط من الكهرباء سنويًا، وتبلغ كلفة إنتاج الطاقة اللازمة لمراكز البيانات في الولايات المتحدة الأمريكية 13 مليار دولار، وهذا يعني أن مراكز البيانات ستنتج ما يقرب من 150 مليون طن متري من انبعاثات الكربون في السنة، وهو يساوي التلوث الذي تنتجه 50 محطة توليد كهرباء تعمل بالفحم.
مع استمرار صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الازدهار واستمرار زيادة الطلب على مراكز البيانات على نطاق واسع، نحتاج إلى النظر في البصمة الكربونية لهذه المرافق
تهديد بيئي
تضعنا هذه الحقائق أمام تهديد بيئي حقيقي تنتجه مراكز البيانات وحدها، وهذا هو السبب في أن العديد من الشركات والمؤسسات تبذل قصارى جهدها لتغيير هذه الحقائق، فمع استمرار صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الازدهار واستمرار زيادة الطلب على مراكز البيانات على نطاق واسع، نحتاج إلى النظر في البصمة الكربونية لهذه المرافق.
ووفقًا لوكالة حماية البيئة (EPA)، تم تحديد ثاني أكسيد الكربون على أنه أكثر الأنشطة البشرية التي تسبب زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري، فقد أدت الزيادة في ثنائي أكسيد الكربون الناتج عن النشاط البشري إلى تغيير أنماط المناخ والطقس على المستوى العالمي.
البصمة الكربونية العالمية لصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تمثل أكثر من 2% من انبعاثات الكربون العالمية، وهذا مشابه لانبعاثات الوقود الناتج من صناعة الطيران، وبحلول عام 2020، تشير التقديرات إلى أن صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات سوف تمثل 3.6% من إجمالي بصمة الكربون العالمية.
أثارت هذه الإحصاءات المثيرة للقلق الاهتمام الدولي في الحد من انبعاثات الكربون في مراكز البيانات، وبالفعل بدأت عدة شركات كبرى في السعي لتقليل انبعاثات الكربون عبر الحد من استهلاك الطاقة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي أيضًا لإيجاد أفضل السبل لتقليل انبعاثات الكربون والاتجاه نحو مراكز بيانات صديقة للبيئة.
بغية تحسين كفاءة مراكز البيانات وتقليل استهلاكها للكهرباء، استعانت جوجل بخوارزميات الذكاء الاصطناعي مرة أخرى
خطوات إيجابية
وعلى إثر التحذيرات التي أطلقتها المراكز المهتمة بالحفاظ على البيئة عن مساهمة مراكز البيانات في ترك أثر سلبي في البيئة، اتخذت عدة شركات خطوات سريعة للتعامل مع هذه التحذيرات، حيث قامت عملاق محركات البحث “جوجل” باتخاذ خطوات إيجابية في هذا المسار، إذ اتخذت ثلاثة تدابير ساهمت بشكل كبير في تقليل استهلاك مراكز البيانات خاصتها للطاقة ورفع مستوى كفاءتها.
فيما يتعلق بتبريد الحواسيب، تحولت جوجل إلى إعادة بناء مراكز بياناتها في أعماق البحر للاستفادة من برودة المياه والابتعاد عن أنظمة التبريد التي تستهلك قدرًا كبيرًا من البيانات، إذ أنشأت أول مراكزها الكبيرة العاملة بهذه التقنية في مدينة هامينا بفنلندا، كما أنها أنشأت في مراكز أخرى محطات لجمع مياه المطر واستخدامها أيضًا في مجال التبريد، وبغية تحسين كفاءة مراكز البيانات وتقليل استهلاكها للكهرباء، استعانت جوجل بخوارزميات الذكاء الاصطناعي مرة أخرى.
باستخدام سنوات من البيانات التاريخية (مثل درجة الحرارة والطاقة وسرعة نقل البيانات) التي تم جمعها من مستشعرات مركز البيانات، قلل نظام الذكاء الاصطناعي للتعلم الذاتي من DeepMind مقدار الطاقة التي تستهلكها الخوادم
إذ تعمل هذه الخوارزميات على تشخيص نظام عمل مراكز البيانات وتغييره للعمل بشكل أكثر كفاءة، وبينما تعمل هذه الأنظمة الذكية الصناعية، فإنها تتعلم وتتطور لضمان إنتاجية أكبر.
قال رالف بريمر، مدير مركز الاتصالات في جوجل الاتصال: “منذ البداية، كانت جوجل شغوفة بالطاقات المتجددة وفي عام 2007، أصبحنا محايدين للكربون من خلال شراء الطاقات المتجددة والاستثمار في برامج تعويض الكربون، مثل زراعة الأشجار والاستثمار في الرياح والطاقة الشمسية”.
وفي تصريح له مع قناة “دي دبليو” قال: “نحن واثقون من القول إننا سننفق هذا العام 100% على مصادر الطاقة المتجددة”، وأوضح أن برنامج Google AI DeepMind الرائد استعانت به الشركة لحل مشاكل استهلاك الطاقة.
باستخدام سنوات من البيانات التاريخية (مثل درجة الحرارة والطاقة وسرعة نقل البيانات) التي تم جمعها من مستشعرات مركز البيانات، قلل نظام الذكاء الاصطناعي للتعلم الذاتي من DeepMind مقدار الطاقة التي تستهلكها الخوادم من خلال التحكم في أنظمة التبريد بالمركز بشكل أفضل من تحكم الإنسان.
إذ قلل البرنامج من استهلاك الطاقة في مراكز البيانات الخاصة به في جميع أنحاء العالم، حيث خفض نحو 40% من الطاقة المستخدمة في التبريد ونحو 15% من إجمالي استخدام الطاقة، كما أن نظام التعلم العميق نفسه زاد من قدرة أجهزة الحوسبة بنحو 3 أضعاف.
تسعى الشركة إلى طموحها في الاعتماد على الطاقة النظيفة بنسبة 70% بحلول عام 2023 عبر محطات الطاقة الشمسية، وتقليل النفايات والانبعاثات من خلال مبادرة سحابة جديدة “تعتمد على البيانات”
شركة مايكروسوفت من جهتها أعلنت التزامها بخفض انبعاثات الكربون التشغيلية بنسبة 75% في السنوات الـ11 القادمة، وأوضح رئيس الشركة براد سميث الخطوات التي ستتخذها مايكروسوفت “لمواجهة تحديات الاستدامة “بطريقة “التكنولوجيا أولًا” التي سيتضمن بعضها الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وقال سميث: “لقد أوضح حجم وسرعة التغيرات البيئية في العالم أنه يجب علينا بذل المزيد من الجهد، ونحن نتخذ خطوات جديدة للقيام بذلك”.
وتسعى الشركة إلى طموحها في الاعتماد على الطاقة النظيفة بنسبة 70% بحلول عام 2023 عبر محطات الطاقة الشمسية وتقليل النفايات والانبعاثات من خلال مبادرة سحابة جديدة “تعتمد على البيانات” ستستخدم أجهزة إنترنت الأشياء (IoT) وتكنولوجيا blockchain والذكاء الاصطناعي لمراقبة الأداء وإعادة تدوير الأجهزة الخاصة بمراكز البيانات.
بالإضافة إلى ذلك، تقول مايكروسوفت إنها ستطلق برنامجًا لتنقية المياه بحلول عام 2030، لأجل المساهمة في الحصول على مياه نقية تستهلكها في المناطق التي توجد بها مراكز البيانات وتستهلك الكثير من المياه لغرض التبريد.
كما تبين مايكروسوفت أنها ستستضيف “مجموعات علوم البيانات البيئية الحكومية” التي تحتوي على كميات كبيرة من الصور الساتلية والجوية على نظامها السحابي، بهدف دعم عمل الباحثين في جميع أنحاء العالم.
تمتلك آبل أكبر شركة لتركيب الطاقة الشمسية، وقد بلغت الشركة ما يقرب من 100% من اعتمادها على الطاقة النظيفة في استهلاك مراكز البيانات التابعة لها
أخيرًا، أعلنت شركة مايكروسوفت انضمامها إلى مجلس قيادة المناخ وهي منظمة دولية تم إنشاؤها لتطوير نهج وطني لتسعير الكربون.
كما اتخذت الشركات الأخرى مثل آبل وفيسبوك طرقًا مبتكرةً للحد من استهلاك مراكز البيانات للطاقة، من خلال تغيير طريقة تشغيل مراكز البيانات الخاصة بهم، وتتطلع الشركتان إلى تقليل انبعاثات الكربون الخاصة بهم.
تمتلك أبل أكبر شركة لتركيب الطاقة الشمسية، وقد بلغت الشركة ما يقرب من 100% من اعتمادها على الطاقة النظيفة في استهلاك مراكز البيانات التابعة لها، ويستخدم مركز بيانات فيسبوك في ولاية آيوا التي تقع في الغرب الأوسط للولايات المتحدة، طاقة الرياح لتجهيز مركز البيانات الخاص به بالطاقة، وتعهدت الشركة بالوصول إلى 100% من الاعتماد على الطاقة النظيفة في 2020.