انتاب كلود شانون شعور بالفزع بعدما أصبحت نظرية المعلومات رائجة جدًا، في غضون عامين من نشر ورقته البحثية التي كانت بمثابة “مانفيستو الثورة الرقمية”، وقد نظّر لهذه الثورة في خضم واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ البشرية الحديث، وشكل بالتالي اللبنة الأساسية للنشاط الفكري خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
لذا لا تنسى وأنت تفتح جيبك الرقمي لشراء ما تعرضه تلك المتاجر الموجودة بهاتفك الذكي، أو تتقفى خطوات البعيدين عنك بمسافات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، أن هذه الثورة الرقمية تستند أساسًا على نتائج أبحاث العالم الأمريكي كلود شانون بمعية زميله وران ويفر، لأن أعمالاً من هذا النوع تظهر فقط خلال عقد واحد من كل قرن.
فأر شانون الإلكتروني: المحاولات الأولى لتعليم الآلة من التجارب المبكرة في الذكاء الاصطناعي
اخترع نظام تلغراف لأصدقائه
بدأ الطفل كلود تجاربه العلمية في المنزل بعدما عشق الرياضيات والعلوم في المدرسة، ثم صنع بعض الأدوات البسيطة كنماذج للطائرات، وأسس نظام تلغراف لمنازل أصدقائه على بعد نصف ميل.
ولد شانون في الـ30 من أبريل 1916 في بتوسكي مشيغان بالولايات المتحدة الأمريكية، من والد امتهن القضاء لفترة من الزمن، ليصبح فيما بعد رجل أعمال، في حين تنحدر والدته من أب ألماني وكانت تعمل مدرسة لغة.
تمثال كلود شانون في ميشغان
انضم شانون خلال الحرب العالمية الثانية إلى مختبرات بل أبحاث الهاتف، وانكب على دراسة المشكلات الهندسية لإرسال الإشارات، ونشر عام 1949 نتائج البحث الذي أجراه للمختبر، وكانت هذه النتائج أساس نموذج شانون وويفر للاتصال، بحيث شكلت ثورة في مجال الاتصالات ولذلك عرف شانون بـ”أب نظرية المعلومات”.
كانت بحوث شانون في مختبرات بيل، خلال الحرب، قائمة على تشكيل البيانات ومعالجة الإشارات، وكان كل هذا مبشرًا بقدوم عصر المعلومات، أما بعد الحرب فكانت إسهاماته تتمة لأبحاثه التي قضى جُلّ وقته في تطويرها، إذ طور إنتروبيا المعلومات كمقياس للشك في الرسالة، بينما كان في الأساس يخترع حقل نظرية المعلومات، وعلاوة على ذلك، ساهمت نظرية المعلومات بشكل أساسي في تأسيس علم اللغة الحسابي ومعالجة اللغة الطبيعية.
كيف نرسل رموز التواصل بدقة؟
يشمل التواصل من منظور شانون جميع أنماط السلوك البشري ولا يقتصر على الكلام الشفهي والمكتوب، وإنما يتجاوز ذلك ليشمل الموسيقى والفنون التصويرية والمسرح والرقص، واقترح هذا العالم في نفس الوقت عناصر المذهب الرياضي التي عرفت انتشارًا واسعًا منذ ذلك الحين كوحدة قياس فعالة للتواصل وأكثر عمومية.
يمكن أن تتألف الرسالة المختارة من كلمات مكتوبة أو منطوقة أو صور أو موسيقى وغيرها، يحولها المرسل إلى إشارة يتم إرسالها عبر قناة تواصلية من المرسل إلى المتلقي
اهتمت النظرية الرياضية للمعلومات بدراسة ثلاثة مستويات من مشاكل التواصل، حيث يطرح المشكل الدلالي أسئلة: كيف يمكننا إرسال رموز التواصل بدقة؟ وكيف يمكن إرسال المعنى المرغوب بدقة؟ وكيف يؤثر المعنى الوارد بفعالية على عملية إرسال المعنى المطلوب؟ حيث يتعلق هذا السؤال بمشكل الفعالية.
إلا أن النظرية تنطبق بشكل واضح على المشكلة التقنية فيما يتعلق بدقتها في إرسال مختلف أنواع الإشارات من المرسل إلى المتلقي، إذ ترتبط المشاكل التقنية بدقة الإرسال من المرسل نحو المتلقي، سواء تعلق الأمر بسلسلة من الرموز، كما هو الشأن بالنسبة للخطاب المكتوب، أم تعلق بإشارة متغيرة بطريقة مستمرة، بالنسبة لإرسال الصوت أو الموسيقى عبر الهاتف أو الراديو، أم تعلق بنموذج ثنائي الأبعاد مستمر، كما هو الشأن بالنسبة لجهاز التلفاز وغيره من الشاشات.
نموذج شانون وويفر للتواصل
يختار مصدر المعلومات الرسالة المرغوبة ضمن سلسلة من الرسائل المتاحة، كما يمكن أن تتألف الرسالة المختارة من كلمات مكتوبة أو منطوقة أو صور أو موسيقى وغيرها، يحولها المرسل إلى إشارة يتم إرسالها عبر قناة تواصلية من المرسل إلى المتلقي.
ففي حالة الهاتف، القناة هي سلك توصيل والإشارة هي تيار كهربائي متغير يمر عبر هذا السلك، بينما المرسل عبارة عن مجموعة من الأجهزة التي تضغط الصوت وتحوله إلى تيار كهربائي متغير، بينما في حالة التلغراف، يقوم المرسل بتشفير الكلمات المكتوبة على شكل تسلسلات من التيار الكهربائي المتغير والمتقطع (نقط، خطوط، فراغات)، أما بالنسبة للخطاب الشفوي، فمصدر المعلومات هو العقل والمرسل هو العضو الصوتي الذي ينتج ضغطًا صوتيًا متغيرًا (الإشارة) الذي يتم إرساله عبر الهواء (القناة)، أما بالنسبة للراديو فالقناة هي فراغ – أو أثير بالنسبة للذين يفضلون هذا المصطلح القديم والمغلوط – بينما الإشارة هي عبارة عن موجة كهرومغناطيسية منقولة.
المعلومات تقاس بواسطة الإنتروبيا
مع الأسف خلال عملية التواصل، تنضاف عناصر غير مرغوب فيها إلى الإشارة، ويمكن أن تكون هذه الإضافات عبارة عن تشوهات تلحق الصوت في الهاتف أو إليكتروستيتاتيك في الراديو أو عبارة عن تشوهات في الشكل أو حجبٍ للصورة في الشاشة، كما يمكن أن تتسبب هذه التشوهات في أخطاء على مستوى عملية الإرسال بالنسبة للتلغراف أو الفاكس، إلخ، كل هذه الإتلافات التي تلحق الاشارة المرسلة تسمى “التشويش”.
قال شانون: “الجوانب الدلالية للتواصل لا تقوم على جوانبها التقنية”، لكنه لم يعن بذلك أن الجوانب التقنية لا تتدخل في الجوانب الدلالية، لأن مصطلح المعلومة في الواقع ليس مرتبطًا بما يقال، أو بالأحرى مع ما يمكن أن يقال. ذلك أن المعلومة عبارة عن قياس لحرية الفرد عندما يختار الرسالة، وتشير وحدة قياس المعلومة في هذه الوضعية إلى نوع من الحرية في اختيار الرسالة، التي يمكن اعتبارها كدرجة معيارية أو وحدة قياسية.
العدد الثنائي كوحدة لقياس المعلومة
تسمى وحدة قياس المعلومة بـ”البت bit” حيث اقترحت هذه التسمية من طرف جون توكي John W.Tukey وهي عبارة عن تكثيف لـ”العدد الثنائي” binary digit الذي يعبر عن الرسالة بنظام ثنائي وهما رقمان فقط 0 و1. وقد يبدو غريبًا لأول وهلة أن يتحكم لوغاريتم عدد من الخيارات في تحديد المعلومة، ولكن فيما يخص تطوير هذه النظرية، يصبح من الواضح جدًا أن القياس اللوغاريتمي هو الأنسب.
إن الكمية اللازمة بدقة لتأسيس المعلومة تتوافق تمامًا مع مفهوم الدينامية الحرارية للإنتروبيا، التي يتم التعبير عنها بمختلف الاحتمالات، أي تلك التدابير اللازمة من أجل تحقيق مراحل معينة من عملية تشكيل الرسائل والاحتمالات، وترتبط الإنتروبيا في مجال العلوم الفيزيائية، بوضعية معينة من قياس درجة “العشوائية” أو بالأحرى درجة “الفضوية” لهذه الوضعية، ذلك أن ميل الأنظمة الفيزيائية للفوضى أو لتصل إلى حالة الاختلال التام، يمكن أن يكون أساسيًا كما أوحى بذلك عالم الفيزياء والفلك والرياضيات آرثر ستانلي إدنغتون من أجل أن يمنح للزمن معنى، وبما أن المعلومات تقاس بواسطة الإنتروبيا، وهو أمر طبيعي عندما نتذكر أن هذه المعلومة في نظرية التواصل مرتبطة بحرية الاختيار التي نملكها في صياغة الرسائل.
بعد احتساب الإنتروبيا أو المعلومة أو حرية الاختيار من مصدر معين، يمكننا مقارنتها بأقصى قيمة يمكن أن نحصل عليها، شريطة أن يكون المصدر لا يزال يستخدم نفس الرموز، ومن المثير للاهتمام ملاحظة أن التكرار في اللغة الإنجليزية يمثل نحو 50%، أي أن نصف الحروف أو الكلمات التي نستخدمها في الكتابة أو التواصل الشفهي تعتمد على اختيارنا الحر، بينما النصف الآخر تتحكم فيه البنية الإحصائية للغة.
شانون والحاسوب الضخم
يبدو التشويش مفيدًا!
يجب أن نتذكر دائمًا أن المعلومة تقيس حرية اختيار الرسالة، فإذا كانت حرية الاختيار كبيرة فإن المعلومة ستكون بالتالي كبيرة أكثر ويتم اختيار الشك في الواقع كرسالة استثنائية، وهكذا فإن حرية أكبر في الاختيار تعني مزيدًا من الشك ومزيدًا من المعلومات المترابطة.
إذا وجد التشويش منفذًا للدخول، فإن الرسالة الواردة ستلحقها تشوهات وأخطاء، أو أن المادة الدخيلة هذه المرة تشير إلى أن الرسالة تتضمن نسبة زائدة من الشك، هي في الواقع بسبب التشويش، لكن إذا تضاعفت نسبة الشك والمعلومات أيضًا، فإن التشويش سيبدو بالتالي مفيدًا!
يمكننا إذًا إزالة الغموض بالقول إن الإشارة الواردة تتضمن المزيد من المعلومات، لكن بعضًا من هذه الأخيرة المدخلة بواسطة التشويش مزيفة وغير مرغوب بها، وللحصول على معلومات مفيدة في الإشارة الواردة، يجب خصم هذا الجزء المزيف.
شانون في لقاء مع قناة CBSبشأن “تفكير الآلة”
تستند النظرية الرياضية للتواصل على أساس علم التشفير وتميل إلى العمومية، فهي عميقة بشكل كافٍ يكشف انطباقها على كل أشكال التواصل، سواء كانت حروفًا أم كلمات مكتوبة أم نوتات الموسيقية أم كلمات منطوقة أم موسيقى سمفونية أم صورًا، كما ترتبط أفكارها مع مشكل التصميم المنطقي للحواسيب الكبرى، فليس من المستغرب في ذلك الوقت أن يكتب شانون مقالاً عن نموذج الحاسوب القادر على لعب الشطرنج بمهارة عالية، ويدعو إلى مراجعة المعنى التقليدي لفعل التفكير، في حالة رفضنا لمثل هذا الحاسوب القادر على التفكير.