يؤكد باحثو الموسوعة الإسلامية التركية أن نظام التعليم في الدولة العثمانية، تأثر ببعض الأساليب التي كانت مستخدمة في الدولة السلجوقية، كما تأثر أيضًا بنظام التعليم في المراكز الثقافية آنذاك مثل بغداد والقاهرة ودمشق، ثم قام العثمانيون بالتوفيق بين هذين الرافدين، وأسسوا نظامًا تعليميًا خاصًا يليق بطبيعة دولتهم.
يذكر الباحث شهاب الدين تكين دوغا في ورقته البحثية المعنونة بـ”عصر المدارس”، أن النظام التعليمي ينقسم إلى شكلين: الأول، الذي أسسه السلطان الفاتح، وكانت تقتصر الدراسة في مدارسه على دراسة الإلهيات والحقوق والأدب، والثاني، الذي أسسه السلطان القانوني، وكان يهتم بدراسة الطب والفنون إلى جانب دراسة الإلهيات والحقوق والأدب.
أكثر المراحل التي ازدهرت فيها المدارس العثمانية كان في عهد السلطان سليمان القانوني
وكما ذكر الباحث نافي عطوف كانسو في “تاريخ المعارف التركية”، فإن الإمبراطورية العثمانية اهتمت بتأسيس المدارس الدينية، وتأسيسها بدأ في مرحلة مبكرة من عمر الدولة، إلا أن الشكل النهائي الذي استقرت عليه لقرون، بدأ منذ عهد السلطان الفاتح الذي افتتح مدرسة “الصحون الثمانية” في جامع الفاتح، وسُمّيت بهذا الاسم لأنها تتكون من ثماني مدارس.
ووفق المؤرخ شرف الدين يالت كايا في بحث له بعنوان “المدارس قبل التنظيمات وبعدها”، فإن أكثر المراحل التي ازدهرت فيها المدارس العثمانية كان في عهد السلطان سليمان القانوني، حيث افتتح القانوني مدرسة كبيرة عُرفت بالسليمانية، وتتميز عن المدرسة التي أنشأها السلطان الفاتح بأن بها مدرسة للطب، تعرف باسم “دار الشفاء”، كما تتميز أيضًا بأنها لم تقتصر على التعليم الديني فقط، لكنها تتضمن أربع مدارس صغيرة لتعليم بعض العلوم الطبيعية.
المدارس العثمانية شهدت انضباطًا بالغًا في الهيكل التعليمي وطرق التدريس
وعادة ما كان يعمل المتخرج في هذه المدارس مستشارًا لمفتٍ أو معلمًا أو قاضيًا، أو طبيبًا إذا تخرج من دار الشفاء، بطبيعة الحال، ويرى المؤرخ محمد أمين في بحث بعنوان “تاريخ التدريس” أن المدارس العثمانية شهدت انضباطًا بالغًا في الهيكل التعليمي وطرق التدريس، واستمر الأمر هكذا حتى الفترة التي شهدت ضعف الدولة قبل انهيارها، وكان المعلمون يحظون باحترام الدولة والشعب معًا، وكان يُطلق عليهم “ملازم” و”مولا” و”محدث” و”فقيه” و”علامة”.
يؤكد أمين وجود بعض المدارس الداخلية أيضًا في الدولة العثمانية، والدولة هي التي كانت تنفق على طلابها الذين يدرسون ويعيشون في هذه المدارس، ويوضح المؤرخ إسماعيل حقي تشارشيلي في كتابه “التاريخ العثماني” أن الأسبوع الدراسي كان أربعة أيام، وكان الطلاب يدرسون اللغة العربية مع التركية، ومنذ عام 1720 بدأ تدريس الفارسية أيضًا، وكان شيخ الإسلام هو الذي يشرف على إدارة المدارس بنفسه.
المراحل التعليمية كانت تبدأ بما يُعرف بـ”مكتب الصبيان” وهو ما يعادل المدرسة الابتدائية حاليًّا
ويذكر تشارشيلي أن المراحل التعليمية كانت تبدأ بما يُعرف بـ”مكتب الصبيان” وهو ما يعادل المدرسة الابتدائية حاليًّا، وبحسب الباحث عطوف كانسو، في الموسوعة السالف ذكرها، فإن الغاية الأساسية لهذه المدرسة كانت تعليم الأبجدية العربية والقرآن والتجويد وأساسيات الدين للأطفال، وكان المفتون يديرون هذه المدارس بالرجوع إلى شيخ الإسلام.
ويضيف كانسو أنه بعد وصول الطفل إلى سن الرابعة، يقيم أهله احتفالاً له ثم يرسلونه إلى المدرسة، ولم يكن هناك وقت محدد لسنوات الدراسة في مكتب الصبيان، وكانت هناك بعض المدارس للصبيان فقط وبعض المدارس المشتركة، وكان المعلمون إما من خريجي نفس هذه المدارس أم من الذين يعرفون علوم القرآن.
وبحسب المؤرخ شرف الدين يالت كايا، في بحثه المذكور سلفًا، فإن السلطان عبد الحميد الأول افتتح العديد من مكاتب الصبيان عام 1781، وأضاف إليها دروسًا للخط إلى جانب المواد السابقة، واستمر نظام التعليم في مكتب الصبيان القائم على تدريس الدين والأخلاق حتى القرن الـ19، ثم حدثت تغيرات لاحقة بعد دخول الدولة في عصر التنظيمات ومحاولة تبني العثمانيين للحداثة الغربية.
كانت هناك بعض المدارس داخل السراي من أجل تعليم أبناء السلطان وتعليم الأطفال الذين سيصبحون رجالاً للدولة في المستقبل
وإلى جانب مكتب الصبيان، كانت هناك بعض المدارس داخل السراي من أجل تعليم أبناء السلطان وتعليم الأطفال الذين سيصبحون رجالاً للدولة في المستقبل، وكانت أبرز مدارس السراي، ما يُعرف بـ”أندرون”، وبحسب الموسوعة التركية الإسلامية، فإن مدرسة الأندرون تشكلت في عهد السلطان مراد الثاني وازدهرت في عهد السلطان الفاتح، وكانت مدة الدراسة بها تستغرق 14 عامًا.
كان يتم اختيار المعلمين لمدارس الأندرون بشكل دقيق من كبار علماء الدين والمعلمين البارزين في الإمبراطورية، وتتميز الأندرون عن مكاتب الصبيان بالدروس العسكرية ورسم الخرائط ودروس التاريخ والسياسة والخط والتذهيب والمنمنمات والموسيقى. وكانت دروس القرآن وتعلم قراءة وكتابة التركية ودروس الدين إجبارية، أما الدروس الأخرى فبحسب موهبة كل طفل.
كما شهدت السراي أيضًا وجودًا لنوع آخر من المدارس، مثل “مشك هانه” لتعليم الموسيقى، وكان خريجو هذه المدرسة يعملون كعازفين في السراي.
في المرحلة التي سبقت عصر التنظيمات، يذكر المؤرخ شرف الدين يالت كايا في بحثه عن المدارس قبل التنظيمات وبعدها، أنه بدأ التغير في نظام التعليم العسكري وفقًا للحداثة الغربية، وتم افتتاح مدرسة عسكرية أنشأها ضابط فرنسي عام 1734 في إسطنبول، وبعد إعلان دخول عصر التنظيمات عام 1839 ظهر أثر محاولات التغريب على نظام التعليم العثماني بأكمله، فتم إرسال بعثات إلى أوروبا، وبدأت المراحل التعليمية تنقسم إلى المراحل الثلاثة المتعارف عليها اليوم.
افتتحت أول جامعة وهي “دار الفنون” عام 1865، وفيها ثلاث كليات
ويرى الباحث سليمان كارا تاش، في بحث له بعنوان “التغريب في نظام التعليم العثماني”، أنه تم افتتاح مدارس لتعليم طرق التدريس في هذه المرحلة، وافتتحت أول جامعة وهي “دار الفنون” عام 1865، وفيها ثلاث كليات. وافتتحت أيضًا أول مدرسة إعدادية للفتيات، وفي عام 1868 اعتمد نظام التعليم الفرنسي في الدولة العثمانية، وفي هذا السياق، كانت الخطوة الأهم في هذه المرحلة هي افتتاح مدرسة جلاطة سراي الثانوية الشهيرة، الموجودة حتى الآن في شارع الاستقلال بإسطنبول، تأثرًا بنموذج مدرسة الليسيه الفرنسية، وكان تدريس المواد فيها باللغة الفرنسية.
ويرى تاش أنه في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ارتفع عدد المدارس ومعاهد إعداد المعلمين بشكل كبير، وأصبح التعليم مجانيًا وصارت المرحلة الابتدائية إلزامية، كما أصبح من حق جميع الطوائف فتح المدارس الخاصة بها. وفي العصر المعروف بالمشروطية الثانية عام 1908، وهي المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، افتتحت العديد من المدارس الخاصة، كما شهدت هذه المرحلة نقاشات جذرية بشأن نظام التعليم، مثل مسألة استخدام الحروف اللاتينية بدلاً من العربية.
حسم أتاتورك، الجدل الدائر بشأن هوية تركيا، وأصبح نظام التعليم على الطراز الأوروبي بشكل تام
جدير بالذكر أن افتتاح العديد من المدارس الخاصة وفق أنظمة تعليمية مختلفة خلال هذه المرحلة، يرجع بطبيعة الحال إلى النقاشات التي عاشتها تركيا خلال تلك الفترة عن القومية التركية ومسألة استمرارية علاقة تركيا الثقافية مع محيطها العربي أو التوجه إلى الغرب.
وأخيرًا، بعد إعلان الجمهورية التركية، كما ذكر سليمان كارا تاش في بحثه السالف ذكره، فقد حسم مصطفى كمال أتاتورك، الجدل الدائر بشأن هوية تركيا، وأصبح نظام التعليم على الطراز الأوروبي بشكل تام، وتم جلب كثير من المعلمين الأوروبيين للتدريس في المدارس التركية، كما أُرسلت البعثات للمعلمين الأتراك إلى أوروبا ليتعلموا طرق التدريس الحديثة، بالإضافة إلى تغيير طرق التدريس في جامعة دار الفنون، وأطلق عليها جامعة إسطنبول عام 1935.