طُويت حقبة تاريخية مقيتة من سيطرة “حزب البعث العربي الاشتراكي” على السلطة لأكثر من ستة عقود متتالية؛ إذ قادت سوريا، كما جارتها العراق سابقًا، إلى التهلكة جرّاء انهيار الاقتصاد، والتدخلات الأجنبية، واستنزاف الموارد الطبيعية والبشرية في حروب مصيرية لا ناقة للشعوب فيها ولا جمل.
مع سقوط نظام بشار الأسد، فُتحت صفحة جديدة من تاريخ سوريا، دون حزب انقلابي تفرد بالسلطة واعتاد سياسة القمع والبطش في سبيل تقويض الشعوب، وهدمها، وتشتيتها؛ وترسيخ شعارات رنانة يواجه معارضوها السجن خلف القضبان وأغلال الجلادين تارةً، والقتل والنفي تارةً أخرى.
في السطور التالية نسلط الضوء على خلاص الشعبين السوري والعراقي من حقبة حكم حزب “البعث” بعد عقود من السيطرة على الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية تحت شعارات تدجين الشعوب تحقيقًا لأطماع البقاء في السلطة، واستغلالًا للقضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل في تعزيز القبضة الأمنية
حزب البعث في السلطة
ظهر حزب “البعث” في سوريا تحت مسمى “حركة البعث العربي” التي أسسها ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وهما من طلبة زكي الأرسوزي عام 1947، لكنها اندمجت مع “الحزب العربي الاشتراكي” الذي أسسه أكرم الحوراني عام 1952، حيث أصبح “حزب البعث العربي الاشتراكي”.
تبنى “البعث” شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، باعتباره يدعو إلى وحدة الأمة العربية، تحت أهداف “الوحدة، الحرية، الاشتراكية”، فيما اتخذ من علم الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين ضد العثمانيين في عام 1916، شعارًا له، يشابه العلم الفلسطيني ويختلف في موضع اللونين الأسود والأخضر.
نشط “البعث” في سوريا لأكثر من 10 سنوات قبل أن يعلق نشاطاته بسبب الوحدة مع مصر عام 1958، إلا أنه عاد إلى النشاط السياسي بعد الانفصال في سبتمبر/أيلول 1961، وما إن بدأت الحياة السياسية في سوريا تستعيد أنفاسها مجددًا حتى نفذ الحزب انقلابًا على حكومة ناظم القدسي عام 1963 (عرفت بثورة الثامن من آذار) وأصبح “البعث” الحاكم في سوريا.
تميزت السنوات الأولى لاستلام “البعث” السلطة بالخلافات بين تيار مدني بقيادة ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وتيار عسكري بقيادة حافظ الأسد وصلاح جديد، لكنها انتهت بانقلاب عسكري في فبراير/شباط 1966 حيث رحل كل من عفلق والبيطار إلى خارج سوريا.
إلا أن الهدوء لم يدم طويلًا حتى عاد الصراع مجددًا عام 1970 حيث أقصى حافظ الأسد (وزير الدفاع آنذاك)، صلاح جديد، نفيًا بالسجن، باعتباره أحد المناوئين عبر ما أطلق عليه بـ “الحركة التصحيحية”.
ومع استلام الأسد السلطة أقر في المادة الثامنة من دستور عام 1973 “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”، مما حوله إلى حزب سلطوي غرق في مفاتن السلطة، وتغلغل في مفاصل الدولة، وتحكم بسياساتها وأشخاصها ومؤسساتها العامة، مؤطرًا الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في الجبهة الوطنية التقدمية بقيادته.
في تلك التحولات عاشت سوريا حقبة زمنية مظلمة ساد فيها البطش والاعتقال والتعذيب للمعارضين بينما كانت أساليب التدجين الفكرية للسوريين مستمرة في مسار موازي، حيث استطاع تدريجيًا خلق سياسة الحزب الأوحد والرأي الواحد عبر الاقصاء وقتل المعارضين وملاحقة الحركات السياسية السورية التي عارضت الانضمام إلى الجبهة الوطنية التقدمية.
بينما في العراق، فقد أسس، فؤاد الركابي، الفرع الإقليمي للحزب في العراق عام 1951، وفي العام التالي حصل الحزب على اعتراف رسمي، حيث اختير الركابي أول أمين اقليمي للفرع، وتدريجيًا بدأ الحزب يحارب للحصول على السلطة في العراق، حيث أطاح الضباط القوميون والناصريون البعثيون بحكم رئيس الوزراء العراقي، عبد الكريم قاسم، في عام 1963.
لكن في نوفمبر/تشرين الثاني 1963 شهد العراق انقلابًا آخر على يد الرئيس عبد السلام عارف، بعد استخدام القمع والعنف والاستبداد، ما مهد إلى دخول العراق في تطورات سياسية متقلبة انتهت بانقلاب يوليو/تموز 1968، بقيادة أحمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين، حيث تمكن “البعث” من التفرد بالسلطة.
وتولى صدام حسين حكم العراق عام 1979 بعد إعفاء البكر، حيث تحكم حزب البعث في كل مفاصل السلطة والحياة في العراق، وسعى إلى زعامة البعث داخل العالم العربي على المستوى الفكري والأيديولوجي، بعد انتقال أغلب رموز البعث السوري إلى العراق.
لا تختلف إيديولوجيا حزب البعث السوري عن الفرع العراقي فكلاهما قام على بحر من الدماء بهدف الوصول إلى السلطة وتطويع الشعوب في أهداف نضالية لا تعدوا إلى تحقيق مآربهم في التسلط واستمرارهم في سدة الحكم.
رغم وفاة حافظ الأسد في يونيو/حزيران 2000 إلا أن “البعث” انتخب بشار الأسد، رئيسًا لسوريا، وأمينًا عامًا للحزب، لكن مع انطلاقة الثورة السورية أقر نظام الأسد في تغييرات دستورية جديد تهدف إلى تهدئة الاحتجاجات.
ألغى الأسد الدور القيادي لحزب “البعث” حيث أزيلت المادة الثامنة بـ “أن حزب البعث القائد في الدولة والمجتمع”، وحل مكانها عبارة “التعددية السياسية”، إلا أنه لم تطرأ أي تغيرات حقيقية كون البعث حتى يوليو/تموز 2024 فاز بأغلبية ساحقة في عضوية مجلس الشعب.
شعارات تحقق مآرب السلطة
لطالما ردد السوريون منذ نعومة أظافرهم في مدارس وجامعات ومؤسسات ودوائر حكومية، شعارات حزب البعث، مخيرين كانوا أم مكرهين، لكنها لا تعدوا سبل تحقيق منفعة من عناوين وشعارات كانت أداةً للاستبداد ورمزًا للديكتاتورية لدى سلطات شبت على قمع الشعوب.
كانت شعارات “البعث” حاضرة في مرحلة التعليم الابتدائي عبر شعارات يرددونها صباح مساء بأصوات عالية تصدح بها حناجرهم الرقيقة بشكل شبه إجباري وتفاعلي وشعارات صورية تلفح رقابهم وأخرى تعلوا رؤوسهم تكون مثالًا للتلميذ المرتب لدى المدرسون الحزبيون.
سرعان ما تتحول مرحلة تدجين المفاهيم إلى مرحلة ترسيخ الشعارات والأقوال عبر مناهج دراسية تعرف بمادة “القومية”، مادة تنقل تطلعات وأهداف الحزب والقائد المؤسس، لكن تتبعها مرحلة عضوية عبر انتساب الطلبة إلى الحزب مع انتهاء مرحلة التعليم الأساسي.
تصل طلبات الانتساب عبر ورقات يحملها أعضاء حزبيون إلى الفصول الدراسية، وما على الطلبة إلا التوقيع عليها، ليحصلوا على العضوية، بينما يتطلب منهم حضور اجتماعات حزبية دورية كل ثلاثة أو أربعة أشهر، أو دفع اشتراكات شهرية يمكن أن تثبت وجودهم في الحزب.
كانت عضوية حزب البعث شبه إجبارية في سوريا بسبب ترسيخ الامتيازات التي يحصل عليها الأعضاء الحزبيين خلافًا لنظائرهم من المواطنين السوريين الذين كانوا يبتعدون عن الحزب وتطلعاته القومية بصوت منخفض، وهذا ما دفع الطلاب الجامعيون والموظفون الحكوميون في المؤسسات الخدمية والدوائر والقطاعات العسكرية إلى الانتساب في الحزب بهدف الحصول على ترقيات وظيفية.
يمكن وصفها بأنها تعبئة إيديولوجية وتوجيه جماهيري أخذ حيزًا واضحًا من حياة السوريين والعراقيين طيلة عقود ماضية خلف أهداف حزب البعث وحدة، حرية، اشتراكية، دونما أدنى تفكير للغوص بمعناها ومفاهيمها ومقاصدها اللغوية وقدرة تحقيقها في نظرة تاريخية توضح سنوات نشوء الحزب وربطه بما حققه حتى الوقت الراهن.
لأن أهداف البعث كانت تظهر عكسها تمامًا، فالوحدة أدت تشظي المجتمع السوري لأن “البعث” سعى إلى تفكيكهم وتوظيفهم مراقبين على بعضهم الآخر، فزاد الانقسام والتفكك، وفي حال خرجت نحو سياقها العربي فالحقيقة تكون أشد قسوة كون “سلطة البعث” كانت شريكًا في حروب إقليمية على دول عربية لبنان والعراق مثالًا.
أما الحرية، فهي بنيت على سياسة قمع وتكميم أفواه واعتقال وقتل وتعذيب استمرت طيلة حكم الأسدين الأب والابن، حيث شهدت سوريا كبرى المذابح، مجزرة حماة 1982، والثانية خلال سنوات الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 حتى نهاية 2024.
كما لا يختلف ذلك في هدف الاشتراكية، التي تدعو إلى بناء نظام اشتراكي في البلاد، إلا أن الهدف منفصل عن الواقع تمامًا بسبب استغلال موارد البلاد والدولة واتباع قانون مزرعة تعود مقدراتها الاقتصادية للعائلة الحاكمة، على حساب الشعوب التي تعيش في ظروف اقتصادية معدومة.
هيمنة “البعث” لم تقتصر على تفكير الشعوب واختياراتهم وإنما حولت مقدرات الدولة ومؤسساتها إلى حواضن حزبية حيث انتشار أفرع حزبية في المحافظات والمناطق والنواحي الإدارية والبلدات والقرى، متخذةً من الكوادر البشرية أداة في بسط السيطرة واستمرار الحكم في سوريا.
القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل
رغم اتخاذ “البعث” موقفًا داعمًا للقضية الفلسطينية، ورافضًا لإقامة دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ إلا أنه وظف قضية الفلسطينيين ومقاومة المحتل خدمةً لأجنداته في استمرار سلطته في الحكم وإبعاد الشعوب عن القضايا الداخلية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تكون أكثر اهتمامًا.
واستخدمت الحكومات السورية الصراع مع إسرائيل لتحويل الانتباه عن الخلافات الداخلية المتعددة في ستينيات القرن الماضي، قبل أن يتفرد حافظ الأسد السلطة المطلقة وقيادة البعث، في مطلع السبعينيات، حسب ما تؤكد الدراسات.
لكن في الواقع أن نظام حافظ الأسد انتهج ذات الأسلوب في محاربة المعارضين من خلال توجيه التهم والارتباطات والدعم الخارجي ودور الاحتلال الإسرائيلي، مشيدًا بقدراته على المقاومة ضد المحتل، بينما كان يقمع السوريين، بقوة السلاح والزج بالسجون والمعتقلات والمجازر.
لم يختلف أسلوب التعاطي مع القضايا الداخلية السورية مع استلام بشار الأسد للسلطة، لأنه هو الآخر استغل القضية الفلسطينية ومقاومة المحتل الاسرائيلي بغية تحقيق مآرب داخلية تمكنه من احكام القبضة الأمنية، وإبعاد الشبهات عن القضايا المرتبطة بحياة السوريين ومعيشتهم.
رغم ذلك إلا أن الفلسطينيين أنفسهم تعرضوا لأبشع عمليات القتل والاجرام في سوريا على يد بشار الأسد، إذ لا يزال مخيم اليرموك شاهدًا على حجم المجازر والتدمير الممنهج والتجويع والحصار، فضلًا عن الاعتقالات التي طالت اللاجئين الفلسطينيين على يد الأجهزة الأمنية مع اندلاع الثورة السورية عام 2011.
مجموعة العمل من أجل فلسطيني سوريا، وثقت اعتقال نحو 3 آلاف و85 فلسطينيًا في سوريا بينهم أطفال ونساء وكبار سن، في حين، قضى نحو 643 آخرين تحت التعذيب في سجون النظام السابق، منذ اندلاع الثورة السورية.
كما لم ينتهي توظيف القضية الفلسطينية في خدمة سلطته، فلم يبد الأسد أي موقف تجاه معركة طوفان الأقصى وما تبعها من تدمير وحرب إسرائيلية على غلاف غزة، كما هو الحال خلال الحرب الإسرائيلية على حزب الله اللبناني، وما تبعها من قصف وتصعيد إسرائيل على مواقع عسكرية سورية.
إلا أنه خرج في ديسمبر/كانون الأول 2023 مخاطبًا مجموعة من الجماهير الحزبية، قائلًا: “بغض النظر عن نتائج الحرب، دمرت غزة، هجر الشعب الفلسطيني، أبيد الشعب الفلسطيني، هنالك حقائق ظهرت وهذه الحقائق هي دروس مستفادة بالنسبة لنا، يجب أن نفكّر فيها ونتعلمها وتبقى نصب أعيننا، لأنها تتقاطع مع ما عاشته سورية ومع ما يمكن أن تعيشه دول أخرى”.
رؤية الأسد الأخيرة تظهر مدى استغلاله للحرب الإسرائيلية على غزة بهدف تبرير ما فعله في سوريا من تدمير وحرب ممنهجة ضد السوريين؛ لكن هذا ما تكرر تمامًا مع انطلاقة معركة ردع العدوان في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حيث اتهم نظامه فصائل المعارضة بالتنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي في الهجوم على حلب.
نهاية حزب البعث
شكلت معركة ردع العدوان التي قادتها فصائل المعارضة السورية ضد النظام السابق أيامًا مفصلية في تاريخ “البعث” بعد سنوات من الحكم الجائر بحق الشعب السوري متفردًا بالسلطة حيث لا يعلو إلا صوت واحد، ولون واحد، ينتهج الفتك والبطش وسيلةً للبقاء في سدة الحكم.
حلت القيادة العامة لإدارة العمليات العسكرية، حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وما يتبع لها من منظمات ومؤسسات ولجان، كما حظرت إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، على أن تعود كامل أصوله إلى الدولة السورية، خلال مؤتمر انتصار الثورة السورية في 29 يناير/كانون الثاني 2025.
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول 2024 علق حزب البعث عمله ونشاطه الحزبي في سوريا إلى إشعار آخر، حيث أعلن إعادة الموظفين المسرحين إلى وظائفهم، وأنهى تسريح جميع الكوادر المفصولين، بينما أعاد الموظفين المعارين والمنتدبين إلى الأماكن الأصلية في الوزارات والمؤسسات الحكومية.
كما وضع جامعة الشام الخاصة تحت تصرف وزارة التعليم العالي، ووضع أملاك وأموال الحزب تحت تصرف وزارة المالية ورقابة وزارة العدل، وسلم جميع الآليات والمركبات إلى وزارة الداخلية، حسب بيان القيادة العامة للحزب.
بينما انتهى حزب البعث الفرع الاقليمي العراقي، مع إسقاط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، في عام 2003، تزامنًا مع الغزو الأمريكي للعراق، حيث حظر الحزب من العمل على الأراضي العراقية، واعتقلت آلاف القيادات من الحزب وهروب غيرهم إلى خارج البلاد.
وعمل الحاكم الأميركي بول بريمر -المدير الإداري لما سُمي بالسلطة الائتلافية المؤقتة في العراق مايو/أيار 2003 على عدم عودة الحزب إلى السلطة عبر تشكيل الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث حيث استمر عملها لمدة 5 سنوات، فيما واصلت السلطات العراقية مطاردة أتباع الحزب وقياداته، حتى أنها فصلت أكثر من 30 ألفا من البعثيين من سلطات الدولة.
ختامًا.. رغم انتهاء حكم حزب البعث للسلطة في سوريا وقبلها بعقدين في العراق، إلا أن إرث البعث يبدو ثقيلًا بين المجتمعات السورية نتيجة السياسة الإيديولوجية الممنهجة التي طالت معظم السوريين عبر دمج البعث في مختلف المجالات الحياتية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.