في مطلع يونيو/حزيران الماضي، طلبت تايوان رسميًا من الولايات المتحدة الحصول على أسلحة لتحديث معداتها العسكرية وتعزيز قدراتها الدفاعية، حينها أعربت الصين عن “مخاوفها الجدية” من هذه الصفقة، مطالبة واشنطن بأن “تعي الطبيعة الحساسة جدًا والمضرة لقرارها بيع أسلحة لتايوان، وأن تلتزم مبدأ الصين الواحدة”.
الطلب الصيني يبدو أنه لم يطرب آذان الأمريكان، إذ وافقت الخارجية الأمريكية على صفقة أسلحة جديدة للجزيرة المطالبة بالانفصال، شملت وقتها 108 دبابات من طراز “إم1 إيه2 تي أبرامز”، و250 صاروخ أرض ـ جو قصير المدى محمول على الكتف من طراز “ستينغر”، وأكثر من 1500 صاروخ مضاد للدبابات من طرازَي “جافلين” و”تاو”.
وبعد أقل من شهرين على إعلان تلك الصفقة التي أثارت غضب الصينيين، ها هي واشنطن تصادق مجددًا على صفقة أخرى، قدرت قيمتها بنحو 5 مليارات دولار، تضمنت وفق ما ذكر بيان وكالة التعاون الأمني الدفاعي التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون)، بيع 66 طائرة من طراز (F-16C / D Block 70)، وكذلك قطع الغيار والمعدات ذات الصلة.
توتر جديد أرخى بثقله على العلاقات الأمريكية الصينية بعد هذه الخطوات التي تعتبرها بكين “مستفزة”، إذ تعد قضية تايوان القضية الأكثر حساسية وأهمية في مسار العلاقات بين البلدين الكبيرين، الأمر الذي تعيه واشنطن جيدًا، وتستخدمه بين الحين والآخر كورقة ضغط لاحتواء الصين وتعزيز نفوذها المتنامي في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا.
استفزاز أمريكي
يأتي هذا التحرك بينما تتصاعد وتيرة التوتر بين الصين وأمريكا على خلفية الحرب التجارية المعلنة من الطرفين، رسوم جمركية جديدة تفرضها واشنطن تقابلها بكين بالمثل، وسط أنباء غير مؤكدة عن توقف المحادثات الثنائية بين البلدين بعدما قطع الجانبان شوطًا ليس بالقصير في هذا المضمار.
تزامن يأتي في إطار خطة ممنهجة تستهدف تضييق الخناق على بكين بصورة محكمة، تارة عبر التهديد الاقتصادي من خلال التعريفات الجمركية الجديدة وتشديد الحصار على الشركات الصينية العاملة في الولايات المتحدة، وتارة عبر التهديد الأمني بتسليح تايوان، وتارة ثالثة من خلال التلويح بتقويض النفوذ الصيني إقليميًا ودوليًا.
ترى بكين في مثل هذه التحركات “أحد المظاهر الأصيلة لعقلية الحرب الباردة ومنطق القوة”، خصوصًا أن تلك القوانين التي تم تدشينها مؤخرًا تشرّع تزويد تايوان بأسلحة “ذات طابع دفاعي”
التفوق الاقتصادي الصيني الذي بات حقيقة لا تقبل الشك، وما تبعه من زيادة رقعة النفوذ لتصل إلى حديقة أمريكا الخلفية، عبر تعزيز التعاون مع فنزويلا وباراغواي، فضلًا عن الحضور القوي في إفريقيا ودول أوروبا، كان باعثًا لقلق المسؤولين الأمريكيين الذين سعوا إلى تقويض هذا النفوذ عبر زرع العراقيل وإثارة الأزمات.
ورغم المواءمات الدبلوماسية التي كانت تعزف الأنظمة الحاكمة السابقة في أمريكا على أوتارها بشأن التوازن في العلاقات بين بكين وتايبيه، فإن الإدارة الحاليّة بقيادة دونالد ترامب عملت منذ الوهلة الأولى على تمتين علاقاتها بتايوان، حتى باتت توصف بـ”الأقوى” منذ قَطعت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية معها قبل 40 عامًا، للاعتراف ببكين.
لا يزال الانفصال عن الصين حلمًا يداعب الشعب التايواني
إستراتيجية ترامب
خطت إدارة ترامب قفزات سريعة نحو تعميق علاقاتها بتايوان، هذا الاتجاه عززه بصورة ملفتة للنظر إقرار الكونغرس في عام 2018 ما يسمّى “قانون السفر إلى تايوان”، هذا القانون الذي يشجع على تبادل الزيارات بين المسؤولين الأمريكيين ونظرائهم في تايوان.
وخلال العام الماضي، أجاز مجلس النواب الأمريكي “قانون تأمين تايوان لعام 2019″، مؤكدًا التزام الولايات المتحدة حيال الجزيرة، عبر تطبيق “قانون العلاقات مع تايوان” الذي أقرّه الكونغرس بعد فترة وجيزة من انتهاء الحلف الرسمي، جنبًا إلى جنب الوجود العسكري الأمريكي في تايبيه، عام 1979.
الخارجية الأمريكية بررت توجهها الجديد بدعم تايوان عسكريًا بأن ذلك يأتي في إطار دعم أمريكا لقدرة تايبيه للحفاظ على إمكانات دفاع ذاتي كافية، لكن ليس هناك أي تغير في سياسة “الصين الواحدة” التي تنتهجها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة وتعترف ببكين لا تايبيه، حسبما ذكر المتحدثة باسم وزارة الخارجية هيذر ناويرت.
وفي الجهة الأخرى ترى بكين في مثل هذه التحركات “أحد المظاهر الأصيلة لعقلية الحرب الباردة ومنطق القوة”، خصوصًا أن تلك القوانين التي تم تدشينها مؤخرًا تشرّع تزويد تايوان بأسلحة “ذات طابع دفاعي”، وإن كانت في الحقيقة امتدادًا للوثيقة التي دعمت بها واشنطن تايوان عام 1982 التي عرفت باسم “الضمانات الستة”.
تلك الوثيقة أشارت في أحد بنودها إلى أن واشنطن لن تحدّد موعدًا لإنهاء مبيعات الأسلحة للجزيرة، رغم أن الحكومة الأمريكية أكدت في بيان “17 أغسطس/آب” الصيني ـ الأمريكي عام 1982 أنها “لا تعتزم اعتماد سياسة تسليح طويلة الأمد لحليفتها، وأنها تستعد لإجراء تخفيض تدريجي لمبيعات السلاح لتايوان”، ما سيفضي بعد فترة زمنية إلى حل نهائي.
ومع مرور الوقت، لم يتوصل الطرفان، الصيني والأمريكي، إلى حل نهائي بخصوص مبيعات السلاح الأمريكي إلى تايوان، بل ظلت ورقة ضغط تستخدمها واشنطن بين الحين والآخر، أدت مع مر السنين إلى اتساع نطاقها بصورة جعلت من واشنطن المصدر الأساسي للسلاح للجزيرة وهو ما عزز قواتها الدفاعية ضد بكين.
سيناريوهات التصعيد
لا شك أن قضية تايوان تعد أحد أهم بؤر التوتر في العلاقات الأمريكية الصينية، فالصينيون لديهم حساسية خاصة فيما يتعلق بتايوان، حيث يعتبرونها جزءًا من الصين الواحدة ولا يمكن التفريط فيها أو قبول استقلالها وانفصالها عن الوطن الأم إلى ما لا نهاية، كما أن الوجود الأمريكي العسكري والسياسي في تايوان، وموقف واشنطن الداعم للسياسة التايوانية، رغم التصريحات الأمريكية النافية لذلك أحيانًا، يمثل تحديًا وقلقًا بالغين لدى الصين.
السيناريو العسكري ربما يكون حاضرًا بقوة لحل هذه الأزمة حال خروجها عن السياق الطبيعي الذي ظلت عليه منذ عام 1949، ورغم تزايد دعاة المواجهة المسلحة في كلا البلدين كسبيل وحيد لحل القضية، فإن التجارة وغيرها من الاتصالات الأخرى التي تنمو بين الجانبين أمكنها تجنب نشوب الحرب بينهما عدة مرات، إلا أن ذلك لا يحول دون إشعال فتيلها في أي وقت.
احتمالات المواجهة العسكرية قائمة حال اتخاذ تايوان لأي إجراء بشأن الانفصال
الباحث بشؤون الأمن القومي في كلية الحرب البحرية الأمريكية بول سميث يرى أن قضية تايوان التي طال أمدها ستكلف أمريكا والصين كثيرًا، والسيناريو العسكري ليس مستبعدًا فيها، ففي تقرير له بمجلة “ذي ناشونال إنترست” يعود إلى عام 2018، قال: “مهما تكن دوافع الصين من تحركاتها الحاليّة ضد تايوان، فإن هذه التحركات ستجر أمريكا بلا شك، الأمر الذي يتسق مع نمط تاريخي استمر منذ 1950، أي لسبعة عقود، حيث نشر آنذاك الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان الأسطول السابع بمضيق تايوان، وفي 1954 تكرر السيناريو الأمريكي لحماية تايوان عندما بدأت الصين قصف إحدى الجزر التايوانية القريبة منها بالمدفعية”.
تبقى هذه القضية ورقة ضغط بيد الأمريكان، صالحة للاستخدام بين الحين والآخر، لتضييق الخناق على الصين التي نجحت في سحب بساط النفوذ الاقتصادي من تحت أقدام الولايات المتحدة
وفي 1958 هددت الصين بعمل عسكري ضد تايوان، وردّت أمريكا بتقديم مساعدات عسكرية لتايوان، مما ساعد في تخفيف ما أصبح يُعرف لاحقًا بالأزمة الثانية لمضيق تايوان. وجرت أحدث أزمات المضيق في 1995-1996، حين نفذت الصين أعمالاً عدوانية وردت أمريكا بتقديم الحماية العسكرية المطلوبة.
الكاتب الأمريكي يشير في تقريره إلى أن هذا السيناريو لن يستمر إلى ما لا نهاية، لأن الصين في 2018 ليست الصين فترة الحرب الباردة، حيث امتلكت قوة عسكرية بحرية وجوية وأخرى لم يسبق لها امتلاكها، وانتقل ميزان القوة بشأن تايوان لصالحها، وعليه يرى أن “أمريكا ستجد نفسها في حرج بالغ، فإذا حاولت تكرار حمايتها لتايوان فستدخل في حرب مع الصين، وهو أمر مكلف للبلدين وتايوان، وإذا لم ترد فإنها ستفقد مصداقيتها لدى حلفائها الذين تحميهم في المنطقة بما فيهم كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وغيرهم”.
في المجمل.. إن كان من الناحية الرسمية تلتزم أمريكا بسياسة الصين الموحدة التي تعني معارضة استقلال تايوان، فإن الواقع ينافي ذلك تمامًا، وهو ما تعرفه بكين جيدًا، لتبقى هذه القضية ورقة ضغط بيد الأمريكان، صالحة للاستخدام بين الحين والآخر، لتضييق الخناق على الصين التي نجحت في سحب بساط النفوذ الاقتصادي من تحت أقدام الولايات المتحدة، ويبقى استخدام هذه الورقة خاضعًا للذكاء الأمريكي للحيلولة دون إشعالها لحرب بين البلدين، كلاهما يعي أن لا منتصر فيها.