الثامنة من صبيحة يوم الخميس 21 أغسطس/ آب 1969، استيقظ أهالي مدينة القدس على واحدة من أعتى اعتداءات الصهاينة ضد المسجد الأقصى، أحد أعظم المشاعر المقدسة لدى جميع المسلمين في العالم، إذ يمثّل أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. واليوم إذ تمرّ الذكرى السنوية الخمسين للجريمة المدويّة، فإنّ نيران الاعتداءات ما تزال تشتعل بساحات المسجد الأقصى ومصلياته وقبابه ووحول المصلمين فيه والمرابطين والمرابطات الذين يحمونه كل يوم.
الحرائق التي أضرمها صهيوني أسترالي في عدة أماكن داخل المسجد أدت إلى أضرار بالقسم الجنوبي داخل ما يسمى “مبنى المسجد الأقصى”، فبلغت مساحة الجزء المحترق نحو 1500 متر من أصل 4400 متر وهي مساحة المبنى الكلية، بينما دمرت عدة معالم تاريخية في المسجد كمنبر صلاح الدين ومسجد عمر ومحراب زكريا ومقام الأربعين وثلاثة أروقة من الأعمدة ممتدة من الجنوب شمالًا داخل المسجد الأقصى.
هذا عدا عن وقوع الأقواس والسقف وأجزاء من القبة الخشبية الداخلية و48 نافذة من الجص والزجاج الملون، كما احترقت العديد من مفروشات المكان كالسجاد والمكتبات الداخلية، وتحطم مجسم لسورة الإسراء مصنوع من الفسيفساء نتيجة سقوط سقف المسجد وعمودين رئيسيين مع القوس الحامل للقبة على أرض المسجد، كما تعرضت الجدران الجنوبية لأضرار بالغة.
إحدى الصور التي تظهر حجم الضرر بعد إخماد الحريق
أوضحت تقارير لاحقة لمهندسين عرب أن الحريق شب في مكانين مختلفين يبعد أحدهما عن الآخر مسافة لا تقل عن مئتي متر وفي وقت واحد، الأول عند المنبر وقد أتى عليه برمته، أما الثاني فكان عند السطح الجنوبي الشرقي للمسجد وقد أتى على سقف ثلاثة أروقة وجزء كبير منها.
كما أن ظروف وقوع الحريق وملابسات الظرف أدت إلى خلق الكثير من الأسئلة نظرًا للانقطاع المفاجئ في مياه المسجد خلال محاولات إخماد الحريق، إذ أكد عدد كبير من الشهود المسلمين الذي شاركوا في إطفاء النيران أنهم وجدوا الماء مقطوعًا في كل مرافق المسجد وحتى المناطق المحيطة به ولولا وجود آبار ماء داخل ساحة المسجد ساعدت في الحصول على القليل من المياه بطرق بدائية لما استطاعوا إيقاف تمدد الحريق، إضافة إلى عدم قدوم سيارات الإطفاء التابعة لبلدية القدس اليهودية إلا بعد أن تمت السيطرة عليه بالكامل، وبعد وصول سيارات الإطفاء التابعة لبلدية رام الله والخليل التي يستغرق وصولها ساعتين لموقع الحريق، في الوقت الذي كان يمكن لسيارات بلدية القدس الوصول خلال خمس دقائق.
مجموعة من الفلسطينيين في أثناء إخمادهم الحريق بالطرق البدائية
تملّص إسرائيلي من المسؤولية
ادعت دولة الاحتلال عدة ادعاءات للتغطية على الحادثة بشكل نهائي، إذ قالت بداية إن الحريق اندلع نتيجة عطل كهربائي، فأجرت شركة كهرباء القدس تحقيقًا فنيًا وأعلنت سلامة الشبكة، نافيًة أيّ علاقة بين الكهرباء والحادثة.
دفعت هذه التحقيقات سلطات الاحتلال لإعلان في 23 من أغسطس/آب 1969 – أيّ بعد الحريق بيومين – اعتقال شاب أسترالي مسيحي يتبنى الفكر الصهيوني يبلغ من العمر 28 عامًا دخل إلى البلاد قبل أربعة أشهر ويدعى دينيس مايكل وليم رهان، على أساس أنه من نفذ الحريق وينتمي لكنيسة الرب التي تصدق بحرفية التوراة وتنبؤاتها، كما يولي المنتمون لها أحقية رجوع اليهود إلى أرض “إسرائيل” الأصلية من خلال التسريع بهدم الأقصى.
دينيس مايكل وليم رهان المتهم بحرق الأقصى خلال محاكمته
لكن نفت الكنيسة أيّ علاقة لها بالواقعة وسلمت عبر مندوبها مذكرة من المسؤول عن شؤون الشرق الأوسط في الدائرة الأوروبية بسويسرا بتاريخ 17 من سبتمبر/أيلول 1969 إلى الهيئة العلمية الإسلامية في القدس جاء فيها: “نرغب في أن ننقل إليكم أن منفذ جريمة الإحراق لا علاقة له البتة بكنيسة الله”.
بينما صرّح مايكل روهان لدى اعتقاله أن ما قام به كان بموجب نبوءة في سفر زكريا، مؤكدًا أن ما قام به واجب ديني كان ينبغي عليه فعله ونفذه باسم الرب، فيما اعترف بأنه أدخل يوم الخميس صباحًا كميات كبيرة شديدة الاشتعال إلى داخل المنبر، وقام بصبها في محيطه.
اعتبرته سلطات الاحتلال بعد هذا التصريح مريضًا نفسيًا ومصابًا بانفصام الشخصية وأنه كان تحت تأثير أوهام وأفكار عدوانية، لذا حاكمته بشكل صوري أمام وسائل الإعلام ونقلته إلى مصحة للأمراض العقلية لينقل بعدها إلى أستراليا حيث مات هناك عام 1995.
الأسترالي دينيس مايكل وليم رهان في أثناء خروجه من المحكمة
ردود الفعل
ثار الفلسطينيون على إثر هذه الحادثة مما أدى إلى سلسلة من المواجهات العنيفة مع قوات الاحتلال، كما ضجت الشعوب العربية بمظاهرات احتجاجية تطالب بمعرفة الحقيقة، مما دفع الحكام المسلمين لعقد قمة إسلامية عاجلة، عقدت في المغرب، تأسست على إثرها منظمة المؤتمر الإسلامي وكان من نتائجها تشكيل لجنة القدس برئاسة الملك الحسن الثاني الذي كان حاكمًا للمغرب في ذلك الوقت.
مجموعة من الأئمة والشخصيات العربية تتفقد المسجد بعد الحريق
كما صدر قرار لمجلس الأمن الدولي في 15 من سبتمير/أيلول 1969 تم التعبير خلاله عن حزن عميق للضرر الذي ألحقه الحريق بالمسجد الأقصى واعترف فيه أن هذه الأعمال يمكن أن تهدد بشدة الأمن والسلام الدوليين.
محاولات السيطرة على المسجد
تنقسم مكانة المسجد الأقصى وأسباب رغبة اليهود في السيطرة عليه إلى سببين: الأول ديني، إذ يزعمون أنه قائم على أنقاض هيكل النبي سليمان ولا يمكن لدولة “إسرائيل” أن تقوم دونه. والآخر سياسي، فالسيطرة على المسجد الأقصى تحمل رمزية كبيرة وتمهد للسيطرة المطلقة على القدس إلا أن تصنيف المجتمع الدولي له على أنه مكان محتل يجعله عقبة أمام “إسرائيل” في القيام بأيّ عملية مباشرة قد تشوّه صورتها أمام العالم وهو ما يمنعها من فرض احتلالها على المسجد بشكل سريع وواضح.
ورغم وجود الكثير من العقبات من بينها تمسك الفلسطينيين بأرضهم وملكيتهم للمسجد الأقصى وكل ما يضمه السور، فإن محاولات الاحتلال في السيطرة على المسجد وكل ما حوله منذ احتلاله عام 1967 لم تتوقف حتى يومنا هذا، وتغيّرت أشكال هذه المحاولات واختلفت، فقد عملوا على تقسيمه وتخريبه وتغيير أسماء أبرز معالمه وأكثرها أهمية للمسلمين، الأمر الذي يجعل سكان مدينة القدس اليوم يترقبون خطر الاستيلاء عليه في أيّ لحظة.
من بين أبرز هذه المحاولات، اقتطاع جزء من حوائطه، حائط البراق الذي يحدّ الحرم القدسي من الجهة الغربية، أيّ يشكل قسمًا من الحائط الغربي للحرم المحيط بالمسجد الأقصى، ويمتد بين باب المغاربة حتى المدرسة التنكزية شمالًا، فيما يصل طوله إلى نحو 50 مترًا، إذ استولوا عليه عام 1967 بعد هدم حي المغاربة بهدف التوسع باتجاهه ثم أقروا تغيير اسمه زورًا إلى “حائط المبكى” الذي يعدّ الآن وجهة لرؤساء الدول ومشاهير عالميين للتبرك به حسب اعتقادهم، إضافة إلى منع المسلمين من الاقتراب منه.
الرئيس الأمريكي ترامب عند “حائط المبكى”
إضافة إلى شق السراديب والحفريات والتعذر بوجود آثار لهيكل “يشكل أهمية كبيرة للدولة الإسرائيلية”، مما أدى إلى تصدع أجزاء من المسجد، فضلًا عن وجود الكثير من الممارسات الأخرى التي يهدف من خلالها السيطرة بشكل أوسع وأكثر وضوحًا كمحاولات الاقتحام المتكررة من المستوطنين والجنود الاسرائيليين بهدف فرض وجودهم من خلال دخول المسجد بشكل عشوائي واستخدام العنف، وعزل مجموعات المرابطين داخل أسوار المسجد الأقصى عبر حظر ما سماه تنظيمي “المرابطين والمرابطات” في 8 من سبتمبر/أيلول 2015 ومنعه حلقات العلم والقراءة التي تقام في ساحة المسجد.
كما يُبعد الاحتلال الإسرائيلي أيّ فلسطيني أو فلسطينية تتكرر زيارته للمسجد والحكم عليه بالإبعاد لمدة تتراوح بين 3 أيام و6 أشهر أو الاعتقال أو حتى تغريمهم بمبالغ مالية مع إمكانية تجديد هذه الأحكام بناءً على قرار من سلطات الاحتلال.
وهناك أيضًا عرقلة سير أعمال دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس لترميم مباني المسجد الأقصى المبارك الآيلة للسقوط أو غير القابلة للاستخدام وصيانتها، وتنفيذ اقتحامات واعتداءات في أوقات يكثر فيها أداء الصلاة في محاولة لفرض واقع جديد على الأقصى.
وإذن، فإنّ المسجد الأقصى يمر بأصعب مرحلة منذ احتلاله، في ظل السعي الأمريكي لإتمام صفقة القرن وإقناع الدول العربية بها، بالإضافة إلى تهافت الدول العربية للتطبيع دون حلّ القضية الفلسطينية، ودون اعتراض من أيّ أحد، فإمكانية حدوث هذا السيناريو كبيرة نظرًا لمحاولات الاحتلال الكثيرة والمتكررة لإفراغ الأقصى من المصلين ومجموعات المرابطين عبر التضييق عليهم ومنع حركات الترميم وحظره الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني.
ويمكن الاستدلال على وجود هذه النوايا بإعلان الاحتلال الاسرائيلي خلال تصريحات علنية، عمله على جعل الصلاة في المسجد الأقصى مشروعة لليهود، ما يعني إمكانية وضع هذا الهدف كجزء لا بد من تحقيقه ضمن صفقة القرن.