مع تسارع الأحداث في المشهد السوري تلوح في الأفق تساؤلات عديدة عن مستقبل الجماعات الجهادية المسلحة، وطريقة تعاطي الإدارة السورية الجديدة معها، في ظل ضغوط المجتمع الدولي عليها لتعزيز الاستقرار والأمن من جهة، وإبعاد خطر شبح الإرهاب عن البلاد من جهة أخرى.
وبالتزامن مع هذه التطورات الأخيرة الحاصلة، أعلن ممثل تنظيم القاعدة في سوريا تنظيم “حراس الدين” حلّ نفسه بقرار أميري من القيادة العامة لتنظيم “قاعدة الجهاد”، بعدما “انتهت مهمته في سوريا، بسقوط بشار الأسد، وانتصار الثورة السورية”، حسب بيان أصدره مجلس قيادته، الثلاثاء 28 من كانون الثاني الفائت.
وأضاف التنظيم في بيانه الذي أقرّ فيه ارتباطه بالقاعدة رسمياً للمرة الأولى: “ننصح أهل السنة في الشام بعدم ترك السلاح وتجهيز أنفسهم للمراحل القادمة التي أخبرنا بها نبينا محمد، فأرض الشام أرض الملاحم الكبرى، ومقبرة للطغاة والمستعمرين، وفسطاط للمسلمين في قتالهم لليهود ومن يلونهم من أعداء الدين”.
مشيرًا، إلى أنه “سيبقى جاهزًا لأي نداء نصرة واستغاثة في أي بقعة من ديار المسلمين وسيبقى محافظًا على ثوابته الشرعية في إقامة الدين ونصرة المظلومين والحفاظ على دماء المسلمين دون تغيير أو تبديل أو تمييع، والتي هي من أولى الثوابت التي يدين التنظيم الله بها”.
من “حراس الدين”؟
الانطلاقة الرسمية للتنظيم كانت في 27 شباط 2018، بعد انشقاق عدد كبير من القياديين والشرعيين في هيئة تحرير الشام، وذلك لمعارضتهم فكّ ارتباطها بالقاعدة، ففي صيف 2016، كان اندماج سبع مجموعات متشددة في إدلب ومحيطها، وهي: جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، سرايا كابل، جند الأقصى، جند الشريعة، نواة تشكيل تنظيم “حراس الدين”.
لاحقًا انضمت إلى التنظيم 10 تشكيلات أخرى أغلبها تجمعات محلية صغيرة ساهمت في اجتذاب المهاجرين (المقاتلين الأجانب) وكذلك المقاتلين المحليين الذين غادروا “هيئة تحرير الشام”، في حين اتسمت كل الفصائل المنضوية للتشكيل الجديد بعلاقات مباشرة أو غير مباشرة مع تنظيم القاعدة وهو أمر ساهم في اعتبار التنظيم الجديد أحد مكونات القاعدة التي تُعرف بولائها لزعيم التنظيم أيمن الظواهري.
وفي الفترات الأولى من تشكيل التنظيم كان ما لا يقل عن نصف أعضاء المجموعة البالغ عددهم 700-2500 من المقاتلين الأجانب، فيما وصل عدد مقاتليها في 2020 إلى 3500 مقاتل منهم 60% إلى 70% أجانب، توزعوا في أربع معسكرات ضخمة، وجبهات إدلب والمناطق المحيطة بحماه واللاذقية.
منذ الإعلان تزعم التنظيم سمير حجازي الملقب بأبو همَّام الشامي، وهو من قدامى مسلحي القاعدة، بينما تولى قيادته العسكرية خالد العاروري أبو القسام الأردني.
أمّا أبرز علمائه الشرعيين فهُما الأردنيان سامي العريدي وأبو جليبيب الأردني. كما يضم العديد من “الشخصيات الجهادية” مثل أبو بصير البريطاني وأبو أنس السعودي وحسين الكردي وأسماء أخرى معروفة في المشهد الجهادي السوري بولائها لتنظيم القاعدة.
تقارير استخباراتية أفادت في أذار/مارس 2019، أن تنظيم “حراس الدين” يمتلك مجلسًا أعلى له الكلمة العليا وهو صاحب القرار داخل التنظيم، وقد ترأس مجلس الشورى سيف العدل، وهو ضابط سابق في القوات الخاصة المصرية، وكان مقربًا من بن لادن.
وراهنت قيادة التنظيم المركزي في خراسان وقيادته الإقليمية بإيران على الفرع السوري لإحياء مشروع القاعدة ببلاد الشام، فمن أجل تعزيز قوته وقدرته العسكرية، دعمت إقامة تحالفات قتالية مختلفة معه.
في نيسان/أبريل 2018 شكّل “أنصار التوحيد” وتنظيم “حراس الدين” ما يسمى بـ”حلف نصرة الإسلام”، وتمثل تحالف أساسي على نحو أكبر في “غرفة عمليات وحرض المؤمنين” التي تشكّلت في تشرين الأول/أكتوبر 2018، إلى جانب جماعتين أصغر حجماً متحالفتين مع تنظيم القاعدة، هما: “جبهة أنصار الدين” و”جماعة أنصار الإسلام”.
نكبة الحراس
تميزت العلاقة بين “حراس الدين” وهيئة تحرير الشام بالمراوغة والشد والجذب والصداقة تارة والعداوة تارة أخرى، لكن الموقف من تركيا كان قد مثل نقطة خلاف جوهرية بين الطرفين.
في نهاية 2020 تعرضت القوات التركية في شمال سوريا إلى ثلاث هجمات توجهت أصابع الاتهام فيها للتنظيم كونهم كانوا من الفصائل الرافضة للوجود التركي في المنطقة، والمعتبرة تركيا دولة علمانية كافرة، عدا عن رفضها اتفاق سوتشي وبقية الاتفاقات اللاحقة على عكس تحرير الشام التي كانت تحاول التقرب من الجانب التركي والتماهي مع الاتفاقات.
بالمقابل رأت تحرير الشام أن “حراس الدين” جماعة تكفيرية وأنها تتسبب بحدوث انقسام داخل بنيتها وتشجع على الانشقاق منها، واستضافة متشددين وتسهيل تحركاتهم ولا سيما عناصر لداعش، وهو ما أدى إلى شنّ هجمات متعددة ضد التنظيم بعد أن جمع نفسه إلى جانب خمسة فصائل ضمن غرفة عمليات أسماها: “فاثبتوا”.
وكان من نتائج الهجمات إجبار تحرير الشام الغرفة على إغلاق قواعدها العسكرية وحظر تشكيل أي فصائل جديدة، واعتقال القائد البارز أبو صلاح الأوزبكي وأبو مالك التلي، إضافة إلى مقتل أبو القسام الأردني وزميلة الجهادي بلال الصنعاني عبر استهدافهما من التحالف الدولي.
ويلاحظ أن القاسم المشترك بين هؤلاء الأربعة القتلى هم انتماؤهم لغرفة العمليات الأمر الذي أدى لإصدار التنظيم بياناً تحت عنوان: نحن “أولياء الدم”، اتهم فيه بشكل مبطّن قيادات في الهيئة بالتعامل مع الجهات الأجنبية، من خلال إيصال إحداثياتهم للتحالف الدولي.
ماذا بقي من حراس الدين؟
لم يتوقف نزيف قيادات “حراس الدين” فقد وقع بين مطرقة الولايات المتحدة وهجماتها الجوية وسندان تحرير الشام وحملاتها.
ففي صيف 2020 قتل خالد العاروري أبو القسام بغارة أمريكية، ليتبعه في شتاء 2020 أبو محمد السوداني الذي قتل بنفس الطريقة في بلدة عرب سعيد غرب إدلب.
ومع حلول 2021، كان التنظيم قد خسر معظم قياداته عبر الغارات الأمريكية أو الاغتيالات، كـ: القيادي الأردني ساري شهاب الذي قتل في 2019، كما قتل عناصر في قصف أمريكي على منطقة ريف المهندسين غربي حلب، عرف منهم أبو عمر التونسي، وأبو ذر المصري، وأبو يحيى الجزائري، وأبو دجانة الأردني، وكل هؤلاء يعدون من قادة صفه الأول، وأغلبهم من جيل أبو مصعب الزرقاوي وخلف مقتلهم فراغًا لم يستطع الجيل الجديد من “الحراس” سدّه.
اخر هذه الاغتيالات كان قبل يومين، عندما أعلنت القيادة المركزية الأميركية، قتل قيادي بارز يتبع للتنظيم بعد نحو 72 ساعة من إعلان التنظيم عن حل نفسه.
وقالت القيادة المركزية الأميركية في بيان، إن الغارة الجوية، التي تعد جزءًا من جهد مستمر لتعطيل وإضعاف الجماعات المسلحة في المنطقة، أسفرت عن مقتل محمد صلاح الزبير القيادي في تنظيم “حراس الدين”.
حسب مركز “الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”، فإن التحالف الدولي بقيادة واشنطن يركز على استهداف تنظيم الحراس أكثر من باقي أفرع تنظيم “القاعدة” المنتشرة في بعض دول الإقليم، لعدة أسباب منها: القضاء على الرعيل الأول للقاعدة، ومنع إعادة الهيكلة بالداخل السوري، واستمرار التنظيم تبني استراتيجية “العدو البعيد”، رغم تعهد “طالبان” بعدم تعريض المصالح الأمريكية لأي تهديد من قبل تنظيم القاعدة.
حلٌّ شكليّ
يؤمن تنظيم “حراس الدين” والذي تبنى أيديولوجية القاعدة السلفية الجهادية، بأن عملياته يجب أن تكون عابرة للحدود، لا تقتصر على بقعة جغرافية واحدة، أو على الجهاد المحلي القريب، بل يجب أن تتجاوز أيضاً الدولي البعيد، ما يعني مهاجمة الغرب وإسرائيل على حد سواء.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى حسن أبو هنية، الباحث في الحركات الجهادية، أن حلّ التنظيم جاء بأمر القيادة المركزية في أفغانستان، فقراءة القاعدة تغيرت وفقاً للتطورات السورية التي فهمتها وهذا يدل على المرونة والتكيف.
ويستدرك أبو هنية، “لكن جوهر أيدلوجية القاعدة باستهداف القريب والبعيد سيبقى موجود، وبالتالي فإن هذا البيان شكلي لنزع أي مبررات لاستهدافها سواء من الإدارة الجديدة أو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية”.
ومن جهة أخرى يشابه هذا البيان ويتناسب مع التحولات التي طرأت على تنظيم القاعدة عندما أخفى وجوده أيضاً بعد سيطرة طالبان على أفغانستان، ومقتل الظواهري وتولي سيف العدل قيادة تنظيم الحراس.
أي أن الحل “شكليّ” بمعنى أن “حراس الدين” لا يريد أن يكون له مسمى ظاهري ولا وجود عسكري ملحوظ داخل سوريا، إنما ستبقى قاعدته موجودة، ويدلّل أبو هنية على ذلك بالقول: إن “البيان يشدد على عدم ترك السلاح دون أن يطالب باندماج الحراس ببنية الدولة الجديدة منعاً لإحراج القيادة الجديدة، وبالتالي نزع أي ذريعة للصدام معها كما جرى سابقًا في إدلب وبالذات مع الإعلان عن حلّ الفصائل”.
الشام درة تاج “الحراس”
“شكّلت بلاد الشام، ولا سيما فلسطين، في المنظور الأيديولوجي للقاعدة، أحد أهم تطورات السردية الجهادية العالمية، وثيمةً في خطابات القادة الجهاديين، كابن لادن وأبي مصعب الزرقاوي، بل صارت حاضرة في كافة إعلانات تأسيس الفروع الإقليمية للقاعدة.”
يشير الباحث أبو هنية إلى أن التنظيم منذ تأسيسه باسم “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” عام 1998 يركز على أن فلسطين قضية مركزية، وأن المدخل لفلسطين هو بلاد الشام “درة تاج القاعدة” والتي تخلق ملاذات آمنة للقاعدة في محيط فلسطين، كما يركز على أن الشام أيضًا أرض الملاحم آخر الزمان للمواجهة الحتمية ضد إسرائيل.
وبالتالي -حسب أبو هنية- فتنظيم “حراس الدين” يراهن بأن المرحلة الانتقالية السورية هشة ومؤقتة الاستقرار، لأن نزع سلاح الفصائل ليس مسألة هينة، كما أنه يعلم أن الإدارة الجديدة قبلت اشتراطات دولية على محاربة الإرهاب والتنظيمات المتشددة من تنظيم داعش والقاعدة وحراس الدين وغيرها من التنظيمات العابرة للحدود والتي لديها بنك أهداف عالمية، عكس تحرير الشام التي ركزت على الإطار الوطني السوري.
لا أسباب خفية لحلّ التنظيم
مع التحولات الجذرية التي عصفت بالتنظيم، فإن النكوص الذي شهده في بداية عام 2021 كان كافيًا لتقهقر قوته وتجميد نشاطه، فبقايا مقاتلين مبعثرون، وخلايا متفرقة هنا وهناك، دون أي تمويلات كافية، أو مقرات، أو أسلحة ثقيلة ومتوسطة، ودون قيادة مركزية، في ظل الخوف والحذر دومًا من أعين طائرات التحالف الدولي التي تراقب تحركاتهم وتقتنص الفرصة المواتية للانقضاض عليهم.
في حديثه لـ”نون بوست”، يشير طارق عزيزة، باحث سياسي سوري مهتم بدراسة الحركات الجهادية، إلى أنه طيلة السنوات السابقة، كان علاقة التنظيم مع قيادة الهيئة سيئة، إضافة لتلقيهم ضربات أمريكية متكررة، ما يعني أن التنظيم لم يعد قادرًا على الاستمرار والبقاء مع كل تلك الخسارات على مستوى الكوادر والقيادات والموارد، لذلك جاءت هذه اللحظة كتحصيل حاصل للحالة التي وصل إليها التنظيم، لتجنب أي مواجهة عسكرية ضد السلطات الجديدة.
مضيفاً، أن لا أسباب خفية لنشر بيان “حراس الدين” لا سيما وأنه في الأيام القليلة الماضية كان هناك تركيز من الإدارة السورية الجديدة على مسألة حل الفصائل كلها، وعدم وجود أي سلاح خارج الدولة، فمن باب أولى أن تكون هذه الخطوة في معاقلها القديمة في إدلب وريفها حيث ينتشر التنظيم.
ويرى الباحث عزيزة، أن زوال هذا التنظيم من المشهد السوري يصب في توجهات الإدارة السورية الجديدة في مسألة منع وجود تنظيمات تشكل أي خطر ينطلق من الأراضي السورية تجاه أطراف خارجية.
كما سيخدم توجهاتها المعلنة في محاربة الإرهاب، لا سيما أن حراس الدين يعتبر أبرز من تبقى من التنظيمات التي تعلن ولاءً علنياً لتنظيم القاعدة، ما يعني أنه يشكل خطراً معلناً أو عدواً واضحاً وصريحاً للغرب والولايات المتحدة خصوصاً، حسب عزيزة.